• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

البطالة الفكرية

البطالة الفكرية

 

هل سمعت عن ظاهرة "التشرنق على الشهادة الجامعية"؟! إنها ظاهرة معروفة لدينا نحن أبناء هذا العالم، وهي تحظى بجمهور غفير من مختلفة الطبقات الاجتماعية، والتخصصات الوظيفية التي نال أصحابها يوماً ما شهادة التخرج من الجامعة. وحتى نفهم طبيعة الظاهرة والمناخ العام الذي كان سائداً في تلك البيئة التي أفرزت هذه الحالة السلبية المحزنة، علينا أن نتذكر طريقة تعامل هؤلاء الأفراد أثناء سنوات الدراسة الجامعية مع الكتب والمذكرات التي رافقتهم طيلة الفترة الزمنية التي مكثوا فيها على مقاعد الدراسة. لقد كانت العلاقة بين الطرفين علاقة ضعيفة، ومتوترة، ولا تحكمها القوانين السائدة بين العلاقات الأكثر ترابطاً ومتانة!! فالتأفُّف من كمية الأوراق التي تصاحب كل مادة دراسية مقرَّرة، والاستياء من البحوث التي يطالب بها أساتذة المواد، هي طقوس يومية مارسها مثل هؤلاء الطلبة كنوع من التعبير عن رأيهم فيما بين أيديهم من واجبات رأوها ثقيلة وباهظة التكاليف!! لقد أعطت الحياة فرصة لا تقدر بثمن لمئات الآلاف من الطلبات والطالبات، حين تزامنت مرحلة الشباب مع مرحلة التخفف من أعباء الحياة، وتوفر الوقت للدراسة والتحصيل العلمي في سنوات المرحلة الجامعية، ولكن كأي شيء ثمين يتبخَّر ويختفي بين يدي من لا يعرف القيمة الحقيقية للشيء الذي يملكه تسربت تلك السنوات، التي كان ينبغي أن تكون خصبة وغنية ليُفضي أمر الطلبة في نهاية تلك الفترة الزمنية إلى نيل معدل دراسي بسيط، لا يدل على الإطلاق على أن ذلك الخرِّيج كانت له جولات موفقة مع الكتاب والمكتبة الجامعية. وشيئاً فشيئاً نما جدار ثلجي لا يمكن اختراقه بين هؤلاء الأفراد وبين عالم المطالعة.. ولقد تكون الجدار منذ سنوات الطفولة حين اختفى الكتاب من حياة الأسر التي لديها مثل هؤلاء الأفراد، فكان يكبر مع الزمن، واستمر – مع الأسف الشديد – لدى الكثيرين إلى مراحل عمرية متقدمة دون أن يستطيعوا إذابة ذلك الجليد المتكوِّن عبر السنين الطويلة، أو يفعّلوا تلك العلاقة التي يشوبها الهجر والنسيان، ويلون علاقتها باللون الباهت بكل ما له صلة بالبحث والسياحة العلمية!! ولكون المهارات لا تكتسب إلا من خلال الممارسة والتدريب والتواصل، فقد تفشّى الجهل مع مرور الزمن بأساليب القراءة الفعَّالة، بطرق المطالعة الصحيحة، وبات في تصوِّر البعض أنّ القراءة حكر على العباقرة وحدهم، أو على أقل تقدير حكر على أناس لديهم قدرات ذهنية متقدمة، أو لديهم جينات وراثية سهَّلتْ لهم اكتساب القدرة على السياحة بين الكتب، والتجوال بين الصفحات والأوراق. وبهذا الفهم القاصر، والرأي الخاطئ ضاعف هؤلاء من المساحة التي تفصل بينهم وبين العلاقة بالكتاب. أنّ التفسير المنطقي لحالة الخصومة مع الكتاب لا يتأتى بهذا الشكل الناقص الذي يغفل السبب المباشر والرئيسي وهو أن هؤلاء الأفراد لم "يتمرنوا" منذ الصغر على مزاولة القراءة، ولم يتدربوا على اقتطاع جزء من أوقاتهم يومياً أو أسبوعياً على أكثر، تقدير ليقلِّبوا صفحات الكتب، ويقوموا برحلة في عقول كتابها، ويمارسوا هذه الهواية كعادة سلوكية، وليس كواجب إجباري، أتى عن طريق المدرسة لا غير(1). ولأنّ الإنسان عدو ما يجهل، وهو أيضاً عدو ما يراه صعباً، وكلا الأمرين وجهان لحالة شعور الإنسان بالعجز أمام تحدٍ يراه في مخيلته أكبر من أن يتجاوزه ويتخطاه، فقد كان من الطبيعي أن يكون هناك شيء من الخصومة "غير المفتعلة"، ولكنها "خصومة واقعية"، أفضت إليها حالة تعطيل القدرات الذهنية في السير في هذا الاتجاه منذ مرحلة الطفولة، نتيجة غياب وعي الأسرة بأهمية تكوين عادة المطالعة منذ السنوات الأولى للفرد. وفي حين يعي الجميع أهمية أن يتدرب "اللاعب الرياضي" تدريباً مستمراً متواصلاً لكي يتمكن من تحقيق نتيجة مرضية، يصعب على بعض العقول أن تتصور أنّ التدرّب على المطالعة منذ الصغر، يهيئ الفرد حين يصبح على أعتاب المرحلة الجامعية ليكون مشروعاً مذهلاً لقارئ محترف، ولباحث من الطراز الأوّل، ولطالب غير عادي ينجز آلاف الصفحات من القراءة والبحث، وهو سعيد مبتسم بالصحبة الفريدة والعلاقة الوثيقة مع عالم المعرفة والبحث. إنّها معادلة صحيحة، وقسمة عادلة، فالبدايات المبتكرة في صحبة الكتاب تؤدي إلى نتائج نوعية، والغفلة عن تلك البداية تؤدي إلى حالة "التشرنق على الشهادة الجامعية"(2). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ - الهوامش: (1) في محاولة موفقة قام بها الدكتور بدر محمد ملك والدكتورة لطيفة حسين الكندري لإعادة قراءة التراث وفق رؤية عصرية، وقفت على كتابهما: تراثنا التربوي ننطلق منه ولا ننغلق فيه، الذي لاقى استحساناً من الأوساط العلمية والبحثية في الكويت وخارجها، ولعل مشروع "المهارات الحياتية" الذي بدأ قبل عامين في مدارس الكويت هو ثمرة بحثهما الرصين حول التعليقة التعليمية. للاستزادة حول التعليقة التعليمية التي تعد الحلقة الغائبة في أنظمتنا التعليمية بالعالم العربي في عصرنا، اقرأ: كتاب تراثنا التربوي. (2) حول اكتشاف أكفأ الطرق لتنمية عادات المطالعة الفعالة، اقرأ لبنرنيس كلينان كتابها: تنشئة الأطفال على حب القراءة (1997م) مكتبة كنوز المعرفة: جدة، ترجمة: د. سعيد محمد بامشوش. المصدر: كتاب في سبيل التغيير

ارسال التعليق

Top