• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإعتدال تحت ظل التوفيق الإلهي

الإعتدال تحت ظل التوفيق الإلهي
تشير هذه المقالة إلى زوايا الاعتدال المختلفة مؤكدة على انّ الخلافات هي مولودة عدم الاعتدال والتطرّف وإذا استطعنا ان نقضي على هذه الميزة السيئة في المجتمع الإسلامي نصل إلى الوحدة والإنسجام والتعاطف والتوادّ بين أبناء آدم.   - التعاريف: جاء الاعتدال لغةً بمعنى "التوسط بين حالين في كمّ أم كيف أو تناسب". والاعتدال في الطبيعة يطلق كيف يكون الليل والنهار فيه واحد أي اليوم الأوّل من فصل الربيع واليوم الأوّل من فصل الشتاء! قد استخدمت في الثقافة القرآنية كلمتا "القصد" و"الوسط" لإيصال معنى الوسطية والاعتدال. "اقتصد في أمره يعني: توسط فلم يُفرّط ويفرط ويقال اقتصد في النفقة يعني لم يسرف ولم يقتر" لذلك ثلاث مفردات: الوسط، القصد والاعتدال لها معنى مشترك واستعمال محاذي. بمعنى الحد الوسط في المنهج والتصرفات وردود الأفعال وفي اللغة العربية حلت مفردة "التوازن" محل الاعتدال. استعملت مفردة أخرى في الأدب القرآني وهي "معروف" حيث تكرّر في آيات شتّى وبمعنى: "الشيء الذي يعرف العقل انّه لا جوز فيه ولا جنف" و"ما يحسن في الدين والمروّة" و"بما يعرفه أهل العرف" و"ما يستحسن من الأفعال" و"النصفة".   - الضرورة: رغم القيام بتخصّص الفروع وتبويب الأبحاث في المجالات المختلفة وتخصيص كل باحث بمجال خاص هو إبداع علمي جامعي وأخذ بعين الاعتبار خلال نصف القرن الماضي، لكن دراسات ما بين الفروع منذ عشر سنوات تعتبر سداً حيال الافراط في فكرة وضع العلوم تخصيصاً. وقد حصل هذا الاتجاه الجديد على مكانة خاصة للدخول في مجالات مختلفة سيّما حول المواضيع ذات الصلة بالعلوم الإنسانية لأن مجالات التفكير لها جذور متحدة. وقد وضعت مواضيع هامّة في مجال العلوم الإنسانية والتجريبية في قائمة دراسات الفروع كـ: العلاقات، علم السلوك الاجتماعية، نانوتكنولوجيا والطاقة النووية. اليوم مواضيع الدراسات بين الفروع يبدو أكثر ضرورةً من سائر العناوين الدراسية. موضوع الاعتدال له دور هام ومتمايز في جميع المواضيع العلمية والتجريبية والنظريات والتصرفات العلمية. نستطيع أن ندّعي: هذا العنوان هو من مفاهيم بين الفروع الذي له أعلى مستوى التغطية والشمولية بالنسبة إلى مجالات مختلفة. إضافة إلى الدور الأساسي والمتفاعل الذي يؤديه في جميع المجالات في موضوع الوحدة التي تعتبر رمزاً للحياة وقدرة المجموعات والمكاتب. يعتبر الاعتدال والوسطية ضمان الاستقرار والثبات فيها. بينما لم يهتم بموضوع التعادل في البحوث ذات الصلة به وعلى هذا تقديم البحوث العلمية وطرق العمل بها يبدو ضرورياً. انّ الدراسات أجريت من قبل حول الاعتدال والوحدة عالجت هذين الموضوعين مستقلاً عن بعض ولم تتحدث عن الانسجام والتأثير المتقابل لهذين الموضوعين.   - مكانة الاعتدال: ما هي مؤشرات تحديد أهمية ومكانة الاعتدال؟ المصيرية التعلم في المجالات الفكرية والعملية المختلفة؟ التأشير في الحصول على المنافع المادية لشق الطريق لمجال الفضائل المعنوية؟ اهتمام كبار الرجال به؟ إن كان كل منها مؤشراً لذلك فالاعتدال يكتسب الرتبة الأولى. والآن نتطرّق إلى معالجة هذه المؤشرات: 1- عنصر التفوق الفرد والمجتمع: يعتبر القرآن الكريم أصحاب النبي (ص) خير أمة: "كنتم خير امة أخرجت للناس". وفي آية أخرى يصف هذا المجتمع المتفوّق: (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة/ 143)، وهكذا يوفّر الانسجام ما بين "الوسطية" و"التفوّق" في نظام المجتمع وتقييمه. يقول النبي (ص) في رواية: "رحماء أمتي أوسطها" أي أنّ الله يرحم المتعادلين أكثر من الآخرين. تثبت دراسة ميدانية وتاريخية هذا الاستنتاج بأنّ المتطرّفين والمتهاوين يواجهون مشامل ومضايق دائماً والتفوّق هذا رهين الاعتدال في الأعمال. 2- عنصر البقاء والنجاح: الأفراد والمجتمعات المتطرفة لا تنيل النجاح والتفوّق بل انّما البقاء والنجاح للذين يختارون الاعتدال في سياستهم الفائقة. في ثقافتنا الدينية يحصل الاختيار الأصح للدين بتوفيق من رب العالمين ولذلك يقول النبي (ص): "إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نما أرزقهم القصد والعفاف". وهذا بمعنى أنّ البقاء والرفاهية رهين الاعتدال ويُحقق التعادل تحت ظل التوفيق الإلهي. في فترة الحج وفي حين رمى الجمرات أخذ النبي حجراً متعادلاً ومناسباً بيده وأراه الأصحاب وقال: إختاروا هكذا لا أكبر ولا أصغر مضيفاً: "إياكم والغلو  فإنما أهلك من كان قبلك الغلو في الدين". 3- عنصر نجاح القادة السماويين: لا يوجد ما بين القادة السماوية نبي الرحمة أو نبي الغضب فحسب بل انّما في الآيات الكريمة يشار إلى تعادل الأنبياء في منهج ابلاغ الرسالة. يقول سبحانه وتعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (الأنعام/ 48). إنّ إبداع الخوف والرجاء يعتبر أعلى ابداع فني وإداري للقادة السماويين حيث اتّخذ الاعتدال بعين الإعتبار. يقول الإمام علي (ع) في وصف النبي الأكرم (ص) ومنهجه: "هدى إلى الرشد وامر بالقصد". نجد في خطاب النبي (ص) يقول: "أيها الناس عليك بالقصد عليكم بالقصد، عليكم بالقصد"، تكرار رسالة واحدة في جملة واحدة تدلّ على أنّ الخير والنجاح يحصلان عن طريق هذا المفهوم.   - منشأ عدم الاعتدال: في العشرات الأخيرة ومع تطور العلم وجد باتالوجيا ومعرفة الإصابات أهمية فائقة سيّما في تشخيص وعلاج الأمراض الجسمية والروحية وهو الخطوة الأولى لمعرفة جذور الأحداث، عناصرها وكيفية مواجهتها. لاشكّ أنّ التطرف وعدم الاعتدال مرض روحي ولابدّ من معرفة جذورهما ومن ثمّ علاجها. لماذا بعض الناس يصيبون بالافراط والتفريط؟ تارةً في قمة الغضب وتارة في أوج الرحمة، تارة مأيوس وتارة فرحان. تارةً أشجع الناس وتارة أخوفهم! ما هي جذور هذا المرض؟ 1- الجهل: إنّ قلة المام الشخص بإبعاد قضية تسوقه إلى اختيار موقف مختلّ التوازن. نحن للتخلّص من طرفي الإفراط والتفريط يجب ألا نتّخذ قراراً وموقفاً قبل أن نطلّع على الزوايا المختلفة للقضية. إذا قام قاض باصدار حكم قبل ملاحظة ادّلة المتخاصمين وإن كان حكمه صحيحاً لا ينطبق مع موازين القسط والعدل. فالجهل يزيد في اختلال التوازن لقراراته الشخصية. لأنّ الشخص المثقّف ربما يتخذ قراراً غير متوازن دون الإطلاع على ابعاد القضية وفي هذه الحالة مجرد نقل المعلومات الصحيحة يجب أن يقوم بتصحيح وتعادل القرارات. وأحياناً يجسّد الجاهل الافراط في جميع قرارته وذلك بسبب نفسيته المتطرفة والحرمان من المستوى الفكري والعلمي المناسب. وفي هذه الحالة نقل المعلومات لا يستطيع ان يسوقه إلى الاعتدال بل انّما رفع المستوى الفكري والعلمي المناسب هو ضمان لإزالة هذه المشكلة. روى عن النبي (ص): "من فقهك رفقك في معيشتك" ويقول الإمام علي (ع) في هذا المجال: "لا ترى الجاهل إلا مفرِطاً أو مفرِّطاً". 2- القدرة: الثقة بالنفس ميزة إيجابية بحاجة إلى التعادل والتنظيم. وبمجرد خروجها عن الاعتدال والوصول إلى القدرة يشكّل منبتاً للافراط أو التفريط في سائر زوايا الحياة حيث يصيب الإنسان بالتأرجح روحياً وإدارياً. يقول الإمام علي (ع): "ينبغي للعاقل أن يتحرّص من سكر المال وسكر القدرة وسكر العلم وسكر المدح وسكر الشباب فإن ذلك رياحاً خبيثة تسلب العقل وتستخف الوقار". نجد في هذا الكلام الحكيم أن جنون الثروة والقدرة والعلم والمدح والشباب تخلق موجة عارمة في نفس الإنسان حيث تسقط الاعتدال العقلي والفكري وتسلب منه الوقار والطمأنينة. ولذلك على كل القادرين والمفكرين والحائزين على الجوائز والرتب العليا والشباب أن يراقبوا ويتّخذوا موقفاً دفاعياً مناسباً حيال هذه الموجه العارمة لكي يوفروا ظروفاً متعادلة لأنفسهم. قال الإمام علي (ع) في حديث آخر: "التفريط مصيبة القادر" والقادرون يفرّطون في شؤونهم ويضيّعون الفرص ويحولونها إلى الآخرين ارتكازاً على قدرتهم. 3- عدم الهوية: الإصالة والهوية عبارة عن مفهوم بسيط فيه آلاف من النقاط. لو انّ الإسلام يركّز على الجذور العائلية ونسب الأفراد لإحراز بعض المهام فهذا ليس بمعنى ازدراء الذين وُلدوا في عائلة لا تتملّك هوية معتبرة بل انّما هو يشير إلى تأثير هذه الإصالة والهوية في تكوين الشخصية وتوجهاتها الداخلية. يقول الإمام علي (ع) كأمير الكلام والبيان وخبير التربية والكرامة في جملة ذي كلمتين: "المعروف حسب".   - افرازات عدم الاعتدال: لاشكّ انّ التحمّس والكآبة يعرفان كمرض ولا أحد يرضى عنهما لكن معرفة خسائر المرض السلبية تؤثر في علاجه حيث تُجبر المريض على البحث عن حلول العلاج. ولذلك يجدر بنا ان نعالج خسائر واضرار عدم الاعتدال: 1- البعد عن الهدف: جميع الناس طوال حياتهم يبحثون عن هدف مشترك وهو عبارة عن الحصول إلى قمة الكمال! وان كانت هناك خلافات في تحديد نقطة الهدف وطريق الوصول إليه. انّ غير المتعادلين لأجل اتجاههم الواحد نحو قضيتي الروح والجسم أو الاتجاه المتطرّف نحو الروح المعنوي أو الجسم المادي يسمّون نقطة الخطأ هدفاً لهم. أو بعد تحديد الهدف لأجل المنهج غير المتعادل لا يستطيعون الوصول إليه. فلذلك الاتجاهات المتطرفة إمّا لا تتعلّق بالهدف الصحيح من البداية وإمّا بعد اختيار الهدف يسيرون في طريق الضلال. على هذا انّ المسلمين يطلبون من الله على الأقل عشر مرات يومياً أن يهديهم ويساعدهم للتحرّك نحو الهدف المتعالي. يقول الإمام علي (ع): "اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة عليها باقي الكتاب وآثار النبوة"، والذين بُعدوا عن الصراط المستقيم كلّما يتحرّكون بسرعة يبتعدون عن الهدف أكثر فأكثر وحسب تعبير القرآن الكريم هم "أخسرين" يظنّون ان سرعة تحرّكهم تُسهّل وصولهم إلى الهدف بينما هذا الظنّ الخطأ تزوير النفس وينعكس نتيجة ضدّ الهدف لأنّ التجربة والبرهان تثبت انّ الشيء الذي إذا جاوز حدّه انعكس ضدّه. وهذه القاعدة تشتمل أيضاً الشؤون الإيجابية كالعدالة والحكمة والشجاعة. لأنّ العدالة المفرطة تؤدي إلى الانظلام كما انّ العدالة المفرّطة تؤدي إلى الظلم. الحكمة المفرطة تنتهي إلى البلاهة والتفريط فيما تسبّب الخوض. والشجاعة المفرطة تسفر عن التهوّر، والتفريط فيها تؤدي إلى الخوف. والتواضع المتطرّف بمعنى الذلّة والتفريط فيه ينتهي إلى التكببّر. الإيمان المتطرف يؤدي إلى الغلو والتفريط فيه يسبّب الكفر. انّ الدم كعامل حياتي إذا يُحقن في جسم المريض أكثر ممّا يلزم يؤدي إلى وفاة المريض والماء الذي مبدأ للحياة إذا استعمل بدون تعيين الكميّة يزيل الحياة ويسفر عن الموت. أفتى الفقهاء المسلمون: "الناصب كالغالي في الكفر والخروج عن الإيمان". كما قالوا: "لا تصل خلف الغالي وإن كان يقول بقولك"، القصد من الغالي هو الذي يقدّم وصفاً عن القادة حيث القادة لا يقبلونه كتصوّر مكانة النبوة أو الألوهية لهم. عادة في علم الرجال للفرق الإسلامية المختلفة جرّاء تعريف شخصية متطرفة (الغالي) يضاف إليه لقب الملعون. وهذا بمعنى بعد الاتجاه المتطرف عن طريق الهداية والحقيقة. 2- الانفعال والحسرة والندامة: إنّ الانفعال مصير محترم وطبيعي للذين يفرطون لأنّ الاعتدال والوسطية ناجم عن الحقيقة الإلهية والدوافع الإيمانية حيث لا يوجد فيه الندامة والشعور بالخسارة وينتج الطمأنينة والسكون والحصول على الهدف. ولكن في الاتجاهات المتطرفة البعد عن الهدف ومواجهة ضده يؤدي إلى إزالة الطاقات ورأس المال ويواجه صاحبها الفشل والانغلاق الروحي والانفعال. 3- التفرقة والحرب الداخلية: إنّ التيارات المتطرفة طوال التاريخ كانت ولا تزال مولد التفرقة والخصومة وتمهد أرضية الحروب الدامية. تنشأ الاعتداءات غير الإنسانية من الإفراط أو تعود إلى الافراط في التوجهات المادية وعدم التوازن في التعلق بالقدرة والمقام. استعمل هذا النوع من الإفراط في الثقافة القرآنية "الاعتداء" و"الطغيان" ويحّر منه دائماً. انّ الإفراط هو عامل جميع الحروب الداخلية (التي اسوأ من الحروب الإقليمية والدولية وتمهّد الأرضية لها). نرى انّ الوحدة والتآخي في قلب التعادل والوسطية نقطة عكس لمفهوم الإفراط والاعتداء السيء. لتوفير التضامن والانسجام في الجمعية التي بعض أفرادها يسرعون في المشي وبعضها يتخلّفون يجب إيصال الأفراد إلى الاعتدال والوسطية. وبشأن توفير الوحدة والتضامن في الأُمّة الإسلامية هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يتخذه المفكرون في شتّى أنحاء العالم وعلى كل المسلمين أن يكونوا على حد ما قال سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة/ 143)، لتنتهي كل التوترات والاشتباكات لكي لا يستطيع العدو أن يدخل صفوف المسلمين.   - آثار التعادل: متابعة لتذكير آثار عدم التعادل قبل تذكير الأبعاد المختلفة لهذا المفهوم الواسع ننظر نظرة عابرة إلى الآثار الإيجابية للاعتدال والوسطية وهي عبارة عن: 1- الوحدة والتضامن: أينما يدور الكلام حول الوحدة فالبعض يسأل علام نتّحد؟ تلخّص كيفية الوحدة وغايتها في مفهوم وهو الوقوف على نقطة الاعتدال. ان ازيلت التيارات والاتجاهات المتطرفة وان نرضي بما يرضى الله (الدين الوسط) فلا يبقى خلاف. انّ النبي (ص): "عليكم بالاقتصاد فما افترق قوم قط اقتصدوا". 2- السلامة والأمن: خلافاً لتقييم بعض الناس (الذي ربّما يتكوّن من الزاوية الافراطية) انّ الحركة على الصراط المستقيم دون الانحراف إلى اليمين واليسار لن تكون مذمومةً وغير قابلة للانكار بل انّما الدلالة العقلية والمعالجة العرفية تؤيد سلامتها. يقول الإمام علي (ع): "مَن أراد السلامة فعليه بالقصد" ويقول في مكان آخر: "من ترك القصد جار" كما يقول: "من أخذ القصد حمدوا واليه طريقه وبشروه بالنجاة" وفي خطاب آخر يعتبر غاية طريق الإفراط الجهنم قائلاً: "النار غاية المفرطين". 3- البركة والتخصيب: تعيين الكمية في شؤون الحياة واتخاذ منهج الوسطية سيما في القضايا المادية يستطيع أن يكون عاملاً للبركة والخلود ويؤدي إلى التخصيب والنتيجة في الاجراءات الدنيوية والأخروية واهمال القدر المطلوب في الشؤون، يزيل البركة ويختل التخصيب. يقول النبي (ص): "من اقتصد اغناه الله ومن بدّر افقره الله" وقد اثبت بالتجربة انّ استعمال آلة مادية بصورة متعادلة يزيد عمرها ويضاعف نتائجها بينما الافراط والتفريط في استعمالها يقلّل مستوى افادتها. كما انّ التعادل في تنظيم العلاقات مع الأفراد أو المجموعة يضاعف عمر العلاقات وبركات علاقتها والإفراط والتفريط فيها يسوقان هذه الحصيلة إلى المشاكل والتحديات.   - أبعاد الاعتدال: إنّ الإسلام رمز للتوجه المعتدل وقام في وجه التظاهر المسيحي ودراسة الباطن المتطرفة لليهود وطرح نظرية الاعتدال في الاهتمام بالظاهر والباطن ووسّعه في جميع شؤون الحياة. جاء في القرآن الكريم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) (آل عمران/ 67)، والحنيف هذا بمعنى المستقيم والمعتدل ويقدّم إبراهيم (ع) هذا المنهج إلى أقربائه كحصيلة علمية جديدة قائلاً: "يا أبت اني قد جاءني من العلم مالم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً". والنبي (ص) من ضمن الدعوة إلى الاعتدال يعتبر مصائب الأُمم الماضية نتيجة الإفراط ويقول: "إياكم والغلو في الدين فإنّما أهلك من كان قبلكم أغلو في الدين". هذا التوجه الأساسي الذي يكوّن قسماً من شخصية المسلمين له حضور ومعنى في جميع المجالات وحتى يُقيّم في مفهوم الاعتدال، عنصر الكمال والسلامة. والآن نتطرّق إلى معالجة أبعاد الاعتدال الذي اتّخذ بعين الاعتبار في التعاليم التربوية الثقافية للإسلام وهي كما يلي: الاعتدال في التوجه إلى الدنيا والآخرة: يقول القرآن الكريم في هذا المجال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، ونقرأ في رواية: يقول لقمان لولده: "يا بني لا تدخل في الدنيا دخولاً يغير بآخرتك ولا تتركها تركاً تكون كلاً على الناس". روى عن النبي (ص) قال: "أعظم الناس همّاً المؤمن يهتمّ بأمر دنياه وآخرته". الاعتدال في الرجاء إلى الله: يقول الله سبحانه وتعالى في التوازن بين الخوف والرجاء: (يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر/ 9)، ونقرأ في رواية: "خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف" ويقول لقمان (ع) لولده: "يا بني كن ذا قلبين، قلب تخاف الله خوفاً لا يخالطه تفريط وقلب ترجوا به رجاءاً لا يخالطه تغرير". الاعتدال في العبادة: يقول سبحانه وتعالى: (لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء/ 110)، يقول النبي (ص): "ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليعقد". جاء في رواية أخرى: "دع الطواف وانت تشتهيه" وفي الفقه الإسلامي فُتح باب تحت عنوان "عدم جواز الافراط في اطالة صلاة الجماعة" حيث يوصى أئمة الجماعات، اختيار منهج الوسطية مستدلاً بروايات أئمة الدين المختلفة. الاعتدال في الكلام: يقول الله عزّ وجلّ: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5)، وجاء في رواية أخرى: "الإكثار يزلّ الحكيم ويملّ الحليم فلا تكثر فتضجر وتفرط فتهن" وجاء في كلام آخر: "الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل". رغم أنّ الشعراء يكرّمون في الثقافة الإسلامية لكنا نجد في الكتب الفقهية باباً تحت عنوان: "كراهية الإفراط في انشاء الشعر" حيث يُوصى بالاعتدال في خلق الأثر الفني والأدبي. الاعتدال في الوعظ: يوصى الوعّاظ ومرشدوا الأخلاق برعاية الاعتدال في وعظهم. يقول النبي (ص): "ادعوا الناس وبشّروا ولا تنفروا ويسرّوا ولا تعسروا" ويقول علي بن أبي طالب (ع) في حديث آخر: "الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يؤمنهم من مكر الله". عدم تعيين كميّة الانتقاد والتضحية من منظار علم النفس ينتجُ اللجاجة والنفرة ويؤدي إلى ردّ فعل سيئ من قبل المخاطب. جاء في رواية: "الافراط في الملامة يشب ميزان اللجاجة". الاعتدال في الصدامة واللين: إنّ جمع الأصول التي يقدّمها الإسلام كمناهج إدارية يستطيع أن يكون أسوةً ونموذجاً للإدارة الناجحة. منها رعاية الاعتدال والوسطية في الصدامة ومرافقة الموظفين حيث عُبّر عنه بـ"حزماً في لين". روى عن النبي (ص): "انّ المؤمن تراه، قوة في دين وحزماً في لين". جاء في نفس المضمون بلسان المناجاة والدعاء: "اللّهمّ اني اسألك حزماً في لين". الاعتدال في الخصام والتصالح: يقول القرآن الكريم: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة/ 229)، وجاء في رواية عن علي بن أبي طالب (ع): "احبب حبيبك هوناً ما... وابغض بغيضك هوناً ما". الاعتدال في النفقات والانفاق: يقول القرآن الكريم: (لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29)، وفي آية أخرى جاء حول كيفية دفع نفقات الزوجات: "على المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف" وقال النبي (ص): "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة". الاعتدال في الأناقة والسذاجة: فانّ النبي (ص) نهى ان يلبس الثياب الحسنة التي ينظر إليه فيها أو الدنية أو الرثة التي يُنظر إليه فيها وقال أمراً بين الأمرين وخير الأمور أوسطها". الاعتدال في تربية الأولاد: جاء في رواية حول الإدارة التربوية للأولاد: "شر الآباء من دعاه البر إلى الافراط وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق". الاعتدال في التعامل مع الزوجة: القرآن الكريم يدعو الجميع إلى رعاية الاعتدال في التصرفات مع الزوجة وذلك باستعمال كلمة "المعروف" في الآيات المختلفة: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 19)، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة/ 228). يؤكد القرآن الكريم على رعاية الإعتدال في العيش المشترك وفي دفع المهر وتوفير الأغذية والحوائج اليومية وتنظيم منهج الحياة. الاعتدال في المزاح: لاشكّ انّ الفرح والمزاح يعتبران من عوامل الإفادة والاستغلال في العمل وبالمقابل المزاج البارد يؤدي إلى الانكماش والتباطؤ في العمل ولكن وُضع حدّ له في النظام التربوي الإسلامي. يقول محي الدين النووي في هذا المجال: "المزاح بحق ولكن لا يكثر منه فإنّ الإفراط فيه والإكثار منه مذمومان". يعتقد الفقهاء الإسلاميون "تردّ شهادة من افرط في المزاح والحكايات المضحكة". الاعتدال في الزهد والتقوى: بعض الناس يتّجهون نحو الدنيا بالتحمّس والحب ولا يعرفون إلا الشهوة واللذة والرفاهية في التمتعات الدنيوية والبعض يختارون العزلة والتبتّل. انّ الإسلام نظّم توجّهاً متعادلاً في هذا المجال ويستنكر كلتا حالتين (الافراط والتفريط). يقول سبحانه وتعالى للنبي (ص): (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) (التحريم/ 1)، ويقول النبي (ص): "اما والله أني اتقاكم لله وأخشاكم له لكنّ أصوم وافطر وأصلّي وارقد واتزوّج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". قال علي بن أبي طالب (ع) لعاصم بن زياد الذي اختار العزلة والجلوس في الصومعة تاركاً التمتعات الدنيوية: "أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره ان تأخذها".

ارسال التعليق

Top