• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لابـد من عبوديـة

أسرة البلاغ

لابـد من عبوديـة

  ◄"ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كلّ شيء قدير".

 إذاً لابد للإنسان من معبود في حياته تخضع له ذاته، وتتجه نحوه إرادته، لأنه لابد للإنسان في حياته من باعث على الفعل والسلوك الذي يختاره في الحياة، ولابد له من غاية يتوجه إليها في حياته، فتكون هي القوة المحفزة له على إتيان الأفعال والنشاطات، وهي الغاية والمنطلق في كلّ فعل يختاره أو يرفضه، فيكون ذلك المبدأ وتلك الغاية هي معبوده وإلهه – وإن لم يقل هي إلهي – الذي يتوجه إليه بكل أفعاله... وتتعدد هذه الغايات والمنطلقات حسب وعي الإنسان واختياره، فقد يكون معبوده (الله) سبحانه وتعالى، وقد يكون هواه، قال تعالى " أرَأيتَ مَن اتخذ إلهَهُ هَوَاهُ أفأنتَ تكونُ عَليهِ وَكِيلاً " (الفرقان/ 43).

وقد يكون الطاغوت، فإن كانت غايته ودوافعه إلى العمل هو الله سبحانه وتعالى، كانت عبوديته لله وحده، أما إن كانت الغاية والدافع هي غير الله، كانت عبوديته إلى ذلك الشيء الذي يسيطر على تفكيره ومشاعره وأعماله.

ويمكننا على هذا الأساس أن نصنف عبودية الإنسان الاختيارية إلى عبوديتين:

    1- عبودية مخلصة لله : وهي العبودية القائمة على الإخلاص لله في كلّ فعل وعمل يصدر عن الإنسان، بحيث يكون التوجه إلى الله سبباً لكل فعل، وغاية في كلّ عمل، لا يرجو الإنسان غير مرضاة الله، ولا يتحفز إلا بحافز حب الله، سواء في صلاته وصومه، أو في علاقاته بنفسه، كتفكيره ونيته، وأحاسيسه ومشاعره، أو في علاقاته وسلوكه الذي يمارسه في مجتمعه، من أخلاق وسياسة، واقتصاد وقضاء وحب وكره، ورضا وغضب... الخ، وكذلك علاقته بالكون والطبيعة، وبالعالم من حوله، لأن الإنسان المؤمن ينطلق من مبدأ أساسي، وقاعدة فكرية أساسية هي: أن الكون والإنسان ملك لله وحده، ويجب على الإنسان أن يحافظ على خط العبودية ويندمج به، محققاً الإخلاص المطلق لله والصفاء العبودي الخالص من كلّ شائبة تكدر صفو الإخلاص ومحضه، كالنفاق والرياء أو الأنانية والتملق .. الخ. وقد جسد القرآن الكريم روح العبودية الخالصة لله، ووضح طريقها بقوله" إني وَجّهْتُ وَجْهِي لِلذِي فطرَ السّمَاوَات وَالأرْض حَنِيفاً وَمَا أنا منَ المُشركينَ" (الأنعام/ 79).

وعلى هدى القرآن هذا جاءت الآثار المروية عن الرسول (ص) توضح فكرة الإخلاص في العمل والتوجه لله، والتجرد عن كلّ قصد عدى عبادته.

فقد روي أن أعرابياً جاء لرسول الله (ص) يسأله عمن يصنع المعروف، أو يتصدق ويحب أن يحمد ويؤجر، فصمت الرسول (ص) ولم يجب على هذا السؤال حتى نزلت الآية الكريمة جواباً  كاملاً يوضح طريق الإخلاص والعبودية لله وحده: "قلْ إنمَا أنا بَشرٌ مِثلكمْ يُوحَى إليّ أنمَا إلهُكمْ إلهٌ وَاحِدٌ فمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ فليَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشركُ بعِبادَةِ رَبّهِ أحَداً" (الكهف/110).

وهكذا جاء جواب القرآن مؤكداً على اعتبار الرغبة في الحصول على المديح على فعل الخير شركاً لذلك دعا الإنسان المؤمن أن يتحرر من هذا الشرك وهو – إشراك الذات في العبادة مع الله – أو الرغبة في الجمع بين الأجر والثواب من الله تعالى والمديح من الناس في آن واحد ، ويروى عن الإمام علي (ع) قوله : "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ، ولم يحزن صدره بما أعطي غيره".

ويملأ هذا المفهوم إشعاعاً ووضوحاً قول الرسول الكريم (ص) وهو يوضح معنى الإخلاص بقوله: "هو أن تقول ربي الله ثم تستقم كما أمرت، تعمل لله لا تحب أن تحمد عليه" أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك وتستقم في عبادتك كما أمرت.

ومعنى عبادة الهوى هو أن تجعل اندفاعاتك الذاتية ورغباتك الأنانية سبباً لأعمالك من دون الله كحب الظهور وحب المديح، والإعجاب بالنفس، وحب السيطرة على الآخرين، وحب المال أو حب الملذات... الخ.

ولكي تتم العبودية لله، يجب أن نفهم أن معنى العبودية لله هو: "أن تنتظم الذات الإنسانية بخط الإرادة الإلهية وتتطابق إرادة الإنسان مع إرادة الله ومشيئته"، وبغير هذا الإخلاص في العبودية فإنها لن تكون إلا عبودية مشركة كما سماها القرآن الكريم، وهذا اللون من العبودية هو أخطر أمراض التفكير والأخلاق والسلوك على حياة الإنسان المسلم وإيمانه، وهو مرض الازدواج وانقسام الشخصية وضياع وحدتها وأصالتها.

وعندما يبتلى الإنسان بهذا الانحراف فإنه يمارس عبادة الله من خلال دوافع غير مخلصة، فتكون تلك الدوافع شريكة مع الله في العبادة، فالمنافق الذي يحب أن يمدح بفعله وعمله عندما يفعل الخير، أو يؤدي الصلاة أو يحج، إنما هو يعبد ذاته ويتجه إلى تعظيمها من خلال توجهه الظاهري إلى الله، فيكون مشركاً ذاته مع الله، والعالم الذي يكسب العلم ليشتهر ويعرف، والمصلح الذي ينادي بالإصلاح ومحاربة الفساد ليكون زعيماً وقائداً، وصاحب الثروة الذي يساهم بمشاريع البر والإحسان ليدون اسمه ويعرف بين الناس، والآخرين الذين أوقفوا همهم على حب الدنيا وجمع المال واحتكار المنافع والركض وراء الشهوات واللذات المحرمة منصرفين عن ذكر الله، معرضين عن حبه وعبادته والتوجه إليه، فكل هؤلاء وأمثالهم لم يخلصوا العبادة لله، ولم يوحدوه ولم يعبدوه، إنما عبدوا أنفسهم وألهوا ذواتهم، وأرادوا غير وجه الله. ويساوي هؤلاء في الصفة ، أولئك الذين يدعون أنهم يؤمنون بالله ويعبدونه في صلاتهم وصومهم وحجهم، ولكنهم يخالفونه في بقية أعمالهم وسلوكهم، إرضاء لغير الله، أو خوفاً من احد من الناس، فيظلمون ويتسلطون بالباطل، ويتركون الحق، ويسكتون عن الفساد! وكأنهم لم يسمعوا نداء القرآن، ولا يريدون أن يكونوا مع أولئك المخلصين الذين امتدحهم بقوله: " وَاصبرْ نفسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغدَاةِ وَالعَشِيّ يُريدونَ وَجهَهُ " – و " تِلكَ الدّار الآخِرة نجْعَلهَا لِلذِينَ لا يُريدُونَ عُلواً فِي الأرْض ولا فسَاداً وَالعَاقِبة لِلمُتقين" (القصص/ 83).

بَلْ وَضَعُوا أنفسَهُمْ مَعَ الذِينَ قالَ فِيهمُ الكِتاب "اتخذوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانهُمْ أرْبَاباً مِن دُون الله" (التوبة/ 31).

    2- عبودية لغير الله: أصيبت البشرية على مر العصور وتعاقب الأزمنة بمرض الجاهلية الفكري والنفسي الذي هو عبارة عن رفض العبودية لله والالتزام بالخضوع لما سواه من الكائنات والمخلوقات والقوى البشرية والطبيعية، وتأليه الذات والاستغراق في عبادة الملذات والشهوات ويستوي في ذلك المشركون والملحدون الذين لا يؤمنون بالله، والوثنيون الذين يعبدون الأصنام والأسلاف والحيوان والظواهر الطبيعية المختلفة.. فهم جميعاً يتخذون من أنفسهم آلهة يقدسونها، ومن شهواتهم وأهوائهم أرباباً يعبدونها وينساقون وراء دوافعها ونزواتها، وما أدق وصف القرآن لهذه الفئة من الناس حين صورها بقوله " أرَأيتَ مَن اتخذ إلههُ هَواهُ أفأنتَ تكونُ عَليهِ وَكِيلاً" (الفرقان/ 43).

فهذا هو اتجاههم الحتمي بعد أن انحرفوا عن الاتجاه الرباني لأنهم لا يملكون في هذه الحالة المنهج الواضح ولا الشريعة البينة ولا طريق السلوك الإنساني المستقيم، إنما ينساقون وراء شهواتهم وملذاتهم ومطامعهم، فيضعون لأنفسهم القوانين والأنظمة ويفلسفون الحياة حسب أهوائهم. كلّ ذلك بدافع الجهل أو الاستكبار عن عبادة الله فيتخذ الإنسان من نفسه إلهاً في الأرض، بعد أن رفض ألوهية الله وعبادته. وتلك هي بداية المأساة والشقاء الذي عانت بسببه البشرية ألوان الظلم والاستبداد والاستغلال والطغيان وصراع المصالح والشهوات والأنانيات.

وقد أنتجت هذه الاتجاهات الفكرية والنفسية الجاهلية آثاراً اجتماعية وسلوكية خطرة، فاجتاحت البشرية موجة من الظلم والفقر والجهل والاستبداد والاضطهاد، عندما استأثرت الأقلية المتسلطة التي آلت بنفسها بمختلف متع الحياة وملذاتها التي آمنت بها وتكالبت عليها في حين عانت الغالبية العظمى آلام هذه العبودية الجائرة وذاقت ويلات هذا التأليه البشري المزيف.►

ارسال التعليق

Top