• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«أناقة اللسان» ترجمة لأناقة الروح

«أناقة اللسان» ترجمة لأناقة الروح

◄أناقة اللسان هي ترجمة لأناقة الروح، والذين يستخدمون تعبيرات خشنة يحملون بين جوانحهم نفوساً لم يصقلها التهذيب على النحو المطلوب، وإنّ الناس صغاراً وكباراً ينتظرون اليوم من بعضهم المزيد من اللطف في الخطاب، والمزيد من الشفافية والذكاء اللمّاح، وهذا بسبب التقدم الحضاري والعمراني الذي نشهده على كثير من الأصعدة، وهذه إشارات سريعة في هذه القضية:

1- يعتمد الحوار المخملي على التأنق في التعبير بوصفه العمود الفقري له؛ لأنّ المرء من خلاله يستطيع أن يناقش أعقد القضايا، ويطرق أكثر الموضوعات حساسية دون أن يؤذي أحداً، أو يسيء إلى أحد.

جمال التعبير وعفته ورمزيته أدب قرآني وأدب نبوي أيضاً، وما أرق وألطف قول الله -تعالى-: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187)، إن كل واحد من الزوجين هو بالنسبة إلى الآخر أشبه بالثياب التي يرتديها الناس، وفي الثياب معنى الوقاية ومعنى الستر، ومعنى الاقتراب الجسدي، وهذه المعاني الثلاثة لا تتوفر في أي علاقة إنسانية إلا في علاقة الرجل بالمرأة، إنّه التعبير الأنيق الذي يشف عن الحقيقة بطريقة فريدة ومذهلة! وهذا هو نبينا (ص) يدعونا إلى التأنق في اللفظ حين يقول: "الكلمة الطيبة صدقة"، أي: الكلمة الحسنة التي تستلذها الأذن، والخالية من الأذى.

ونهى (ص) عن التلفظ ببعض الكلمات لما فيها من قبح اللفظ، أو لما فيها من إشارة إلى الدونية، ومن ذلك ما ورد عنه أنّه قال: "لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي".

لقس النفس وخبثها شيء واحد، وهو الغثيان، لكنه كره لفظ الخبث، وقال -أيضاً-: "لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكلّ نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي".

إنّ من الواضح أنّه -عليه الصلاة والسّلام- يريد رفع حساسية الإنسان المسلم نحو الكلمات المبتذلة أو ذات الوقع السيئ على الأذن، وذلك بغية رفع مستوى الخطاب الإسلامي كله.

2- تظهر أناقة المحاور في تعليقاته على مجريات الحوار وتصرفات المحاورين: هذه أم تتحدث في إحدى جلسات الأسرة عن انتشار الميوعة بين كثير من الشباب، وتؤكد أن ذلك لم يكن في الماضي بهذه الصورة، فقاطعها أحد أولادها قائلاً: هذا صحيح، لكن كانت هناك انحرافات خطيرة مكتومة، لا يسمح المجتمع بظهورها، وقد علقت الأُم على كلام ابنها بقولها: أعرف أن من حقك أن تدافع عن الشباب أمثالك، ولكن ألا ترى من الأفضل أن يأخذ كلّ واحد منا فرصته كاملة في الكلام؟

هذا أب تحدث عن المثابرة وأهميتها في نجاح الإنسان في الحياة، وحين انتهى من حديثه أدرك أنّ بعض الأطفال الصغار لم يستوعبوا ما قاله، وعوضاً عن القول: أنا متأكد أنكم لم تفهموا بعض ما قلته، قال: والآن قبل أن ننهي اجتماعنا أشعر أنني لم أكن واضحاً بما فيه الكفاية، فهل يمكن أن تشرحوا لي ما فهمتوه مني؟

وهذا واحد من الأبناء ثارت ثائرته على جميع الموجودين من أفراد أسرته؛ لأنّه شعر أنهم متحالفون ضده في اختياره لأحد الأصدقاء، وشعر الجميع أنّه فقد توازنه، والتفت الجميع إلى الأب حتى يتدخل، وفهموا من خلال تعابير وجهه أنه سيقوم بالمهمة، فماذا فعل؟

أ‌-       سمح للولد بأن يفرغ كامل الشحنة الكلامية التي لديه حتى يخفف من شدة توتره العصبي، وحين بدأ بتكرار ما قاله، قال له الأب: أظن أنّ الرسالة وصلت.

ب‌-  قال الأب: طبعاً لا نعتقد أنك تخالف أسرتك في كل النقاط التي ذُكرت، فأرجو أن تحدد ما تتفق فيه مع أسرتك، وما تختلف فيه، وتحدث الولد بما ينبغي.

ت‌-  أنت تقول: إنّ صديقك فلان هو رجل جيِّد، أرجو أن تشرح لنا أكثر، حتى نقتنع معك.

ث‌-  بعد أن تحدث الفتى قال الأب: لي جلسة خاصة معك، وسأذكر لك بعض الأمور التي لا أرى من المناسب مناقشتها الآن ووافق الولد، وقاموا جميعاً إلى الغذاء.

3- في الحوار المخملي يحاول صاحب التعبير الأنيق أن يستخدم الكثير من الملاطفات، ويكون سخياً في الكلمات التي تفيد الاستدراك، والتي تشتت ضغط النقد والملاحظات المباشرة، كما أنّه يثري اللغة الاعتذارية لديه حتى لا يكون جو الحوار كئيباً ومنفراً: إحدى البنات لم تتصل بخالتها المريضة مرضاً خطيراً، ولم تسأل عنها، وقد صارت تتلقى من إخوتها الكثير من اللوم والعتاب على التقصير في أمر مهم كهذا، فماذا كان موقف الأُم؟

قالت الأُم: نحن جميعاً نعرف أهمية عيادة المريض ومواساته، ولاسيّما إذا كان المريض عزيزاً كالخالة، فهي كما تعرفون في مقام الأُم، وأنا أعتقد أن فلانة (ابنتها) لم تتصل بخالتها؛ لأن ذهنها كان مشغولاً بالاختبارات، إنني لا أذكر أن أحداً تحدث أمامها بهذا، ومن الواضح أنّها اليوم لن تتصل بخالتها، ولكن ستذهب إليها، وتقدم لها المساعدة، أليس كذلك يا ابنتي؟ قالت: بلى، وفي الحقيقة أنني علمت أن خالتي مريضة، لكن كنت أظن أنها وعكة خفيفة، وإلا فليس هناك ما يمكن أن يؤخرني عن زيارتها.

في جلسة عائلية لإحدى الأسر المسلمة: اتهم أحد الأبناء أخته بأنها كذبت عليه حين قالت له: إن أباها قدّم لها ساعة ثمينة هدية عند إعلان نتائج الاختبارات، وقد سمع الأب بذلك، فقال: أنا لا أريد أن أقول الآن: هل قدمت لها هدية أو لا؟ لكن سأقول لكم: ما التعبيرات التي يمكن أن نستخدمها عوضاً عن نطق كلمة (كذب)، و(افتراء)، و(كذاب)...

وبعد تفكير وتداول تبين أن من الأفضل استخدام التعبيرات التالية:

-         هذا خلاف الواقع.

-         هذا مغاير للحقيقة.

-         كلامك يحتاج إلى تدقيق أكثر.

-         أظن أنك لو تأملت قليلاً؛ لوجدت أنّ هذا لم يقع.

-         الذي أعرفه مختلف عن الشيء الذي تقوله.

-         ربما اطَّلعت على شيء لم نعرفه جميعاً.

إنّ التأنق في التعبير يقوم على قاعدة: "ليس المهم ما قيل، لكن المهم كيف قيل"، نحافظ على الجوهر ونلطف اللفظ، ونراعي المشاعر، ولا نعد انتصار الأب على أولاده في نقاش شيئاً يستحق الاحتفال. ►

 

المصدر: كتاب التواصل الأسري/ كيف نحمي أسرنا من التفكّك

ارسال التعليق

Top