• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأخلاق.. مقياس الاستقامة

الأخلاق.. مقياس الاستقامة

◄إنّ الأخلاق الإسلامية نابعة من الدين، وأنّها تكفل الخير المطلق للمجتمع، وأنّها تتسم بالاستقرار والدوام، أمّا الأخلاق التي رسمها البشر فموسومة بالتغير والاضطراب؛ لأنّ تلك صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، وهذه صنع الإنسان الذي تتصارع بين جوانحه نوازع الخير ودوافع الشر، وهو بين الاثنين غالب أو مغلوب.

والأخلاق الإسلامية هي تلك الأخلاق الإنسانية التي وجهها الإسلام وصحح مسارها إلى الخير والحقّ ابتغاء تقوى الله التي عليها صالح العباد والبلاد.

والتقوى كما قال العلماء: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل. وبهذا تعتبر محور الأخلاق المرضية، والمركز الذي تشع منه وتتفرع عليه الفضائل، فالعدل والإحسان، وأداء الأمانات إلى أهلها والوفاء بالوعود وبالعقود، وتجويد العبادات والمعاملات واجتناب ما حرّم الله ورسوله والصبر عند النوائب، ولين الجانب واليُسر في التعامل، والتواضع، والبرّ بالوالدين وبذوي القربى وحسن الجوار كلّ أولئك أخلاق إسلامية حث عليها القرآن الكريم وجعل الوفاء بها والولاء لها باباً للتقوى ووسيلة إلى الفوز برضا الله الرّحمن الرّحيم.

وللأخلاق الإسلامية بهذا الاعتبار – خصائص؛ ذلك لأنّ الإسلام قد طبع الأخلاق بسماته وصفاته. فالكرم مثلاً من أخلاق العرب التي اشتهروا بها من قبل الإسلام، تباهوا وتفاخروا به، وسجّلته بحور أشعارهم، التي هي ديوان تاريخهم، وسجل عاداتهم وأعرافهم؛ لأنّ حياتهم كانت ترحالاً وتجوالاً، فكلّ منهم – في هذه الحال – معرض لنفاد الزاد، فكان الكرم وقاية للحاجة، وقرضاً حسناً يتذاكرونه.

أمّا الكرم في الإسلام فهو جود وسخاء إيماناً بقول الله سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل/ 5-7).

وإيماناً بأنّ المال مال الله (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7).

ومن ثمّ لم تبن الأخلاق في الإسلام على عرف أو عادة أو لمجرد لذة الإنفاق والعطاء وإنما قامت على أصول الإسلام العامة، وتحقيقاً لمصلحة الأُمّة.

ولنقرأ كلمة جعفر بن أبي طالب (رض) عند النجاشي التي تصوّر لنا كيف كانت أخلاق العرب قبل الإسلام، وكيف صارت به، وماذا فعل الإسلام بهؤلاء العرب حين اتبعوه وتفاعلوا معه وانفعلوا به، وكيف تبدلت به الأوضاع العقدية والسلوكية والأخلاقية. قال جعفر: كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

وليست الأخلاق الإسلاميّة زينة وترفاً، وإنما مقياس الإيمان والاستقامة على هدي الإسلام، حسبما يشير إلى هذا قول رسول الله (ص): "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً.." وقوله (ص): "إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"..

هذه مثل من توجيهات رسول الله (ص) إلى تحصيل حسن الخلق والالتزام به وهو في ذاته كان أكمل الناس خلقاً فقد امتدحه الله بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4). وحثّ الله المسلم على الاقتداء به، فقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب/ 21).

 

الرحمة منهاج حياة

عن رسول الله (ص) يقول: "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه".

فإنّ الإسلام دين الرحمة والتراحم، طالب المسلمين أن يكونوا دائماً رحماء بينهم، فكانوا كذلك في صدر الإسلام ممتثلين لأوامر الله بالرحمة؛ لأنّها صفة من صفاته "الرحمن الرحيم" ووصف بها نفسه في قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) (الكهف/ 58).

وفي الحديث القدسي قول الله لنبيه "إنّ رحمتي سبقت غضبي" ووصف بها رسوله (ص) في قوله تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

وفي حديث رسول الله (ص) "مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم" وقوله: "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السّماء".

إنّ المسلمين فيما مضى كانوا أُمّة متراحمة متعاونة يرحم الصغير الكبير ويساعده ويوسع له في مجلسه، روي أنّ شيخاً كبيراً وفد على مجلس رسول الله (ص) فأبطأ القوم أن يوسعوا له، فقال رسول الله (ص): "ليس منّا مَن لَم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا"، وفي رواية: "ليس منّا مَن لَم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر" وعن النبيّ أنّه قال: "ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه".

أرأيتم إلى هذه الرحمة والتراحم الذي يوجهنا إليهما الإسلام في القرآن وفي سنّة رسول الله (ص)، لو استعرضنا ما يقع في المجتمع في مقابل هذه الأوامر، ماذا نرى؟! نجد تخليّاً عن هذه المثل الرفيعة من الرحمة، نجد الشباب يدفعون الكهول والشيوخ والنساء ويزاحمونهم في المواصلات والطرقات، فيؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، نجد هذه الرحمة التي أمر الله بها قد غاضت من قلوب الكثيرين أو جمدت، وذلك ليس من الإسلام، وليست الرحمة من الإنسان للإنسان فقط بل لكلّ الحيوانات.. فقد روي عن النبيّ (ص) قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثمّ خرج فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي. فنزل البئر فملأ خفه، ثمّ أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: "نعم" في كلّ ذات كبد رطبة أجر".

وفي الحديث الآخر الذي حدث به رسول الله (ص) عن امرأة دخلت النّار بسبب قطة حبستها دون طعام ولا شراب، فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تلتمس رزقها، ذلك يحثنا على أن نرحم هذه الدواب، وألا نؤذي المستأنس منها ولا نمنع عنه الطعام ولا الشراب وأن نكون بها رحماء؛ فإنّ الرحمة لا تنزع إلا من قلب شقي.

هذه الرحمة سمة الإسلام والمسلمين فتخلقوا بها ومكنوها من قلوبكم لتسود بينكم المحبّة والمرحمة أيها السادة.

كونوا كما وصف الله رسوله وأصحابه في قوله تعالى: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح/ 29).

اللّهمّ إنا نسألك رحمتك لأُمّتك؛ حتى تتراحم وتقلع عن التنابذ والاختلاف والانقسام وتكون كما ضرب الرسول لهم الأمثال:

"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".►

ارسال التعليق

Top