• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نداء المحبّة الدائم

عمار كاظم

نداء المحبّة الدائم

يا ربِّ، كيف لا ينفتح عليك عبادُك بكلّ الأمل والرجاء في القرب إليك مهما ابتعدت بهم الذنوب عن ساحة قدسك، وأنت الذي لا تترك مجالاً لانفتاحهم عليك إلّا لتفسح لهم أكثر من فرصة لذلك، لأنّك تعرف سرّهم وعلانيّتهم في ما ينحرفون فيه عن الطريق، أو في يمارسونه من الخطيئة، انطلاقاً من مواقع الاهتزاز في مشاعرهم، وعناصر الإثارة في غرائزهم وإيحاءات الانحراف في أوضاعهم، مما يحتاجون فيه إلى الكثير من الرحمة التي تجتذبهم إلى الخير وتبعدهم عن الشرّ، في ما تهيِّئ لهم من ظروف التراجع عن ذلك كلّه، عندما يواجهون ألطاف الخير في شخصياتهم من خلال الإيحاء الروحي بأنّ الله يدعوهم إلى العودة إليه وإلى الثبات في مواقع رضاه، وإلى الاتجاه نحو الهدوء في العقل، والاستقامة في الخطوات إلى الطريق المستقيم، ليكون الانحراف في حركتهم مجرّد حالةٍ طارئة لا تستقر في الاتجاه، وليكون الاهتزاز في مناطق الإثارة مجرّد وضعٍ سريع لا يلبث أن يزول بفعل عناصر الثبات في الإيمان وفي التقوى. وهكذا دعوتَ عبادك إلى عفوك، ولكن لا ليحصلوا عليه بدون إرادة أو معاناة.. بل أردت لهم أن يحصلوا عليه من خلال الباب الروحي الذي يمتزج فيه الوعي للمسألة الإلهية في المسألة الإنسانية في ما هو حقّ الله على عباده من الإحساس بالعبودية المطلقة التي لا يملكون معها أيّ شيء من حرّية الاختيار خارج نطاق الطاعة، كما يتداخل فيه الشعور بالندم على الخطيئة بالعزم على تصحيح خط السير في اتجاه التقوى العملية، ويتحرك فيه العنصر الروحي في دائرة العنصر العملي وهو التوبة التي تختصر في حركة الإنسان كلّ معاني الانفتاح على الله، والانغلاق عن كلّ مواقع الشيطان في عملية إرادةٍ قوية وتصميم حاسم.. ثمّ أكّدت في الخط الذي رسمته لهم بكلّ وضوح في وحيك في ما أظهرت لهم من خصائصه، وبيّنت لهم من ملامحه حتى يتعرّفوا عليه بطريقة دقيقة.. وذلك هو التوبة النصوح التي تعبّر عن توافق ظواهرهم وبواطنهم في عملية التغيير، وعن صدق النية وقوّة العزم، وإرادة الثبات بحيث لا مجال فيه لأيّ تراجع أو اهتزاز. وهذا هو ما تحدّثت به إليهم في كتابك الذي أطلقتَ فيه نداء الدعوة إلى التوبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (التحريم/ 8). إنّك تدعوهم إلى العودة إليك من موقع الصدق الذي يعبّر عن الاستقامة في خط طاعتك، من خلال إرادة التغيير الذي ينتقلون به من خط الشيطان إلى خط الله.. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يربطهم بك من جديد، إنّك توحي إليهم بأنّك لا ترفضهم لمجرّد أنّهم عصوك وتمرّدوا عليك، بل تعلن لهم أنّك تتقبّلهم في أيّة لحظة يريدون فيها العودة، وتدعوهم إلى أن ينفتحوا على ذلك في نداء محبّة ولطف وحنان ورحمة. ثمّ تابعت النداء بالإيحاء إليهم بأنّ عليهم أن يعيشوا روحية الرجاء بمغفرة الله من خلال التوبة.. وإذا كانت المسألة عندهم رجاءً يحمل في داخله بعض عناصر الخوف، في ما تريد أن توحي إليهم بالتحرك نحوك في شعور تمتزج فيه الرغبة بالرهبة كوسيلةٍ من وسائل التربية الروحية التي يتحرك فيها الإنسان في روحية العبودية بين الخوف والرجاء ليتأكد موقعه في إخلاصه لله، في قلق الإنسان الباحث عن مواقع رضاه، إذا كانت المسألة عندهم رجاءً في الخط التربوي، فإنّها عندك يا ربّ قراراً بالعفو عمّن يعيش في أعماقه الرغبة الحقيقية في التطلّع نحو رضاك وهذا هو قولك: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) (التحريم/ 8). فذلك هو الأُفق الجديد للتوبة، أن يتحول الماضي في نتائج مسؤوليته إلى صحيفة بيضاء لا أثر فيها للخطيئة السوداء، ولا للانحراف الأعمى، لأنّ الحاضر التائب يهيّئ جو الغفران للماضي الخاطئ، وأن يكون المستقبل البعيد هو مستقبل النعيم الذي يلقاه الناس التائبون في الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار، حيث يعيشون فيها الإحساس بالجمال والشعور بالطمأنينة.. هناك في ذلك اليوم الذي يؤكِّد الله فيه رعايته لعباده الصالحين. (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم/ 8). فأنت يا ربّ لا تُدخل الخزي والعار على عبادك الصالحين الذي عاشوا في مجتمع الإيمان بالله، والسير في خط شريعته بقيادة النبيّ الذي حمل الرسالة ودعا إلى الله وإلى طاعته، لأنّك اطلعت على قلوبهم فرأيت فيها النور الذي يشعّ بالإيمان فيتفايض على ساحاتهم في طريقهم الطويل، وينطلق في إيمانهم التي يحرِّكونها في خط الجهاد وفي سبيل الله.. فإذا شعروا بأنّ هناك نقصاً في هذا النور الذي أرادوه أن يتكامل، توجهوا إليك بكلّ إشراقة الحقيقة الإلهية في كيانهم ليطلبوا منك أن تكمل لهم هذا النور الذي ضاع منهم بعضه بفعل ظلام الخطيئة، وتغفر لهم حتى تكون الحياة لديهم نوراً في حركة الإيمان والطاعة ونوراً في حركة العفو والمغفرة، وهكذا يبتهل إليك عبادك لأنّك القادر على كلّ شيء، والمهيمن على الوجود كلّه وعلى الجزاء كلّه، فأيّ ربّ عظيم، أنت يا ربّ، وأيّ خالق رحيم أنت يا ربّ.

ارسال التعليق

Top