• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحبّ الإلهي والصدق

الحبّ الإلهي والصدق

◄نصّ الوصيّة:

·      قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر (ع) موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وتَزَيَّن للهِ عزّ وجلّ بالصِّدق في الأعمال، وتَحَبَّب إليه بتعجِيلِ الانتقال".

 

الأخلاق ورقيّ الأمم:

إنّ رقي الأمم إنما هو بمقدار ما تمتلكه من قيم أخلاقية تتفاضل من خلالها، وتتنافس مع غيرها من أجل الحفاظ عليها وديمومتها منهجاً للأجيال، والأهم من امتلاك القيم الأخلاقية هو أن نُزيّن تلك القيم بالصدق عندما نعمل بها، وإذا لم نُزيّن أعمالنا بالصدق، فلن نستطيع دعوة ألصق الناس بنا إلى مناهج الإسلام الأصيل لينهلوا من آدابه، ويتخلّقوا بمكارم أخلاقه – فضلاً عن البعداء – فعلى سبيل المثال: مَن أراد الإيمان، فعليه بالصدق في طلب العلم، ومَن أراد العلم الذي يُفضي إلى الإيمان، فعليه أن يتزيّن بالحلم الذي يجعل من العلم علماً هادفاً لا علماً يُرافقه الغرور والتكبُّر، ومَن أراد إيماناً يستند إلى العلم النافع والمستوزر بالحلم، فما عليه إلّا صدق التخلُّق بالرفق الذي يكشف عن زينة الحلم وحقيقته.

قال مولانا رسول الله (ص): "الرفق كَرمٌ، والحلم زَينٌ، والصبر خيرُ مَركب".

وقال أمير المؤمنين (ع): "ثلاث هنّ زين المؤمن: تقوى الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة"، وقال (ع): "الصدق رأس الإيمان، وزين الإنسان"، وما تقدّم هو مقدّمة مختصرة ومدخل لموضوع وصيّة مولانا الإمام الباقر (ع) التي يوصي بها صاحبه وتلميذه جابر الجعفيّ، فيقول: "وتَزَيَّن للهِ عزّ وجلّ بالصِّدق في الأعمال، وتَحَبَّب إليه بتعجِيلِ الانتقال".

 

فطرة السعي وراء المحبوبيّة:

"إنّ من جملة حاجات الإنسان الفطرية والتي تظهر في فترة الطفولة هي حاجته إلى محبّة الآخرين. فالإنسان يُحبّ أن يودّه الآخرون ويُبدوا اهتماماً به، فأوّل مَن يتعرّف عليه الطفل ضمن محيط الأسرة هما أبواه ولذا فهو يحاول أن يفعل ما يجلب انتباههما نحوه ليفوز أكثر بمحبّتهما. ثمّ يسعى في المراحل التالية من عمره أن يكون محبوباً بين أترابه في محيط اللعب ولدى معلّمه في المدرسة. وعندما يدخل إلى المجتمع فمضافاً إلى رغبته في أن يُحبّه الجميع فهو يحاول جلب اهتمام أصحاب المناصب الأعلى به، وهذه حاجة فطرية لدى الإنسان.

أمّا الحكمة من هذه الرغبات الفطرية.. فهي جلب انتباه الإنسان في نهاية المطاف إلى الله عزّ وجلّ وإثارة رغبته في أن يكون محبوباً عنده تعالى. لأنّه كلّما تعرّف المرء على أصحاب مناصب ومقامات أعلى أحبّ أن يكون محبوباً لديهم، وهذا يستلزم أن تتولّد لديه الرغبة في أن يكون محبوباً عند الله إذا عرفه.

وهو تدبير أودعه الله جلّ وعلا في خِلقة الإنسان، فعندما يُدرك المرء عظمة الله ويفهم مدى قيمة أن يكون محبوباً عنده، فسيسقط الآخرون من عينه ولا يبقى في مقابل العظمة الإلهية غير المحدودة ما يستحقّ العرض إلّا إذا كان ضمن شعاع الله عزّ وجلّ. وهذا يُذكّرنا بقصّة غلام دون البلوغ عندما سأله رسول الله (ص) عمّا إذا كان يُحبّه هو (النبيّ) أكثر أم الله؟ فأجاب: "الله الله الله يا رسول الله ليس هذا لك ولا لأحد، فإنّما أحببتُكَ لحبّ الله".

فإذا عرف المرءُ حقيقة عظمة الباري عزّ وجلّ، فإنّ كلّ شيء سيفقد بريقه في مقابلها ولن يكون لأيّ شيء قيمة إلّا في شعاع لطفه وعناياته جلّ وعلا، ونحن أيضاً علينا أن نُحبّ الله أكثر من أيّ شيء ومن أيّ أحد آخر، وأن نبذل ما بوسعنا كي يُحبّنا أكثر من أيّ شخص آخر، فإن لم يُحبّنا الله فما جدوى محبّة الآخرين لنا يا ترى؟! فحبّ الآخرين لنا إمّا أن يكون في حدود التسلية أو يُشكّل آفة ستتبعها عواقب غير محبّذة. وعلى أيّة حال فإنّ اتّجاه هذه المحبّة الفطرية يكون نحو الله تعالى.

وقال مولانا رسول الله (ص): "أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبّوني لحبّ الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي".

ولا تكترث بالمبطلين جهالةً             علامة حُبّ المصطفى حبّ آلهِ

 

سُبل كسب المحبوبية:

"المقدّمة الأخرى هي: قد يسعنا الادّعاء بأنّ جميع المساعي التي يبذلها الإنسان ليكون محبوباً عند الآخرين إنّما تتلخّص في قسمين: الأوّل التزيّن في المظهر بحيث إذا رآه الطرف المقابل أحبّه ولم يشمئزّ منه. فلو ظهر المرء بمظهر فوضويّ وبدون أو لباس متّسخ وفاحت منه رائحة نتنة فلن يرغب أحد في النظر إليه فضلاً عن أن يُحبّه. ولعلّ من جملة أسرار الآداب التي يذكرها الشرع عند الحضور في بيئة اجتماعية هي عدم نفور الآخرين عند رؤيتهم للإنسان المؤمن.

لكنّ المظهر المزيّن والمرتّب لا يكفي لوحده لجلب محبوبيّة الآخرين، فمن أجل أن يُصبح المرء محبوباً عند أحدٍ مّا فإنّه يُحاول – مضافاً إلى اعتنائه بمظهره أن يُنظّم سلوكه وتصرّفاته بشكل يجلب اهتمام الطرف المقابل نحوه كي لا يظنّ أنّه إنسان كسول متطفّل وليس في نيّته إلّا استغلاله؛ بل إنّه يُحاول أن يولّد في نفسه انطباعاً بأنّه شخص ذو قيمة. وهذان الأمران يعملان بشكل طبيعيّ على جلب محبّة الآخرين.

 

كيف نكون محبوبين عند الله:

"فإذا أحببنا أن نكون أعزّاء عند الله تعالى فهل يتعيّن علينا أن نُصفّف شعرنا ونشذّب لحيتنا مثلاً؟! كلّا، فمن أجل أن نُصبح محبوبين عند الله علينا أن نعثر على ما يُناسبه جلّ وعلا من زينة؛ زينة يُحبّها الله إذا نظر إليها وتكون متماشية مع ذوقه. يقول رسول الله (ص) في حديث شريف: "إنّ الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم"؛ فهو لا ينظر إلى نظافة وأناقة هندامكم بل إلى قلوبكم ليرى ما إذا كانت طاهرة ونورانيّة أم مدنّسة ومتعفّنة.

يقول الإمام الباقر لجابر: "تزيّن لله عزّ وجلّ بالصدق في الأعمال"؛ فإنْ أحببت أن تتزيّن أمام الله سبحانه وأن تفعل ما يُرغّبه في النظر إليك فعليك أن تكون صادقاً في أعمالك وأن تضع المكر والخديعة مع الله جانباً. فمن المسلّم أنّ الناس يُخدعون بصور شتّى منها التملّق، والكذب، والوعد، والوعيد، وما إلى ذلك. فالمخاعون يستخدمون كلّ ما هو قيّم في المجتمع من أجل خداع الآخرين. بيد أنّه من غير الممكن من خلال هذه الأعمال النفوذ إلى حضرة الباري عزّ وجلّ؛ والسبب هو: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران/ 119)؛ فالله يعلم بما يختلج في أعماق القلوب. فبمجرّد أن تخطر في أذهاننا فكرة فإنّه عزّ وجلّ يكون حاضراً هناك ومطّلعاً على ما خطر فيها؛ ولهذا فمن المستحيل أن نخدعه. لكن ثمة بعض الناس مَن يُحاول خداع الله سبحانه؛ كما في قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) (البقرة/ 9)، ويتصرّف بصورة توحي كأنّ الله لابدّ أن يُصدّق كلامه ويقبله بكلّ بساطة في حين أنّه محشوّ بالأكاذيب. إذن فإنّ الزينة التي يُحبّ الله جلّ شأنه أن يراها في سلوكياتنا هي الصدق.

 

المراد من الصدق:

"كلمة: (الصدق) في العربية، ولا سيّما في القرآن، لا تُستخدم لقول الصدق فحسب، بل تُستعمل للإنشاء، والوعد: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب/ 23)، وغيرهما.

فإنّ لأعمالنا لساناً أيضاً وهي تتكلّم وتُظهر ما يجري في خلدنا، فقد لا يرغب الشخص نفسه في أن يُعلن هذا الكلام لكنّ تصرّفاته تُفصح للآخرين عن المراد منها وما تعني، ويُقال في مثل هذه الحالات: "لم يصدّق عملُه قولَه"؛ بمعنى أنّ هناك تناقضاً بين لسان العمل ولسان القول. إذن كلمة: "الصدق" تستعمل في جميع هذه الموارد، ومن هذا المنطلق يقول الإمام (ع): "تزيّن لله عزّ وجلّ بالصدق في الأعمال"؛ أي كنْ صادقاً في سلوكك وتزيّن لله بهذا العمل. وبالطبع فإنّ السلوك – بمعنى من المعاني – يشمل القول أيضاً؛ لأنّ القول هو الآخر عمل يصدر من الإنسان".

 

الطاعة والحبّ الإلهي:

إذا أراد العبد أن يبتغي الزلفى لدى الله عزّ وجلّ، فعليه أن يتزيّن بالصالحات من الأعمال ويتقرّب بها إلى الله سبحانه، وهذا ممّا ينقله إلى مرتبة رفيعة؛ هي مرتبة المحبوبية. قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران/ 31). فاتّباع رسول الله (ص) هو مصداق محبّة ربّ العالمين، فمن لم يكن للمصطفى متّبعاً لم يكن لله تعالى محبّاً، فالحبّ وإن لم يتّفق العلماء على معنى واحد له إلّا أنّ أنجع الأقوال في شأنه هو أنّ أصله اللزوم والثبات: "فالحاء والباء أصول ثلاثة، أحدها اللزوم والثبات، والآخر الحَبّة من الشيء ذي الحَبّ، ومن هذا الباب حَبّة القلب: سُوَيداؤه، ويُقال ثمرته، والثالث وصف القِصَر... إلى أن يقول: (وهو موضع الشاهد): أمّا اللزوم فالحُبّ والمَحبّة، اشتقاقه من أحَبّه إذا لزمه. والمُحِبّ: البعير الذي يَحْسِر، فيلزمُ مكانَه".

في الحديث القدسي المروي عن رسول الله (ص) أنّه قال: "يقول تعالى: مَن عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّه". وحُبُّ اللهِ لعبدٍ من عبديه أمرٌ لا يقدر إدراك قيمته إلّا مَن يعرف الله تعالى. أجل لا يُقدّر حقيقة هذا العطاء إلّا الذي يعرف حقيقة المُعطي، وحُبّ العبد لربّه نعمةٌ لهذا العبد لا يُدركها كذلك إلّا مَن ذاقها. وإذا كان حُب الله لعبدٍ من عبيده هو أمرٌ جدّ عظيم، وفضلٌ غامرٌ جسيم، فماذا نستطيع أن نقول في إنعام الله على العبد بهدايته لحُبّه وتعريفه هذا النوع من الحبّ الذي لا نظير له ولا شبيه: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة/ 54).

 

أحبّاء الله:

عندما أراد الله تعالى عبداً يتزيّن له جلّ شأنه بالصدق في الأقوال والأعمال ليفتح حصون اليهود في خيبر. قال المصطفى الأكرم (ص): "لأعطينّ الراية رجلاً يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله يفتحُ الله على يديه ليس بفرّار"، فتطاول لها الأصحاب، فقال النبيّ (ص): "ادعوا لي عليّاً".

فالمحبّةُ المتبادلة هي الصِّلةُ بين الكرّار والمختار والجبّار، وهي المنزلةُ التي فيها يتنافسُ المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَمَلها شمّر السابقون، وعليها تفانى المحبّون، وبروح نسمها تروَّح العابدون، فلا يكفي أيُّها المؤمن أن تكون مُحبّاً، فالأهمّ والأرقى أن تكون محبوباً سائراً على خطى إمامك (ع)، تتزيّن لله عزّ وجلّ بالصدق في الأعمال، وتتحبّب إليه بتعجيل الانتقال، وهكذا كان حال الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أوّلهم وزير مُحمد ومَن هو منه بمنزلة هارون من موسى، وثانيهم لقمان هذه الأُمّة قولاً وعملاً، وثالثهم شبيه عيسى بن مريم في هذه الأُمّة، ورابعهم أوّل من خطّت به فرسه في سبيل الله يوم بدر. أحبّهم الله تعالى، وأمر حبيبه الأعظم أن يُحبّهم، فقال (ص): "إنّ الله أمرني بحبّ أربعةٍ من أصحابي، وأخبرني أنّه يُحبّهم، فقُلنا يا رسول الله مَن هم: فكلّنا نُحبّ أن نكون منهم، فقال: إنّ عليّاً منهم ثم سكت ساعة، ثم قال: إنّ عليّاً منهم، وسلمان الفارسي، وأبا ذر والمقداد بن الأسود الكندي.

 

المنافقون في الدرك الأسفل:

وبطبيعة الحال فكما ينبغي أن نكون صادقين مع الله، فلابدّ أن نكون صادقين مع الناس أيضاً، ولا سيّما مع المؤمنين، ولا ننتهج معهم أسلوب الخداع والحيلة والنفاق. فالنفاق قد يصل أحياناً إلى حدّ المعصية، لكنه يصل أحياناً أخرى إلى حدّ الكفر أيضاً؛ فالله تعالى يقول: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (النساء/ 145).

فحال المنافق عند الله تعالى هو أسوأ من حال الكافر؛ لأنّ المنافق، علاوة على الكفر، يلجأ إلى الخداع والحيلة وما يُشابههما، فمن أجل أن لا يسقط الإنسان في هذه المرتبة من النفاق فعليه أن يحذر من الابتلاء بدرجاته الأضعف أيضاً. فإذا أراد الإنسان أن لا تزلّ قدمه فلا ينبغي أن يقترب من حافّة الوادي. وإنّ اجتناب المرتبة الأولى من النفاق هي أن يحاول الإنسان أن يحمل أيّ عهد قطعه مع الله تعالى على محمل الجدّ حتى وإن لم ينطق به بلسانه؛ فلا ينبغي أن ننسى ما قطعنا على أنفسنا مع الله من وعود، فهو عمل غاية في القبح، وفي المرتبة التالية فإنّه يتعيّن عليه الوفاء بالعهود التي يُعدّ الوفاء بها واجباً، وهو عندما ينطق بهذا العهد بلسانه كأن يعقد نذراً بقوله: "لله عليَّ نذر أن أفعل كذا وكذا". فإنّ قبح مخالفة العهد في مثل هذه الموارد أشدّ.

أمّا المراتب الأعلى من ذلك فهي عندما يُعطي الإنسان لله ولرسوله عهداً بأن يفدي نفسه وماله في سبيل الله لكنه ينكث عهده ويتراجع عن بيعته فيما بعد. فأيّ عمل هو أقبح من ذلك؟.

 

عقوبة نكث العهد مع الله:

"يستخدم الله تعالى بخصوص مَن عاهد الله ثمّ نكث عهده معه مصطلح "الكذب" فيقول: إنّ بعض ضعيفي الإيمان من الناس قد قطعوا عهداً مع الله بأنّه إذا أعطاهم ثروة فإنّهم سيتصدّقون بنسبة كبيرة منها إلى الفقراء ويبذلونها في أعمال الخير. فأعطاهم الله الثروة لكنّهم لم يفوا بعهدهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) (التوبة/ 75-76)، وعندها قال الله عزّ وجلّ: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (التوبة/ 77)، فنتيجة خُلفهم للوعد مع الله تعالى وكذبهم فيما عاهدوا به فإنّهم قد ابتُلوا بالنفاق. فإذا عاهدتّ الله على أمر فكن ثابتاً في عهدك وإلّا فستلقى عاقبة ذلك حتماً.

فعندما يُخلف المرء عهده مع الله تعالى؛ كأن يقول بلسانه: أنا أُؤمن بالله، لكنّ عمله يُكذّب قولَه، فسيُصبح وجهه قبيحاً عند الله تعالى. وكلّما أخلف المزيد من الوعود اشتدّ قبح وجهه حتى ينفر الله من النظر إليه. فما من أحد يُحبّ رؤية الوجه القبيح، فما بالك بالقبائح التي تكون من العمق بحيث يبقى أثرها إلى يوم القيامة ولا تكون قابلة للعلاج.

إذن فلنحاول – إذا أخطأنا وبادرنا إلى خداع الله تعالى – أن نُسارع إلى التوبة ولا ندع أثر هذه الأعمال يبقى أو تتراكم فوقها ذنوب أخرى حتى تتحوّل – شيئاً فشيئاً – إلى مَلَكة فيُصبح علاجها أقرب إلى المحال. بالطبع لا ينبغي اليأس من رحمة الله في أيّ حال، لكنّ علاج أثر المعصية يكون أحياناً بالغ الصعوبة".

 

المسارعة في خدمة المولى:

"وكما قُلنا فإنّ الزينة لوحدها لا تكفي لنيل المحبوبية. فإنّ أحبّ المرء أن يحظى بمحبّة ثابتة عند الناس فعليه أن يُبدي تصرّفاً خاصّاً جدّاً تجاههم. فالتلميذ الذي يفوز بحبّ معلّمه هو ذلك الذي ينجز واجبه المدرسي الذي يحتاج ساعة من الزمن في نصف ساعة. أمّا ذلك التلميذ المتقاعس الذي يؤخّر إنجاز واجبه لعدّة أيّام فإنّه يسقط من عين معلّمه.

يقول الإمام الباقر (ع) في هذا الصدد: بغية كسب حبّ الله عزّ وجلّ فعلاوة على تزيين أعمالك بالصدق "تحبّب إليه بتعجيل الانتقال". ولأوضّح هذا المقطع بآية من الذكر الحكيم: فعندما انطلق موسى (ع) مع بني إسرائيل إلى صحراء سيناء فقد وصل (ع) إلى الميعاد قبلهم. عند ذاك بادره الله عزّ وجلّ بالقول: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى) (طه/ 83)؛ لماذا سبقتَ قومك بالوصول إلى هنا؟ قال: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه/ 84)؛ أي إنّني بكّرت في الوصول لتُسَرّ منّي. أو بتعبير آخر: أحببت أن أسارع في خدمة مولاي. فالإسراع في خدمة المولى وإنجاز الواجب بسرعة من شأنهما أن يزيدا من محبوبية العبد عند مولاه، إذن فالإمام الباقر (ع) كأنه يريد أن يقول لجابر: إذا أحببت أن تكون محبوباً عند الله فعليك أن تعجّل في التحرُّك! وقد يكون التحرُّك بمعنى القيام بعمل معيّن، كما أنّه قد يعني أيضاً حركة الإنسان من درجاته الوضعية للوصول إلى مرحلة الكمال أو عملية السير إلى الله تعالى. فيكون المعنى: إذا رغبت أن يُحبّك الله فعجّل بالحركة التي تنتهي إلى الله وتكون لأجله وفي مرضاته! (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (آل عمران/ 133).►

 

المصدر: كتاب المُهتدون (من وصايا الإمام الباقر (ع) لتلميذه جابر)/ سلسلة الحياة الطيِّبة

ارسال التعليق

Top