• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرحمة.. فيض إلهيّ

الرحمة.. فيض إلهيّ

◄الرحمة، عنوان كبير وصفَ الله تعالى به نفسه في كلمتين، فأرادنا أن نقول في كلّ عمل نبدأه: بسم الله الرحمن الرحيم، وحدّثنا تعالى عن رحمته في خلق السموات والأرض، وفي خلق الإنسان وفي كلّ ما أفاضه عليه من نِعَمه، حيث وجودنا وكلّ النِّعَم التي أنعمها الله علينا هي مظهر من مظاهر رحمته، وهكذا كانت الرسالات التي أرسل بها الأنبياء إلى الناس، والوحي الذي أنزله عليهم، يمثّل فيضاً من رحمته، وقدَّم لنا رسوله (ص) في عقله وقلبه وكلّ حركته في الحياة بأنّه الرحمة، ليس لقومه فحسب، ولكنّه الرحمة للعالمين جميعاً (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، لأنّ عقله ينفتح على الناس بما يرفع عقولهم، ولأنّ قلبه ينفتح على العالمين بما يؤكّد فيهم المشاعر الطاهرة النقية التي تربط بينهم، ولأنّ حياته في كلّ أخلاقيته وإنسانيّته كانت الرحمة.

وأراد الله تعالى للمسلمين مع رسول الله (ص) أن يتخلّقوا بأخلاقه، فكانوا الرحماء بينهم، وكان مجتمعهم هو مجتمع الرحمة الذي يتحرّك فيه كلّ واحد مع الآخر على أساس أن يرحم كلّ ظروفه التي يعيشها في نفسه، كما حدّثنا الله تعالى عن مظهر الرحمة عند الأنصار الذين احتضنوا المسلمين الذين هاجروا من مكّة، وكان بينهم الفقراء والمشرّدون.

وقد أراد الله تعالى للعلاقات الإنسانية، ولاسيّما العلاقة الزوجية، أن لا ترتكز على حسابات مالية يرتبط فيها أحدهما بالآخر من جهة المال، أو حسابات نسبية أو جمالية وما إلى ذلك، ولكن أراد أن تكون الرابطة التي تشدّ أحدهما للآخر رابطة المودّة، أن يعيش كلّ واحد منهما المحبّة للآخر قبل أن يرتبطا وبعد أن يرتبطا، وأن يعيش الرحمة التي يرحم فيها كلّ واحد منهما الآخر في نقاط ضعفه وظروفه وعلاقاته بالآخرين، أن لا يتحوّل الزوج أو الزوجة في الحياة الزوجية إلى إنسان أناني يفكر بنفسه، بل أن ينفتح كلّ واحد منهما على الآخر كما لو كان الآخر في داخله، فيشكّل كلّ واحد منهما جزءاً من كيان الآخر من موقع المحبّة والرحمة.

إنّ الله تعالى يقول لنا إنّ الحياة ليست حالة قانونية يرتبط فيها الإنسان بالآخر بقوانين جامدة، وإنّما هي روح وقلب ومشاعر وأحاسيس لابدّ لها أن تنبض في كيان الإنسان، ليرحم الإنسان الآخر في نقاط ضعفه وظروفه، لأنّ كلّ واحد منّا قد يعيش ظروفاً ضاغطة عليه، ولذلك، علينا أن ندرس ظروف الآخر لنتحرّك معه في حجم ظروفه، ولا نسقطه من خلال ما نريده منه بعيداً عن ظروفه.

قيمة الرحمة:

وتعالوا نستمع إلى كلمات رسول الله (ص) التي يتحدّث فيها عن قيمة الرحمة في نفس الإنسان، فقد ورد عنه (ص): «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء»، وعنه (ص): «مَن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، إنّ الله رحيم يحبّ كلّ رحيم»، وقد جاء شخص للإمام الصادق (ع) قال: سألت عن قوم عندهم فضول وبإخوانهم حاجة شديدة، وليس تسعهم الزكاة، وما يسعهم أن يشبعوا ووضعهم شديد، ويجوع أخوانهم، فقال (ع): «إنّ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه، ويحقّ على المسلمين الاجتهاد بالتواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله تعالى متراحمين مغتمّين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (ص)». وفي كلمة للإمام الصادق (ع) يقول: «اتّقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه».

لابدّ للإنسان منّا أن يعيش إنسانيّته.. الأموال والشهوات والامتيازات تفنى، وتبقى إنسانيّتنا التي أودع الله فيها معنى الرحمة وحمّلنا فيها المسؤولية، تبقى إنسانيّتنا تعطينا القُرب من الله والناس والقُرب من كلّ حركة صالحة للحياة. لا يحبس أحدكم نفسه في زنزانة ذاته وأنانيّته، بل اطلقوا أنفُسكم في الهواء الطلق والصحو المبدع، حتى يكون كلّ واحد منّا للناس كافة، لنكن الرحماء في الدُّنيا ليرحمنا الله في الآخرة، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 88-89).►

ارسال التعليق

Top