• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف نشيع ثقافة التسامح في المجتمع؟

كيف نشيع ثقافة التسامح في المجتمع؟

◄تتجلى ثقافة التسامح كإحدى أهم الضرورات الإنسانية والأخلاقية في الواقع المعاصر بعد أن إنتشرت ظاهرة العنف وظاهرة تهدّم العلاقات الإجتماعية على كافة الأصعدة وبعد أن أصبح الكبار والصغار على حد سواء أما ضحايا أو مجرمين بسبب هيمنة لغة العنف على الواقع المعاصر وغياب المثل والقيم الدينية والأخلاقية الأمر الذي يجعل الفرد المعاصر يقف عند مفترق الطرق في التعامل مع الآخر الذي قد لا يتفق معه في أفكاره بل ربما يؤذيه ويلحق به أو بأسرته أو بأفكاره الأذى.. قد يبدو الإنسان المعاصر حائراً في التصرف في المواقف الشائكة بعد أن أسهمت التربية الحديثة في حشو دماغه ورأسه بالمعلومات التي تضيع في زحمة الحياة والتي لا تعلمه مهارات التفاعل الاجتماعي الصحيحة وبالتالي يبقى جانب مبتور في جوانب التربية المعاصرة لكنه في نفس الوقت جانب حياتي إذ كيف ينطلق الفرد في رسم سلوكياته مع الآخر.

هل يرد له الصاع صاعين؟ ويعيش متوثباً حذراً واضعاً يده على عاتقيه متأهباً لدخول المعركة في كل لحظة غير آبه بالنتائج والآثار فالمهم أن يكيل كيله على الآخرين وأن لا يقف ساكناً فيُتهم بالحماقة والضعف واللاأبالية.

أم انّه لابدّ أن يتعلم التريث ازاء المواقف الصعبة وأن يلتجأ إلى لغة الحوار والتفاهم هذا إذا كان ينظر إلى الآخر على انّه مثله في الإنسانية ومن حقه أن يمتلك التباين معه في الرأي والتعبير وهذه الثقافة التي تبدو هي الحلقة المفقودة في الواقع المعاصر بسبب التوجيه المكثف للإعلام نحو ثقافة العنف وبسبب غياب مفاهيم حياتية مثل حقوق الإنسان وكرامة الفرد وغيرها.

إنّ التسامح هو أحد سبل تعزيز العلاقات الإجتماعية بين الأفراد والتسامح يعني عفو الإنسان وحلمه عمن يؤذيه ويسيء معاملته أو يختلف معه في الرأي والعقيدة والذي قد يكون هو المنطلق في الإساءة والأذى من باب رفض الآخر المخالف.. فهو إذاً (القدرة على التفاعل الإجتماعي وإدارة الخلاف بصورة تعترف بالآخر ولا تلغيه). حيث إن لغة العنف هي الغاء الآخر أما لغة التسامح فهي الاعتراف بالآخر ولكن عبر مساحات يتطلبها البناء الإنساني والإجتماعي.

من هنا يكون التسامح جامعاً مع العفو والحلم إلى صفتين آخريين هما التحمل والمعاناة أو بالأحرى التحمل مع معاناة، لأن مسئلة التجاوز والغض عن الأذى – أياً كان – وعن التفاوت الفكري الذي يتخذ آليات المواجهة المتعددة تحتاج إلى التعلق بلجام الصبر الكاتم على الألم النفسي الذي يحدثه الموقف مع الآخر..

ولكن هذا لا يعني إنّ الإنسان المتسامح هو إنسان ضعيف غير قادر على الرد، أبداً.

ولا يعني التسامح الرضا بالاخطاء والظلم والحيف من الآخر، أبداً، فالتسامح ليس عملية تأييد أو موالاة لأن منهج عدم الرضا بالانحراف واضح وصريح.

فالتسامح إذاً يتجلى في مواقف الإنحراف والأذى مع وجود القدرة على الرد والإنتقام وهذه قمة الفضائل الإنسانية التي تشير إلى مقدار التسامي النفيس الذي ينظر إلى الآخر بما يحفظ له مكانته الإنسانية أي لا يلغي هذا الوجود الآخر رغم الخطأ والإنحراف وبالتالي فهو إعتراف (وعد الغاء) ضمن دائرة الكرامة الإنسانية (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70).

ويظهر التسامح في مواقع لا تكون على حساب الحقوق الإنسانية الأصلية كحق الحياة وحق الأمن، وقد تظهر في وقتنا المعاصر في التجاوز عن سفاهة الجاهلين واذاهم (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).

وكذلك في التعامل الإنساني مع الجاليات والأقليات والجماعات التي لا تؤمن بالإسلام (ولكنها لا تحاربه) كأصحاب الذمة وغير المسلمين القاطنين في بلاد المسلمين والذين يؤدون شعائرهم بكل حرية من باب (لا إكراه في الدين) وينالون حقهم في التعليم والعمل والسفر وغيره من حقوق المواطنة رغم الاختلاف العقيدي. ولهذا نجد الإسلام يحث على التسامح حتى مع أهل الكتاب (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46). ويبدو التسامح كواحد من أرقى صفات الرسول (ص) والتي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159).

فهو يتجاوز عن أخطائهم بالعفو ويُسقط عنهم العقوبة مع الاستغفار ثمّ هو لا يلغي وجودهم أو يقصيهم وإنما يشاورهم في الأمور وهذه قمة الإرتقاء الإنساني وإلى هذا أشار الشافعي.

سامح صديقك إن زلت به قدم **** فليس يسلم إنسان من الزلل

التسامح يؤدي إلى التعايش مع الآخر المخالف أو المخطىء. فالتسامح قد يفعّل مبدأ الانسحاب من المواجهة الفورية الحادة وهذا الانسحاب يكون عاملاً مساعداً في هدوء الطرف الآخر وتجديد التفكير في الأمر الواقع. ولعل فتوحات المسلمين العظيمة وسماحتهم الواسعة مع الكثيرين خير مثال لهذه المبادئ العليا.

 

- أهمية التسامح:

كل السجايا الأخلاقية لها إنعكاسات إيجابية طيبة على الفرد والمجتمع والأسرة أيضاً. إن شيوع ثقافة التسامح يؤدي إلى شيوع الأمن في المجتمع لأنّه يساهم في تقليل العنف أو عدم اللجوء إلى العنف كحل للمشكلة وكمخرج مؤقت للموقف، ولعل هذا الأمن هو أهم احتياجات الفرد سواء في الأسرة أو المجتمع. وهناك فرق كبير بين أن يشعر الأبناء إن أجواء الأسرة أجواء آمنة متسامحة تعفو عن الخطأ ولا تتجه للعقوبات القاسية أو إنّ الأجواء عكس ذلك في الحالة الأولى قد يعترف الطفل والزوجة بالخطأ والتقصير لأن مبدأ (لا تثريب عليكم) هو السائد وهو صمام الأمان للكل وهذا يؤدي إلى توجيه الخطأ بالأسلوب الصحيح كما انّه يعزز لدى الأبناء الشعور العميق بانسانيتهم (المحترمة) والتي لا تنتهك أمام أبسط التجاوزات كالذي نراه في كثير من الحوادث المؤسفة التي نسمعها ونقرأ عنها كل يوم في الصحف والإعلام.

وقد يكون من عوامل زيادة الثقة بين الزوجين من خلال ما يعززه الشعور بالاحترام والذي يترافق مع الفهم الصحيح لكينونة الإنسان بأنّه عرضة للخطأ والزلل (كل ابن آدم خطاء). وهذا يؤدي إلى إحترام الحقوق الزوجية مستقبلاً وعدم تجاوزها.

من ناحية أخرى تساهم ثقافة التسامح في تعزيز مهارات الإختيار الصحيح عند الأفراد، فمن الممكن أن يختار الفرد أو الزوج مثلاً الرد بالعقوبات القاسية والتجريح والضرب وربما بالسكوت والعفو وهذه لا تجعل الفرد أمام طريق واحد مسدود كما هو الحال لدى مريدي ثقافة العنف، كما انّه يساهم في تخليص الفرد من الضغط النفسي الذي يسيطر عليه نتيجة التفكير في الانتقام والبحث عن وسيلة ردع عنيفة وهذا ما يجعل الفرد المتسامح يتمتع بصحة نفسية عالية تساهم في تخليصه من كثير من الأمراض النفسية والجسمية ذات السبب النفسي والأمراض الجسمية وكما تساهم في تخليص الفرد من القلق والاكتئاب والتوتر وتعمق الشعور بالمحبة وتخفف الشعور بالكراهية، ولعل هذا يتوافق مع حديث الرسول (ص) من كثر عفوه مُد في عمره، فالذي يتسامح لا يعيش إضطراب التفكير اللاسوي في البحث عن وسائل للانتقام والثأر، كما إن مشاعر الكراهية والحقد والتي هي منشأ كثير من العلل لن تجد لها أرضاً خصبة، وإذا كان التسامح سبباً لقوة العلاقات الإجتماعية وديمومتها فإنّ الفرد المتسامح يكون ذا شخصية ناجحة تعزز لديه مشاعر الحب والود والتكيف مع المواقف المختلفة وهذه المحبوبية الإجتماعية من عوامل تحسين الصحة النفسية.

وبناء على كل ذلك فإنّ الشخص المتسامح يكون أكثر انتاجية وأكثر طاقة لأنّه لا يبعثر طاقاته في تصرفات هوجاء أو تفكير بالانتقام أو الأذى عبر آليات غير سليمة أبداً وهذا معناه زيادة الكفاءة الذاتية للأفراد المتسامحين. وإذا كان التسامح يعترف برفض ثقافة العنف فإنّه يفتح المجال مع الآخرين وفهم آرائهم وهذه تقوي مهارات الحوار والانصات والاستماع واللياقة الكلامية التي ربما تساهم في تغيير أفكار الآخرين وفق أسس عقلانية لأنّ الحوار الهادئ الهادف يوجب على صاحبه تجديد النظر في أفكاره.

وفي الحديث الشريف انّ المؤمن نصفه تغافل ونصفه تحمل أي يتغافل عن أخطاء الآخرين ولا يقف لهم بالمرصاد ولا يتخذ أسلوب المواجهة العنيفة بأي شكل من أشكالها وهو يتحمل مواقف الآخرين لنشر أجواء التسامح والتآخي.

 

- كيف نشيع ثقافة التسامح؟:

يتفق الجميع أن إشاعة ثقافة التسامح إنما تبدأ من الأسرة، فالبيت له أثر كبير في هذا الجانب فإذا كانت العلاقة بين الآباء والأبناء تقوم على لغة التسلط والإكراه والاستبداد فمن البديهي انّ البيت الذي تغيب عنه أجواء التسامح يكون عاملاً في نشر ثقافة العنف في جور ديكتاتوري لهذا يتعلمون الاستبداد بالرأي وعدم احترام الآخر أو رأيه، كما انّ النظام الديكتاتوري سواء في الأسرة أو الدولة يعتبر من أحد أسباب شيوع لغة العنف وغياب الأمن وإنعدام الثقة بين الأفراد.

كما إنّ هذه الأجواء تعزز الشعور بالبغض والحقد والانتقام.

ومن البديهي اننا نستطيع تعليم الأبناء الكثير من الأمور عن طريق الاقناع أو التوجيه الصحيح فإذا غاب هذا المفهوم فإنّ العقوبات والتهديد ستؤدي إلى تنفيذ الأوامر ربما لكن مع تعزيز الرغبة بالانتقام.

وإلى جانب إشاعة الأجواء المتسامحة والديمقراطية فهناك أمور أخرى منها العدالة بين الأبناء والتي تساهم في تعريف الطفل والمراهق بحقوقه وحقوق الآخرين وكما إن تعزيز التنافس الشريف أو الصحيح يُنمى لدى الأولاد والاعتراف بمهارات الآخرين وما يمتلكونه من قدرات فقد يكون من الضروري أن نُعلم الأبناء تقديم التهاني في المسابقة إلى الفائزين فهذه تعزز لديه الشعور بحب الآخرين وإحترامهم وتمني الخير لهم مما يساعد في تدريب الأولاد على مقدمات التسامح.

شيء مهم يجب أن يعرفه الأولاد إنّ التسامح ليس الإنسحاب من الموقف وهو ليس ضعفاً بل قوة نحتاج إلى تعبئتها في المواقف الحرجة، وقد يكون من الضروري تعزيز الثقة بالنفس لدى الأولاد وإشعارهم بقدراتهم وطاقاتهم وعدم تعزيز الشعور بالنقص والحقارة خاصة في مواقف الخطأ والفشل وإذا كان تقدير الطفل والمراهق لذاته سليماً صحيحاً فإنّه سوف يتقبل مسألة الخطأ والفشل وسينظر إلى نفسه على أنّه إنسان معرض للزلل والفشل وكذلك الآخرين وبالتالي فالفهم الصحيح للنفس يقود إلى فهم صحيح للآخرين الأمر الذي يقود إلى تقبل أخطاءهم والتغافل عنها في مواقع القدرة.. وتلعب لغة الحوار والتدريب على مهارات الإستماع دوراً كبيراً في ذلك، فإذا استمعنا لأولادنا وهم يعللون أخطاءهم ويبررون تصرفاتهم فإن ملكة الإنصات للآخرين ستتقوى لديهم مما يجعلهم مستمعين جيِّدين لأخطاء الآخرين وتقبل آراءهم والنظر بعمق لما يقوله الآخر.

وتلعب الصداقات دوراً كبيراً في إشاعة هذه الثقافة فالصداقة التي تقوم على الأنانية لابدّ وان تؤدي إلى العنف والهجوم ومتى ما قامت الصداقة على دعامة احترام الآخرين واحترام ثقافتهم والنظر إلى سواسية البشر فيالخلق والتكوين فهذه كلها تعزز التسامح.

تبقى دائماً العلاقة بين الزوجين هي نبراس هذه الثقافة وهي المرآة المعكوسة على الأولاد، ونفس الشيء يقال بالنسبة للمعلم وعلاقته بالطالب وخاصة في مرحلة الابتدائية حيث تكون مرحلة تنمية هذه الخصلة وتطبيقها على أرض الواقع مع طلبة آخرين يعيشون أجواء مماثلة في بداية التعلم.

وتبقى مجتمعاتنا بحاجة إلى تعزيز هذه الثقافة كي لا تطغى في المجتمع ظاهرة التعصب والتطرف التي تعزز مشاعر الحقد والكراهية تجاه الآخر.

يبقى أمر مهم أنّ الطفل يجب أن يتعلم كيف يأخذ حقوقه المشروعة ويعرف نظرة الآخرين إليه فلو تسامح مع آخر لابدّ وأن تكون النظرة إليه على انّه طفل شجاع إستطاع أن يعفو ويغفر، اما إذا نظر إليه الآخرين على انّه أبله وأحمق فإنّه سيسعى إلى رد الصاع صاعين في المرة القادمة.

إنّ الطفل يكتسب بالتعليم أسلوب القصاص والثأر والإنتقام ولهذا فالمطلوب إننا عن طريق التعلم أيضاً ينبغي أن نعزز ثقافة التسامح لديه عبر توجيه الإعلام بالشكل المعاكس الموجود عليه حالياً والذي يعتبر هو المتهم الأوّل في إقصاء ثقافة التسامح وشيوع لغة العنف حتى بين الصغار.►

ارسال التعليق

Top