• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أجواء المجتمع الإيماني

عمار كاظم

أجواء المجتمع الإيماني

إنّ أعظم المدارس الإنسانية هي التي ترى الفرد في أجواء المجتمع، والمجتمع مربّ الأفراد، وذلك لأنّ المجتمع أساس البركات المعنوية والمادّية، قال جعفر الصادق (عليه السلام): «لأهلِ الجنّة أربعُ علامات: وجهٌ مُنبسطٌ، ولسانٌ فصيحٌ لطيفٌ، وقلبٌ رحيمٌ، ويدٌ مُعطيةٌ».. فالحديث المذكور يتحدّث عن علامات السعداء من الأفراد أصحاب الجنّة ليذكر أربعة أُمور تنفع في ترسيخ الروابط الاجتماعية وبث بذور العواطف الإنسانية في أرض المجتمع: فالوجه الطلق المفعم بالرأفة والمحبّة، واللسان الناعم الشفيق وفي ذات الوقت الصريح والبليغ، والقلب الذي ينبض بالخير، واليد التي لا تتوقّف عن العطاء.. نعم، هذه هي علامات أهل الجنّة.. هؤلاء يعيشون النفس المفتوحة على الخير واللسان الفصيح والقلب المليء بالعاطفة واليد الكريمة.

إنّ المجتمع بناء إنساني مُعقَّد التركيب والتفاعل والحركة، تتكوَّن مفرداته من الأفراد، الأُسر، المؤسّسات، العشائر والقبائل وغيرها وعندما يحكم نسيج العلاقات وتُبنى روابط القربى على أُسس قانونية ونفسية وأخلاقية سليمة، فإنّ المجتمع ينمو ويتطوَّر وتقل مشاكله وأزماته، لاسيّما النفسية والأمنية والاقتصادية... إلخ. وإنّ من أوسع علاقات المجتمع هي علاقات ذوي القربى والأرحام، فعندما يتواصل هؤلاء يتحقَّق التقارب بينهم في السراء والضراء، ويشعر الفرد بأجواء نفسية وعاطفية متألِّقة، ويجد مَن يقف إلى جنبه في حالات المحنة ويشاركه في مسرّاته وأحزانه. إنّ هذا النمط من التواصل الاجتماعي هو الطريق إلى بناء مجتمع قوي متعاون متحاب متواصل.. فالواصلون للرَّحم بشِّروا بالموقع الرفيع، فقد ورد في الأحاديث: «صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسى‏ء الأجل»، «أعجل الخير ثواباً صلة الرَّحم»، «إنّ المرء ليصل رحمه، وما بقي من عمره ثلاث سنين، فينسئه الله ثلاثين سنة، وإنّ الرّجل ليقطع رحمه، وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيصيّره الله إلى ثلاثة أيام». أمّا القاطعون، فيكفي أنّ القرآن يصنّفهم في خانة المفسدين في الأرض، ويجعلهم ممّن يستحقّ الطّرد والإبعاد من رحمة الله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمّد/ 22-23)، وفي الحديث أيضاً: «لا يدخل الجنّة قاطع رحم».

إنّ صلة الرَّحم والبرّ يهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب، وفي المقابل: «إنّ الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحم»، وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام): «أعوذ بالله من الذنوب التي تعجّل الفناء». فقيل له: أويكون ذنوب تعجّل الفناء؟ قال: «نعم، ويلك، قطيعة الرَّحم». لهذا اعتبرت قطيعة ذوي الرَّحم من كبائر الذنوب وأشدّها وقعاً على النفس.. نقرأ هذا التحريم في قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمّد/ 22).. كلّ ذلك لصياغة المجتمع وحمايته من التقاطع والتدابر، وما ينتج عن ذلك من مخاطر تمزيق وحدة المجتمع وبُنيته الاجتماعية، وانعكاس ذلك على الوضع الخاص للأفراد والجماعات. وكما يأمر القرآن بالتواصل مع الأرحام وذوي القربى، فإنّه ينهى عن الوقوف معهم بالباطل ومعصية الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأنعام/ 152)، ذلك لأنّ الحقّ والعدل هما الأساس الذي تُبنى عليه الحياة في منهج القرآن، من غير أن يستثني أحداً من الناس.

أمّا لماذا سبب تركيز القرآن على صلة الرَّحم، فلأنّ الله رحيم وشفوق على عباده، إذ جعل من صلة الرَّحم وسيلةً تجعل الإنسان يُحتضَن، فلا يعيش وحيداً بما تعنيه الوحدة والعزلة.. عرف الله أنّ هذا المخلوق سيمرّ بلحظات ضعفٍ ووهن، وستمرّ عليه ضغوطٌ وظروف صعبة، وسيحتاج إلى مَن يكون بقربه ومن يقف معه، يتأثَّر ويؤثِّر، يساعِد ويُساعَد ويَدعَم ويُدعَم ويزور ويُزار... فالله خالق الحياة، يدرك كم أنّ الحياة الإنسانية من دون هذا الجزء التواصلي، تصبح جافّةً ومملّةً وقاسيةً وغير واقعيّة.. هي رحمة من رحمات ربّي الكثيرة لمن يتواصلون، بغضِّ النظر عمّن يقدّم أكثر من وقته واهتمامه وماله وسعيه.

ارسال التعليق

Top