• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أحق الناس بالإحسان

عفيف عبدالفتاح طبّارة

أحق الناس بالإحسان
 ◄عُرف الإحسان بمعنى الإنعام والتفضّل، إلا انّ معناه يتسع لأكثر من ذلك، فإذا رجعنا إلى معاجم اللغة رأينا معنى أحسن: فَعَلَ الحسن، ضد ضد أساء؛ والحسنة: هي الفعل الحسن.

والأفعال الحسنة تشمل كلّ خير، وكلّ معاملة ترقي وترفع من شأن الإنسانية وتهذب نفسية المرء وتقربه من خالقه، وعلى هذا المعنى جاءت وصايا القرآن في الدعوة إلى الإحسان والترغيب في إتيانه.

وانّ تعاليم القرآن في الإحسان تشهد بأنه كتاب روحي يرتقي إلى أعظم مراقي السمو، ويعلو على أي مذهب أخلاقي أو ديني، فقد عالج الإحسان بما يؤثر في الشخصية الإنسانية من ناحية دوافع العمل، وشرح صفات المحسنين، وعيّن فئات من الناس هم أحق بالإحسان من غيرهم، ودعا إلى الإحسان الذي يحقق للإنسانية المثل العليا التي لا زال يدعو إليها الفلاسفة ودعاة الإصلاح في العالم.

منزلة الإحسان في الإسلام: بيّن القرآن أنّ الإحسان يجب أن يكون الواجب الطبيعي للإنسان، وأنّ الله كما أحسن إليه بنعمه عليه أن يحسن بهذه النعم إلى الخلق، قال الله تعالى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص/ 77).

وبيّن القرآن انّ الإحسان تعود منفعته إلى المحسن. قال الله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء/ 7).

وهذا حقّ، فإنّ المحسنين يشعرون بطمأنينة لا يشعر بها غيرهم، ويكفي ما يقابلون به من الذين يحسنون إليهم من الود والمحبة والتقدير مما يدخل السعادة إلى نفوسهم، بينما الإساءة تجعل صاحبها منبوذاً محتقراً لا يهنأ له عيش ولا يقر له قرار، لهذا أمر الله بالإحسان وألح عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل/ 90).

كما انّ القرآن رفع منزلة الإحسان وقرنه بالإخلاص لله ووصفهما بأنهما أرفع ما يتحلى به الإنسان المتديّن. قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء/ 125).

والمعنى: ليس أحد أحسن ديناً ممن أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا تعرف لها رباً ولا معبوداً سواه (وهو محسن) أي عامل للحسنات تارك للسيئات.

ويبيّن الله ما يترتب على الإحسان: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) (لقمان/ 22). أي فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان الله.

ورغّب الله في الاتيان بالحسنات بقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام/ 160).
ووعد الله المحسن بحسن المثوبة والأمان يوم القيامة: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (النمل/ 89).

من صفات المحسنين: فمن صفات المحسنين في القرآن قيامهم أكثر اللّيل للصلاة، وأنّهم في أواخر الليل يطلبون المغفرة من ربهم، ومن صفاتهم انّهم يجعلون في مالهم نصيباً للسائل والمحروم يسد به حاجته. قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 15-19).

والجهاد في سبيل الله، بالنفس أو بالمال، هو من الإحسان. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).

واتباع ما جاء به الرسول محمّد (ص) هو من الإحسان قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (الزّمر/ 33-34). ومعنى: (والذي جاء بالصدق) هو محمّد (ص) (وصدّق به) هم اتباعه الذين صدّقوا برسالته وساروا على هديه.

والعفو من الإحسان. قال الله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة/ 13).

والصبر هو أيضاً من الإحسان، قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود/ 115).

انظر كيف رغب القرآن بالإحسان في تذييل الآيات التي ذكرناها ووعد المحسنين بأرفع ما تصبو إليه النفس، وذلك لأنّ المحسنين ذوو إحساس مرهف وضمير حي فربما يصيبهم الجحود من قومهم أو يجور عليهم الزمان، هنا تسرع وصايا القرآن لمواساتهم وتخفيف ما بهم وتبشرهم برضوان الله، فتمد المحسنين بقوة روحية تثبت أقدامهم وتطمئن قلوبهم.

كما انّ الإحسان يحتاج إلى تضحية ومجاهدة للنفس من المحسن وعدم الانقياد للنفس الأمارة بالسوء، لهذا رغب الله في الإحسان ببيان فضله وثوابه للتأثير على النفس الإنسانية لاستساغة الإحسان وجعله من طبيعتها.

أحق الناس بالإحسان: جعل القرآن فئات من الناس أحق بالإحسان إليهم من غيرهم، وأولهم: الوالدان لما لهما من الفضل العظيم، ولم يكتف القرآن بالدعوة إلى الإحسان إليهما بل حدّد كيفية معاملتهما بما يكشف لنا أروع مثل في السمو الخلقي، قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 23-24).

أوّل ما يطالعنا من هذا النص القرآني انّ الله قرن الإحسان للوالدين بعبادته، ثمّ فصّل ما يجب من الإحسان إليهما وخصوصاً عندما يصل الوالدان إلى حال الضعف أو العجز في آخر العمر، وأمر بأن يتبع معهما أموراً خمسة هي غاية ما يصدر عن الإنسان من المعاملة الحسنة:

أوّلاً: ألّا يتأفف من شيء يراه منهما.

ثانياً: ألّا ينغص عليهما بكلام يزجرهما به.

ثالثاً: أن يقول لهما قولاً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام.

رابعاً: أن يتواضع لهما تواضعاً مقروناً بالرحمة، وقد مثّل كيفية هذا التواضع بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه فإنّه يخفض له جناحه بحنو.

خامساً: أن يدعو الله أن يرحمهما، عرفاناً بالجميل.

ويخص القرآن بعض الناس بالإحسان لما بينهم وبين المحسن من رابطة القربى والجوار، أو لفئات من الناس فقدوا المعين والنصير فكان الواجب المبادرة إلى الإحسان لهم، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء/ 36).

جمعت هذه الآية من أنواع الإحسان ما لو عمل به الناس لساد الخير فيهم، من ذلك: عبادة الله وحده، والإحسان إلى (الوالدين) و(ذي القربى) من أخ وعم وخال وأولاد هؤلاء وسائر الأقربين وبذلك تصلح الأُمّة لأنها تتكون من مجموعة أسر. ثم أمر الله بالإحسان إلى (اليتامى) لأنّهم فقدوا المعين وهو الأب وقلما تستطيع الأُم لوحدها أن تقوم بتربيتهم وإعالتهم. وإذا أهمل اليتيم أصبح وجوده ضاراً على الأُمّة لجهله وفساد أخلاقه. وكذلك أمر الله بالإحسان إلى (الجار ذي القربى) أي القريب الجوار، وكذلك (الجار الجنب) أي البعيد الجوار، وبذلك تتوثق المحبة بين أهل الحي الواد فيتعاونون على الخير. ثمّ أوصى الله بالإحسان إلى (الصاحب بالجنب) وهو الرفيق في سفر أو مدرسة أو صناعة أو عمل، والإحسان إليه يؤدي إلى صداقة متينة تنتج أبرك الثمرات. ثمّ أوصى الله بالإحسان إلى ابن السبيل وهو المسافر الذي فقد ماله في الطريق قبل أن يبلغ بلده وكذلك (وما ملكت أيمانكم) أي إلى ما في ملك الإنسان من الرقيق ويشمل هذا: تحريرهم وعتقهم وحسن معاملتهم.

أي خير عميم يغمر الناس إذا سيطرت عليهم صفة الإحسان انّهم أحرى بأن يحققوا المدينة الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة والتي طبقها الإسلام في أوّل عهده.►

 

المصدر: كتاب روح الدين الإسلامي

ارسال التعليق

Top