• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أسئلة النظام العربي الجديد

بدر الإبراهيم

أسئلة النظام العربي الجديد

ليس من المناسب في اللحظة الراهنة إصدار أحكام على الثورات العربية ومآلاتها، ولا تقييم تجربة القوى السياسية التي صعدت إلى الحكم بعد الربيع العربي في أكثر من بلد، فما زلنا في بداية المشوار، وما زالت الثورات مستمرة في محاولة تحقيق أهدافها، وللتو تبدأ القوى السياسية الصاعدة حديثاً إلى الحكم في تونس ومصر والمغرب تجربتها في الحكم، وهو ما يعني أن علينا انتظار ما ستسفر عنه التجربة، وما ستنتهي إليه الثورات، لنتمكن من إصدار الأحكام وتقييم الأحداث الجارية بعقل بارد ورؤية موضوعية، لا تعكرها انفعالات اللحظة وضبابية الرؤية أحياناً والتباس الأمور في بعض الحالات العربية.
لكن من المناسب جداً في هذه اللحظة طرح الأسئلة حول شكل وطبيعة النظام الجديد الآخذ في التشكل في أكثر من بلد عربي، وطرح الأسئلة هنا يستهدف تحديد مدى قدرة القوى السياسية الحاكمة اليوم والمقبلة على الحكم غداً في عدة دول عربية على ترجمة الفعل الثوري في الشوارع والميادين العربية إلى تغييرات كبيرة في بنية الدولة، تفضي بالضرورة إلى إعادة بناء النظام العربي على أسس جديدة، مما يعني أن هذه الأسئلة تقارب بالضرورة حجم الاختلاف الذي قد تحدثه تجربة القوى السياسية الحاكمة عن الأنظمة العربية القديمة الساقطة بفعل الثورات الشعبية.
النقاشات تدور في العالم العربي منذ انطلاق الثورات حول ضرورة التغيير، وأنه أساس انطلاق هذه الثورات بعد أن وصل النظام العربي الرسمي إلى قمة الفشل والانحطاط على كافة الأصعدة، صحيح أن المطلب الأساسي الذي يدور حوله النقاش هو التحول الديمقراطي الذي يترجِم مطلب الحرية والكرامة وإسقاط القمع والاستبداد والعقلية الأمنية في البلدان العربية، لكن قضايا أخرى على رأسها الاقتصاد والأمور المعيشية تعني قطاعات واسعة ممن أعياهم الفشل الاقتصادي والتنموي والنهب المنظم للمال العام على مدى العقود الماضية، كما أن أسئلة السيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي وطبيعة الدور الذي ستلعبه الأنظمة الجديدة في الإقليم تُطرح مباشرة في أي حديث عن إعادة بناء الدولة في العالم العربي.
 
سؤال الديمقراطية
لعل من حسن الحظ في مسألة الديمقراطية أن الثورات العربية قامت بلا قائد كاريزمي ملهِم للجماهير، وبدون حزب أو تيار سياسي يقوم بتعبئة الجماهير الثائرة وفق أيديولوجيته، كما حصل في الثورتين الروسية والإيرانية مثلاً، فما حدث أن الثورات العربية قامت بلا رأس ولا قيادة واضحة، كما أن القوى المنظمة سياسياً في البلدان العربية تفتقر غالباً لقيادات كاريزمية تتمتع بجماهيرية غير اعتيادية كحال القادة التاريخيين للثورات، مما يجعل استفراد تنظيم أو تيار سياسي بتشكيل النظام السياسي الجديد صعباً للغاية، ويجعل التوازن بين القوى الشبابية والقوى السياسية داخل الحالة الثورية فرصة لإقامة نظام ديمقراطي.
لكن -ومن جهة أخرى- يبدو عدم وجود نخب سياسية ناضجة في بعض دول الربيع العربي إشكالية تسمح ببقاء المتنفذين من النظام السابق في مواقع السيطرة والنفوذ، وتمنع تحول الثورة إلى فعل سياسي منجِز في المؤسسات، كما أن المخاوف تثار بين فترة وأخرى حول القوى الإسلامية التي تتمتع بتنظيم أكبر بمراحل من بقية القوى السياسية مكنها من الصعود إلى الحكم في أكثر من بلد، والمخاوف تتعلق أكثر بالإخوان المسلمين في مصر من حيث سياستهم الاستحواذية على السلطة في مرحلة بناء الدولة الجديدة، وعدم الاطمئنان إلى التزامهم بمدنية الدولة، والتخوف مما يمكن أن يقدموه في مجال الحريات، خصوصاً أنهم لا يفصلون بين ما هو دعوي وما هو سياسي، وأن حزب الحرية والعدالة ليس إلا ذراعاً سياسية لجماعة دينية، عكس تجربة حركة النهضة في تونس التي فصلت بوضوح الدعوي عن السياسي.
لكن على من يناقش هذه المخاوف أن يأخذ بالاعتبار أنّ القوى العلمانية لديها قابلية لاستبداد علماني في مقابل ما يقال عن استبداد ديني تؤسس له القوى الإسلامية، وقد كانت الأنظمة الاستبدادية الساقطة ترفع شعارات العلمانية في مواجهة القوى الإسلامية، كما أنه لابد من التفريق بوضوح في هذا النقاش بين التخوف المشروع من أفكار تيار ما واستخدام هذا التخوف لتخويف الناس من الديمقراطية ومساندة قوى الاستبداد المتمثلة في بقايا الأنظمة السابقة، أو التحريض السياسي والأمني على القوى الإسلامية، وهو ما يفعله كثيرون باسم حماية المدنية من الاستبداد الديني.
الخوض في نقاش المخاوف يطول، لكن النتيجة الحاسمة التي يصل لها المؤمنون بالديمقراطية هي التركيز على التأسيس لنظام ديمقراطي يحكم فيه من يحكم طالما هو ملتزم باللعبة الديمقراطية، كما أن من حق القوى الإسلامية أن تقدم مشروعها في السلطة ليمكن لاحقاً الحكم عليه، والواقع أن الكرة اليوم في ملعب القوى الإسلامية لتثبت عملياً انحيازها لقيم الديمقراطية وتبدد المخاوف حول إمكانية استئثارها بالحكم.
ويبقى أفراد الأنظمة السابقة من العسكريين والمدنيين -أو ما يمكن تسميته "الدولة العميقة"- العائق الأكبر في وجه التحول الديمقراطي، وهو ما يجعل التزام القوى الثورية كافة بالتنسيق مع بعضها وتأجيل تناقضاتها الفكرية والأيديولوجية لمصلحة أولوية التحول الديمقراطي ضرورة في هذه المرحلة، على قاعدة أن المعركة بين ديمقراطيين وقوى مساندة للاستبداد، ورفض منطق الصفقات بين التيارات الحاكمة وبقايا الأنظمة برعاية غربية هو رفض لتقديم المصالح الحزبية على أولوية الديمقراطية.
لا يمكن توقع إجابة سريعة على سؤال الديمقراطية عربياً في الفترة المقبلة، فالمسألة بحاجة إلى وقت لتترسخ في ثقافة الناس والقوى السياسية والمدنية، وهذا أهم بكثير من الدستور المكتوب، فالدستور يؤسس لشكل النظام، لكن الممارسة السياسية على مدى سنوات هي وحدها القادرة على ترسيخ دعائم النظام الديمقراطي.

سؤال الاقتصاد
لا يمكن استبعاد العامل الاقتصادي من كل الثورات التي حدثت في العالم العربي، فالفقر والبطالة والفساد المالي الضخم عوامل ساعدت في إشعال فتيل الثورات، مما يعني أن الشعوب تتوقع في المرحلة الجديدة أن يحصل تطور ملحوظ في أوضاعها المعيشية، تشير إلى ذلك الإضرابات والاعتصامات الفئوية والعمالية التي تتمحور حول الأوضاع المعيشية البالغة السوء في دول الربيع العربي، وتبدو القوى الحاكمة حديثاً مدركة لأولوية التحدي الاقتصادي على ما عداه من أمور.
قامت الأنظمة الاستبدادية الساقطة بتطبيق سياسات نيوليبرالية خاصة في السنوات الأخيرة من حكمها تعتمد على الخصخصة والاقتصاد الاستهلاكي واحتكار مجموعة من رجال الأعمال للثروة، إضافة إلى الاعتماد على المعونات الاقتصادية الغربية ووصفات البنك الدولي والقروض التي يمنحها، وساهم هذا النموذج -بما حمله من فساد المجموعة الحاكمة ونهبها المستمر والمتصاعد للمال العام- في زيادة الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمعات العربية وبالتالي زيادة نسب الفقر، وهو ما أدى إلى انتفاضات وتحركات متعددة ضد سياسات الإفقار هذه انتهت إلى غضب شعبي متفجر بثورات شاملة.
يبدو أن بعض القوى الإسلامية الحاكمة تميل إلى تكرار هذا النموذج بصيغة أقل حدة وربما بحرب شاملة على الفساد ونهب المال العام، فهذه القوى تستشعر عمق الأزمة الاقتصادية، وتسمع صراخ الأفواه الجائعة المتزايد مع الوقت، وتعرف أن عدم نجاحها اقتصادياً في معالجة الأزمات المعيشية المتراكمة يعني فشل تجربتها في الحكم، لكنها قد تختار الخيار الخطأ إن هي لم تتمكن من تكوين رؤية اقتصادية متكاملة، واكتفت بالحصول على المزيد من القروض والمعونات من دول مختلفة، واعتمدت فقط على تفعيل قطاع السياحة واجتذاب رؤوس أموال أجنبية، دون العمل على بناء اقتصاد إنتاجي يقيم صناعة وطنية تنافس الدول الأخرى.
مارست جميع الدول الصناعية سياسات دعم واضحة لصناعاتها في بداياتها وحمتها من المنافسة الخارجية عبر فرض رسوم جمركية عالية على البضائع المستوردة المشابهة لبضائعها المصنعة محلياً، وبقيت هذه الدول تدعم صناعاتها حتى تأكدت أنها قادرة على المنافسة. ينطبق الأمر على الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي تعتمد سياسات اقتصادية ليبرالية، وعلى الدول الآسيوية الصاعدة اقتصادياً، فلم يكن من الممكن أن تنهض هذه الدول اقتصادياً دون بناء اقتصاد إنتاجي يضمن استقلالية اقتصادية وبالتالي استقلالية سياسية.
إن إغفال العمل على تطوير الصناعة الوطنية وبناء اقتصاد إنتاجي يجعل القوى الحاكمة في دول الربيع العربي تعيد إنتاج سياسات الأنظمة السابقة في اعتمادها الكامل على المعونات والمساعدات الخارجية، وفي دورانها في دوامة الترهل الاقتصادي، ويدخلها في المنظومة الاقتصادية الغربية بما يضيّع استقلالها الاقتصادي والسياسي ويجعلها في مواجهة شروط تكريس الهيمنة.
لا وجود لتنمية مستدامة دون الاعتماد على الذات أولاً، ولا يعني ذلك عدم التعاون مع الآخرين، بل إن المطلوب هو تنويع العلاقات الاقتصادية وتوسيعها بحيث لا يكون التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي باتجاهٍ واحد مع الغرب، فاليوم نشهد صعوداً لدول مجموعة "بريكس" الأكثر نمواً على المستوى الاقتصادي عالمياً، وهذه الدول يمكنها أن تفيد أيضاً في دعم الاقتصادات الوطنية الناشئة في دول الربيع العربي، لكن من يفكر في اتجاه واحد وبنفس العقلية السابقة قد لا يفهم هذه المسائل، فيعيد إنتاج سياسات الأنظمة السابقة ويقضي على استقلاله الاقتصادي والسياسي.

سؤال السياسة الخارجية
كان الدور الإقليمي الذي تقوم به الأنظمة السابقة يقتصر على أداء الأدوار المطلوبة أميركياً وإسرائيلياً في المنطقة، ويتوقع الناس في دول الربيع العربي سياسات أكثر استقلالية وأكثر قرباً من القضايا العربية الرئيسية التي تهم الأمة، وبالتالي سياسات أكثر تشدداً تجاه العدو الصهيوني، وندية في التعامل مع الدول الغربية ومع القوى المختلفة في الإقليم والعالم.
تبدو بعض القوى الإسلامية منشغلة بإبداء براغماتية مفرطة عبر إعطاء تطمينات غير ضرورية أحياناً للغرب وحتى لإسرائيل، ويمكن تفهم عدم الرغبة في توتير الأجواء الإقليمية الآن والتفرغ للملف الداخلي، لكن ما لا يمكن فهمه هو المبالغة في تحقير الذات وتضخيم قوة الآخرين لدرجة عدم اتخاذ موقف حتى الآن من أبسط الأشياء، كفتح معبر رفح للإشارة إلى السيادة الوطنية وتغيّر سياسات المشاركة في تجويع الفلسطينيين، والبدء بالإيمان بالضعف بهذه الطريقة لا يبشر كثيراً بعودة استقلال القرار السياسي.
من الواضح أن الولايات المتحدة تسعى لتعميم النموذج التركي على الحالات الإسلامية في دول الربيع العربي، فهي تنظر إلى القوى الإسلامية هذه كشريك معتدل في الحرب على الإرهاب، ولبلدانها كمناطق نفوذ رئيسية في وجه صعود روسيا والصين، وستعمل على استيعابها ضمن المنظومة الغربية مع الحرص على دور أكثر فاعلية لها ضمن هذه المنظومة وعلى إنعاشها اقتصادياً.
لكن الأخطر يتمثل في ذوبان محوريْ الاعتدال والممانعة وتحولهما بوضوح شديد إلى محوريْ السنة والشيعة في المنطقة.
إن سؤال السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي والسياسي مطروح بقوة في دول الربيع العربي، فدولة ديمقراطية تابعة تعني أننا لم نتقدم كثيراً على صعيد تحقيق مشروع نهضوي عربي.

ارسال التعليق

Top