• ١٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إيماءات مختلفة في لغة الجسد

إيماءات مختلفة في لغة الجسد
 إنّ في لغة الجسد بالإضافة إلى إيماءات وحركات أعضاء الجسد عناصر أخرى متعددة تشكّل مفتاحاً ومرشداً إلى شخصية الآخر وحالته النفسية وقد تتواجد هذه العناصر منفردةً أو تتداخل بعضها مع البعض الآخر أو مع بعض الإيماءات المختلفة.   - الوضعيات: يمكن فهم الكثير عن الآخرين من خلال تفسير وضعياتهم بما يفيد كثيراً قبل التقدم منهم وفتح باب الحوار معهم.   - وضعية القامة المنتصبة: تعبّر هذه الوضعية عن كون صاحبها شخصاً واثقاً من نفسه ومن مقدرته الذاتية وربما ميّالاً إلى السيطرة، لكنها قد تكون أيضاً مجرد وضعيةٍ مكتسبة بسبب ممارسة مهنة معينة لوقتٍ طويل كالخدمة العسكرية مثلاً.   - وضعية القامة المنحنية إلى الأمام: على نقيض سابقتها تعبّر هذه الوضعية عن ضعف ثقة صاحبها بنفسه وعن سلبية تقييمه الذاتي لشخصيته ومقدراته كأنه بهذه الوضعية يحاول أن يخفي نفسه عبر تهديله لقامته وطأطأتِه رأسَه نحو الأسفل كما تعبّر هذه الوضعية فيما تعبّر عن رضوخ منفّذها لسلطة الآخر. عد الوضعيتان آنفتا الذّكر وضعيتين متطرّفتين نسبياً، بمعنى أنّه لا يمكننا رؤيتهما بهذا الوضوح بين الناس فمعظمهم يتّخذ وضعيةً تتراوح سِماتها بين كليتهما، لذا ينبغي ملاحظة وضعية المرء المراد فهم شخصيته بدقة شديدة للتمكُّن من نسبها بالشكل الصحيح إلى إحدى الحالتين المذكورتين مع الإلمام بالظروف المحيطة بالشخص الذي نحن بصدده، فقد نراه يتخذ وضعية القامة المنحنية المتهدّلة على الرغم من تمتّعه بثقةٍ جيِّدةٍ بالنفس مدفوعاً إليها بالحرج الشديد من طول قامته الزائدة ناسياً أنّ القامة مُهدّلة الكتفين مُطاطأة الرأس أقل جمالاً بكثير من قامةٍ زائدة الطول! وبنفس الطريقة قد نرى فتاةٍ مراهقة تُهدّل كتفيها إلى الأمام بسبب خجلها المفرط من بروز ثدييها ناسيةً أنها تؤذي بذلك جمال جسدها وربما بشكلٍ نهائي.   - الوضعيات الناشئة عن نوع المهنة: تؤثّر مهنة المرء عادةً على شكل وضعيات جسده وقد ذكرنا فيما سبق كيف يكتسب الأشخاص الذين يعملون لفترةٍ طويلة في الخدمة العسكرية قامةٍ منتصبة على نحوٍ غير عادي، وعلى نقيض هؤلاء نلاحظ ساعاتٍ طويلاً في العمل على الآلات الكاتبة أو الحواسيب أو حتى في قراءة الكتب ينتهي الأمر باكتسابهم وضعيات جسدية غير سوية يعنقٍ منحن للأمام وكتفين متهدّلين على الأغلب.   - اعتماد الوضعية على الحالة النفسية: تعتمد وضعية الشخص إلى حدٍّ ما على حالته النفسية، إضافةً على نموذج شخصيته، فإذا كان الشخص سعيداً متفائلاً يشعر بالرضى عن نفسه تراه غالباً يسير بطريقةٍ مفعمةٍ بالحيوية والنشاط رافعاً رأسه بشكلٍ يفوق المعتاد، وقد تراه يؤرجح ذراعيه بينما يخطو خطواتٍ أوسع مما هو مألوف. أما إذا كان صاحبنا يائساً محبطاً أو غير راضٍ عن نفسه وحياته، فإن كل تلك المشاعر السلبية تنعكس بوضوح على وضعية جسده الذي تراه متهدّلاً منحنياً نحو الأمام بكتفين رخوين ورأسٍ مطأطأ ووجهٍ كئيب القسمات، كأنّه يحمل على كاهله أثقال العالم بأسره! ومثلما أسلفنا في فقرةٍ سابقة فإنّ الحلتين اللتين وضعناهما هنا تعدان حالتين حديتين لا قد لا تطابقان تماماً وضعيات الناس من حولنا، لكن المشاهد اللبيب يستطيع أن يعرف إلى أي من الحالتين تعد وضعية جسد الشخص المدروس أقرب وأكثر شبهاً، وبالتالي على أيٍ من الحالتين النفسيتين النقيضتين تدل.   - الوضعية أثناء الجلوس: يمكن معرفة الكثير عن الحالة النفسية للمرء من وضعية وقوفه أو جلوسه كما من طريقته في السير، فإن رأينا شخصاً يجلس متهدّل اجس في كرسيّه أدركنا أنّه يحس ببعض المشاعر السلبية كأن يكون مُرهقاً، ضَجراً، أو يشعر بالوهن أو اللامبالاة منتظراً على الأغلب نهاية يوم عملٍ ثقيل لساعات بطئها. وكيف لا ندرك ذلك وأغلبنا يمر بمثل هذه الحال، إذ نعود من أماكن عملنا مُجْهدين بكل ما في الكلمة من معنى، نجرُّ أجسادنا المستنزفة الطاقة لنُلقي بها على أقرب كرسيٍ نجده وراء باب البيت! قد يتخذ الوضعية المذكورة مفرطة الرّخاوة شخصٌ فاتر الهمّة كسول لا يبذل أي مجهودٍ عضلي بل يبدّد الوقت بمشاهدة التلفاز غير آبهٍ بأي شيءٍ آخر. أمّا عن الوضعية النقيضة للأشخاص في حالة الجلوس فنلاحظ وضعيةً مغايرةً حيث يجلس الشخصض المدروس على حافة الكرسي بتشنجُّ واضح نستدلّ من خلاله على كونه شخصاً ذا مزاجٍ متوتّر عموماً أو في حالة نفسية آنية تتسّم بالتوتر لسبب ما، كأن يكون صاحبنا جالساً على تلك الشاكلة بانتظار دخوله للعلاج بين يدي طبيب الأسنان!   - خطوة المشي: يختلف اتساع خطوة المشي من شخصٍ إلى آخر تبعاً لعمر ذلك الشخص، حالته الصحية، لياقته البدنية، وحتى مكان إقامته، يبرز أثر العامل الأخير بمجرّد المقارنة بين سكّان القرى الصغيرة الهادئة وبين سكان المدن الكبيرة المزدحمة حيث تتسارع خطوات سكان المدن لسرعة سير الأحداث من حولهم، أو بسبب المخاوف التي تملأ نفوسهم مما قد تحمله اللحظة التالية من احتمالات الخطر أو الأذى. يمكن عموماً ملاحظة أنّ الأشخاص السعداء الذين يشعرون بالتفاؤل وبالرضا عن أنفسهم يخطون خطواتٍ رشيقةً وثابتة على نقيض أولئك الذين يشعرون بالكآبة والإحباط أو ينتقصون من قدر أنفسهم وملكاتهم مُكتَسبين طريقةً في المشي بطيئة الخطوات يَجرُّون أقدامهم خلالها بتثاقلٍ واضح. أما عن الأشخاص الذين نراهم يسيرون واضعين أيديهم في جيوبهم فقد يكون السبب هو شعورهم ببرودة الطقس، اللّهمّ إلا إذا كان الطقس دافئاً، حيث تنتهي حينئذٍ صحة ذلك التفسير ويحل محله اليقين بشعور أولئك الأشخاص بنوعٍ من العزلة المريرة والانطواء. وقد نرى أحد هؤلاء المبدّدين وقتهم بالمشي البطيء المتثاقل وقد راح يركل أشياء وهمية متخيَّلة من العدم لندرك أنّه غارقٌ في حالةٍ من القنوط واليأس أو في حالةٍ من التفكير العميق.   - الوقوف: تعد حالة الوقوف بقامة منتصبة حالةً متعبة نسبياً، لذلك يلجأ معظم الناس للاتكاء على أي شيءٍ قريب منهم (جدار مثلاً أو باب أو عمود إنارة) أي شيءٍ يخفف عنهم ثقل أجسامهم.   - الاتّكاء: قد يدل الجسم الذي نتكئ عليه في بعض الأحيان على حالتنا النفسية أو مشاعرنا، فقد يتكئ أحدنا على باب بيته الذي فتحه ليحاور بائعاً متجولاً وكأنّه يومئ بشكلٍ غير واعٍ إلى ملكيته لهذا البيت، مصرّاً في قرارة نفسه على منع هذا الغريب من ولوجه، أو ربما يتكئ بضعة شبّان كلّاً على سيارته بينما ينشغلون بالثرثرة مُظهِرين بشكلٍ غير واعٍ تَمتُّع كلٍّ منهم بملكيته لسيارته الخاصة، ومثلما تساعد الأشياء الصلبة التي يتكئ الناس عليها في فهم بعضٍ من حالاتهم الشعورية كذلك يساعد الأشخاص الآخرون الذين قد يتكئ هؤلاء عليهم في فهم تلك الحالات، فقد نرى شاباً يتكئ على صديقه بل بالأحرى شابةً تتكئ على صديقتها بينما يقفان مع مجموعةٍ من ضيوف آخرين في حفلةٍ ما توجد بينهم فتاةٌ جميلة أو جذابة مشيرةً بوضعيتها اللاواعية تلك إلى تمسكها الصريح بذلك الشريك، وقد تُحوَّر وضعية الاتكاء على الآخر بدلالتها على التملك إلى وضعية أكثر لطفاً، كأن يضع أحد الشريكين ذراعه حول الآخر أو يمسك بيده مرفق ذلك الشريك.   - الاستلقاء: تُنبئ الوضعية التي نستلقي بها عن بعض صفاتنا أو حالاتنا النفسية تماماً مثلما تفعل وضعيات وقوفنا وجلوسنا لكن إمكانية إدراك الآخرين من حولنا لما تُنبئه وضعيات استلقائنا أقل بكثير من تلك المتاحة عبر وضعياتنا الأخرى لأننا ننفّذ الاستلقاء بشكلٍ أكثر خصوصيةً وأمام قلةٍ من الأشخاص الذين تربطنا بهم صِلات عميقة وحسب.   - وضعيات النوم: يتّخذ بعض الأشخاص خلال نومهم وضعية الجنين في رحم الأُم يكوَّرون أجسادهم بحيث تلاصق الركبتان الصدر وتثني الذراعان أمام الجذع. تعبر هذه الوضعية عن حالةٍ من انعدام الشعور بالأمن والطمأنينة لدى صاحبها، لذلك فهو يلتمس وبشكلٍ غير واعٍ الأمن والحماية اللذين كان ينعم بهم في دفء، رحم الوالدة وهنالك أشخاصٌ يتّخذون خلال نومهم وضعية تدعى الوضعية نصف الجنينية وهي من أكثر وضعيات النوم شيوعاً، حيث تتخذ الركبتان مع الصدر، والذراعان مع الجذع نفس الوضع السابق إنما بشكلٍ أقل إحكاماً وتكوراً وبحيث تسمح للنائم بالاستدارة في فراشه بسهولةٍ أكبر وتنبئ هذه الوضعية عن شعور أقل عمقاً بفقدان الأمان، وعن شخصية أكثر اتّزاناً. أما عن الأشخاص الذين ينامون متمددين على ظهورهم بشكلٍ منبسط وبحيث تستلقي أطرافهم بحريّة فهم أناسٌ انبساطيون ميّالون إلى الثقة بأنفسهم مع شعور نسبي بالأمن والطمأنينة كيف لا وطريقة اضطجاعهم هذه توحي بأنّهم لا يشعرون بوجود أي خطرٍ يتهدّدهم ليحموا أنفسهم منه على نقيض الأشخاص الذين ينامون عادةً متمدّدين على وجههم وبطونهم باسطين أطرافهم على أوسع مساحةٍ ممكنةٍ من الفراش وكأنّهم يشعرون بحاجتهم إلى التحكم بسير حياتهم بشكلٍ أكثر تأثيراً مع إحساس واضح بضرورة الاحتماء من خطرٍ ما في المحيط.   - مناطق الفراغ: يتعلق جزءٌ مهم من التواصل غير الكلامي بالفراغ الموجود بين الأشخاص المتحاورين فعندما يلتقي شخصان للمرة الأولى تكون المساحة المثالية بينهما من القرب بما يكفي لإظهار اهتمام أحدهما بالآخر دون أن يصل قُربها من حَدّ إزعاج أي من الشخصين بين الأشخاص المتحاورين إلى مناطق أربعة نستعرضها فيما يلي:   - المنطقة الحميمية: تمتد المسافة المتعلقة بالأشخاص الذين تربطهم صلاتٌ حميمة بين الصفر وخمسين سنتيمتراً حيث يُسمح بالاقتراب ضمن هذه المنطقة التي تُدعى بالمنطقة الحميمية فقط للأزواجن العشاق، الأبناء، الوالدين، وأفراد الأسرة والأشخاص المقرّبين جدّاً من المرء كالإخوة، الأخوات، والأصدقاء الحميمين وحسب. كما يُستثنى من هذه القاعدة أصحاب المِهَن التي تستوجب الاقتراب المفرط من الشخص المعنيّ مثل الأطباء، أطباء الأسنان، ومصفَّفي الشعر.   - المنطقة الشخصية: تمتد هذه المنطقة من 50 سم على 25.1م ويشغلها الأشخاص المتواجدون حول المرء في المناسبات الاجتماعية المختلفة بحيث تتيح لهم هذه المساقة أن يتعارفوا ويتسلّوا بشكلٍ مريح للجميع ودون أن يحسّ أيٌ منهم بتمادي الآخر.   - المنطقة الاجتماعية: تمتد هذه المنطقة من 25.1م إلى 4م ويشغلها عادةً أشخاص غرباء نضطر إلى التواصل معهم في حياتنا اليومية مثل الباعة، سُعاة البريد، ورجال الشرطة.   - المنطقة العامة: يشغل هذه المنطقة والتي تمتد من 4م فما فوق أشخاصٌ يستمعون مثلاً إلى محاضرةٍ في مكانٍ عام تبتعدين بهذا القَدْر عن الشخص المحاضِر كما ويبتعد جمهور المشاهدين لعرضٍ مسرحيٍّ ما عن الممثلين بمسافةٍ مماثلة.   - الانتهاك المفاجئ للمناطق المحيطة بالشخص: إذا دخل أحد الأشخاص في المنطقة الحميمية الخاصة بأيٍ منا تحدث على الفور تغيراتٌ فيزيولوجية في أجسامنا حيث يرتفع مستوى إفراز الأدرينالين بشكلٍ كبير ويتسارع خفقان القلب كما يتزايد تدفق الدم إلى الدماغ لتعبر هذه الظواهر جميعاً عن تأهُّب الشخص الذي تمّ اقتحام الحيّز الخاص به للقيام بردّ الفعل المناسب فإن كان المقترب منه محبوباً أو عاشقاً اتّخذ ردّ الفعل شكلاً عاطفياً أما إذا كان ذلك المقترب غريباً فلابدّ أن يكون ردّ الفعل المناسب صدّاً حازماً أو مُسارعةً إلى الهروب! قد نلتقي في حياتنا اليومية بشخصٍ ما للمرة الأولى حينها ينبغي على كلّ منّا التزام الحذر من إمكان اقتحامه دون قصد للمنطقة الحميمية الخاصة بذلك الشخص، وتصعب هذه المهمة أكثر كلما كان واحدنا من ذوي المزاج الانبساطي بإفراط الذين يرفعون الكلفة بينهم وبين الآخر مازحين معه وربما محتَضنين كتفيه بإحدى ذراعيهم، وكل ذلك قبل أن يتوفر بينهم وبين الحدّ الأدنى من التعارف الكافي لفهم شخصيته ونوع المعاملة التي يرتاح إليها. إنّ لمثل هذا التمادي المبكّر على خصوصية ونوع المعاملة التي يرتاح إليها. إنّ لمثل هذا التمادي المبكر على خصوصية الآخر الكثير من النتائج السلبية وبخاصة عندما يكون ذلك الشخص الآخر عندما يكون ذلك الشخص ممن ينزعجون من التواصل البداني مع شخصٍ غريبٍ عنهم حتى لو بدا ذلك أمراً غير متعمّد أو مجرد مزاج، لذا تنبّه قارئي الكريم مما قد يجرّه عليك مثل هذا التصرف العفوي فإن كشفت تعمل بائعاً مثلاً وارتاد زبون جديد متجرّك فوضعت عن غير قصدٍ ذراعَك على كتفه أثناء محاولاتك الحثيثة لإقناعه بشراء سلعةٍ ما فلا تستبعد أن ينفرد ذلك الزبون من تصرّفك العفوي وتخسر الصفقة المرجوّة بل وربما الزبون الجديد الذي كان متجرك على وشك أن يكسبه كزبونٍ دائم! على الرغم مما سبق من ملاحظات ومحاذير إلا أن اقتحام المنطقة الحميمية الخاصة بالآخر قد يكون أحياناً أمراً لا مفرّ منه كما في حالة أناسٍ تكتظّ بهم حافلةً أو مقصورة في قطار، حيث يستحيل في مثل تلك الحالات أن تحمي المرء منطقة الحميمية من اقتحام الغرباء لها كما يستحيل عليه على الرغم من لياقته وحذره ألا يفهم مثيلاتها للمحيطين به المتراصيّن حوله في ذلك المكان المحدد المزدحم. يمكننا أن نلاحظ في ظروف وأماكن من هذا النوع أنّ الأشخاص الذين يصرُّون على حماية المنطقة الحميمية الخاصة بهم يكونون على الدوام متأهَبين للردّ الفوري على أي محاولةٍ لاقتحامها من قبل أي شخصٍ غريب، معبَرين على طبيعتهم النفسية تلك وعن تأهُّبهم ذاك بأساليب كثيرة إذ يتحاشى واحدهم إمكان حدوث أي تواصلٍ عبر العيون بينه وبين الغرباء خشية أن يجد أي من أولئك في ذلك التواصل باباً لفتح حوارٍ شخصي معه. كما ويحاول ألا يُبدي أي انفعالات حتى ولو داس شخصٌ ما في ذلك الزحام على قدمه لأنّه يرى في إظهار تلك الانفعالات إقراراً علنياً عن وجود غيبٍ ما في منطقته الحميمية كما قد يعمد صاحبنا. وكنوعٍ من الإصرار على قدسية تلك المنطقة وحمايتها من تَعدّي الغرباء إلى إخفاء وجهه خلف صفحات جريدةٍ أو كتاب سواء استغرق في القراءة أم لم يفعل أو قد يتشاغل برسم خطوط عشوائية أو كلمات على ورقةٍ ما وما لم يتسَنَّ لصاحبنا أن يجد في حوزته أياً من تلك الوسائل، فقد يتشاغل بقراءة الإعلانات المُلصَقة هنا وهناك على جانبي الطريق، اللّهمّ إن لم يكن لديه آلة تسجيل يحشر سماعتيها في أذنيه ليضمن لنفسه عزلةً مبررةً عن الأشخاص من حوله إن لكلّ حركةٍ يقوم بها المرء تجاه المنطقة الحميمية الخاصة بآخر دلالةً ومغزى ففي الحفلات مثلاً وهي المكان المفضّل للتعارف بين الناس قد يقوم شابٌ ما وبشكلٍ غير واع بخرْق القانون العام المعلوم غير المكتوب لاحترام المنطقة الخاصة بصبيةٍ أثارت إعجابه إلى حَدّ رغبته بالتعرُّف إليها حيث يتقدّم نحوها، وقد يحني جذعه نسبياً نحو الأمام للتعبير عن ذلك فإن لم تُلاقِ رغبته تلك استحساناً لدى الصبية تراجعت بدورها باتكاءةٍ إلى الخلف، وإذا استمر صاحبنا في تقدُّمه نحوها تراها تتراجع بخطوة أو أكثر نحو الوراء في حركةٍ غير واعدةٍ منها للمحافظة على خصوصية منطقتها الحميمية.   - ترتيبات الجلوس: يمكن معرفة بعض المعلومات عن الأشخاص من حولنا من خلال مواقعهم على الطاولة التي يجلسون حولها حيث تعتبر الطاولة المستديرة الشكل الأكثر ديمقراطية بين الطاولات، حيث تتيح للجالسين حولها نفس القَدْر من الحيّز المتاح لكلٍّ منهم دون أن يكون هنالك مكانً واضح لسلطة فرد على آخر لذلك فهي تشكّل مساحةً مفضّلة للحوار أكثر استرخاء بين الأشخاص. وعلى الرغم مما سبق وهو يصحّ تماماً في حالة اجتماع مجموعةٍ من الأفراد من ذوي المنزلة المتكافئة نسبياً إلا أنّ الطاولة المستديرة وفي حال كونها مُلتقى لاجتماع أشخاصٍ يعملون في إدارةٍ ما وبحضور مديرهم تُفصح المواقع من حولها نوعاً ما عن شخصيات شاغلي تلك المواقع، إذ وبشكلٍ غير واعٍ أنّ مكان جلوس المدير يشكَّل رأس الطاولة رغم تناقض ذلك مع المعنى الهندسي للدائرة، أما عن الطاولة المستطيلة أو البيضوية فيُفهم على الفور أنّ الشخص الأكثر أهمية بين المجتمعين حولها هو ذلك الجالس على رأس الطاولة الأبعد عن الباب يليه أهمية الجالسُ عن يمينه، وليشغل المكان الأقلّ أهميةً الشخص الجالس عند رأس الطاولة الأقرب إلى الباب. يعتقد البعض أنّ المكان الذي يشغله المرء حول طاولة اجتماعاتٍ من هذا النوع يؤثر على مقدار سُلطته أو قوة تاثيره على الآخرين لذلك تُبذل جهود كثيرة في اختيار مواقع المجتمعين أو حتى تبديلها والتلاعب بها في اجتماعاتٍ يغلب عليها طابع المكائد السياسية أو صراعات القوى وذلك للتأثير على الحصيلة النهائية لهذه الاجتماعات. على الرغم من كل ما سبق من وجهات النظر اللاواعية التي يطبقها الناس على أفراد اجتماع ما من خلال مواقعهم حول طاولة الاجتماعات إلا أن كلاً منهم وأينما جلس يستطيع عبر قوة شخصيته وعمق معارفه وحديثه أنّ يعطي الأهمية القصوى للمكان الذي يشغله ليجعل منه بحقّ رأساً لطاولة الاجتماع! رأينا فيما سبق الطاولة المستديرة والطاولة المستطيلة أو البيضوية أما عن الطاولة المربعة والميالة منها إلى الاستطاعة قليلاً فكثيراً ما نراها في المقاهي، المطاعم، وفرق المكاتب وذلك لكونها الشكل الأكثر إتاحةً للحوار الودي بين شخصين فقد نرى صديقين حميمين جالسَيْن الواحد بمحاذاة الآخر وقد راحا يتهامسان بقصصهما المشتركة. أو نرى زميلي عملٍ يجلسان على تلك الشاكلة بينما يتعاونان على إنجاز مهمةٍ مشتركةٍ وقد بسطا أمامهما على الطاولة كل ما يتعلق بها من وثائق ومخططات وبحيث يعبر المشهد العام لأسلوب جلوسهما معاً عن ارتياح متبادل لا مكان فيه للتنافس أو المكائد. إنّ وضعية جلوس شخصٍ بمحاذاة آخر تدل عادةً على وجود جَوّ من الثقة والتعاون إذ تتضمن ارتياح المرء إلى مَن يجالسه بحيث أنّه لا يحتاج إلى مراقبته وجهاً لوجه كنوعٍ من الحذر. ومن الوضعيات التي تعبّر عن جوٍّ ودّي لشخصين يجلسان حول طاولة مربّعة هناك وضعية جلوسهما عند تلك الطاولة حيث يمكنهما مشابه للحالة السابقة إنما مع إبقاء حاجزٍ طفيفٍ بينهما كنوعٍ من الحماية، أما عن حالة جلوس الشخصين متقابلين على جانبي الطاولة فهي تعبّر عن جَوٍّ من المنافسة واختلاف وجهات النظر التي قد تبدأ بالتعارض مع احتمال انتهائها بالوفاق. قد نرى شخصاً في موقع السُّلطة يتحدث بشكلٍ رسمي إلى أحد مرؤوسيه متخذاً معه تلك الوضعية بحيث تشكّل الطاولة حاجزاً ومسافةً تعبّر عن فرق القوى ويغلب عندئذٍ أن يكون موضوع الحديث تأنيباً من الرئيس للمرؤوس على تقصيره في العمل. وهكذا.. يمكننا القول أنّ المشاهد اللبيب يستطيع أن يستنبط الكثير من صفات الأشخاص المحيطين به ويستكشف حالاتهم النفسية الآنية منها والائمة من خلال حركاتهم وإيماءاتهم الواعية وغير الواعية من خلال وضعيات وقوفهم، جلوسهم، استلقائهم، وحتى أوضاعهم الواحد بالنسبة إلى الآخر مع مراعاة أمرٍ مهم للغاية وهو أن إشارات لغة الجسد غالباً ما تظهر في شكل مجموعاتٍ متداخلة بحيث يلتبس تفسي إحداها دون الاستعانة بالأخريات إذاً.. فكّر مليّاً قارئي الكريم قبل أن تسارع إلى تفسير إشارات الأجساد من حولك تجنُّباً للأخطاء المحتملة، وما قد تجره من إحراجٍ أو قسوةٍ في الحُكم، وتمتَّع بعدئذٍ بل وانتفع بالشكل الأمثل بقدرتك على استشفاف حقيقة شخصيات الآخرين ومواقفهم بغية تحقيق حوارٍ مع الآخر خالٍ من مشكلات سوء الفهم، بل وتواصل إنسانيٍّ حقيقي أرقى من السائد في زماننا العصيب.. وأحمل! المصدر: لغة الجسد.. كيف تقرأ أفكار الآخرين من خلال إيماءاتهم

ارسال التعليق

Top