• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اضحك للحياة

نور أحمد الشحري

اضحك للحياة
مازلتُ أتذكر صديقتي التي رافقتني في مقاعد الدراسة، وتلاحمت مع أفكاري وطفولتي ونُضجي، فأصبحت جزءاً مني.

فهي طفولتي التي مرّت كالحُلم الجميل.. وهي مراهقتي وتفاصيل صباي بكل ما تحمله من طُهرّ وبراءة.

أحببتها من كلّ قلبي.. وانسجمتُ بعذوبة مع شخصها النقي.

كنا نجري معاً نتسابق أينا تدخل الفصل أوّلاً، وأنا مَن أسبقها دائماً فتتقبَّل الأمر بابتسامة..

عجيبة تلك الابتسامة النقية التي تتقنها، على الرغم من انتصاري عليها في كلّ مرّة.

وكأنها تُهديني ذلك الانتصار إهداءً..

كانت أثناء الحصة تنظر إليّ وتُحاول الإشارة نحوي، وحين ألتفت إليها تقلب عينيها وتُحملق فيّ بطريقة غريبة وكأن عينيها تشكوان الحوَل.. فلا أتمالكُ نفسي وأُقهقه ضاحكة من جرأتها.

وحين تسألني أستاذتي لمَ أضحك، أقف لأوضح لها السبب أفاجأ بصديقتي وقد عادت ملامح وجهها لطبيعته.. فأحرج، وأتعرض للعقاب وحدي بسببها.

أنتظر انتهاء الحصة لأعاتبها فترد عليَّ مُبتسمة: "هذه بتلك يا صديقتي، ففي الصباح دائماً تسبقينني للفصل، وفي الحصص يأتي دوري لأشفي غليلي وأستمتع بمنظرك حين تعاقبين بسببي".

صديقتي تحب المرح.. وتعيش بعفوية ونقاء مع كلّ المواقف..

يا الله كم أُحبها، وكم هي رائعة..

أذكر أنني عندما مرضت ولم أتمكن من الذهاب إلى المدرسة لمدة أسبوع

قَدِمت مع أمها لزيارتي.. ورأيت الدموع في عينيها لأوّل مرة حين قبّلت رأسي واحتضنتني..

علمتني دموعها كيف تكون الصديقة حنونة.. وفية.. دافئة..

رأيتُ في عينيها الطهر والنقاء في المعشر والصحبة..

كم هي وفية.. وكم تُعجبني حتى في تصرفاتها الصبيانية التي تجعلني أضحك بهستيرية..

يلفتني جمال عينيها وابتسامتها الطفولية المحبّبة من قبل الجميع.

حين كنتُ أيأس أو أشعر بالكآبة، ألجأُ إليها لتشد من أزري وتخفف عني دائماً.. فلديها أسلوب في التعامل أظنه كالسحر.

كنت أتعجب لقوّة إرادتها التي لا تثنيها الأيام والصعاب.. لم أرَها يوماً شاكية، مُتذمّرة.. على العكس تماماً فلقد كان شعارها:

"اضحك تضحك لك الحياة".

وعلى ذكر هذا الشعار كنا في يوم من الأيام نقف صباحاً في الطابور، وكانت المعلمة تُنادي عبر مكبّر الصوت لتتقدم إحدانا وتُلقي على مسامع الجميع حكمة هذا الصباح..

ساد الصمت بين الصبايا.. فإذا بي أفاجأ بصديقتي تنطلق من صف الطابور وتحث الخطى متجهة نحو المعلمة.

التقطت مكبر الصوت بكل ثقة ونظرت نحوي..

هذا المشهد جعلني أبتسم لا إرادياً، فلطالما أعجبتني جرأتها وحاولت تقليدها مراراً، ولكني لم أكن أفلح فجرأتها كانت بالفطرة.. بينما كنت أنا أصطنع الجرأة فأفشل.

ذلك اليوم، عندما التقطت المكبّر ابتسمت ابتسامتها الطفولية تلك، وبأعلى صوت صاحت: "اضحك للدنيا تضحك لك وابكِ تبكِ وحدك".

لابدّ أن ذلك الشعار كان مُتأصلاً في ذاتها.. ولابدّ أنّه يعني لها الكثير.. كان دَوي التصفيق عالياً من الإدارة والتلميذات، فقد كانت هذه الرائعة محبوبة من قبل الجميع..

ولم تكن أخلاقها كأخلاق فتاة عادية.. فلديها تهذيب مُتميّز يجعلُها تمتلك كلّ القلوب وتأسرها.

الكل حولها كانوا يتعلمون من إرادتها وقوة صبرها وحبها للحياة..

روحها الجميلة بعثت في أرواحنا الجمال.. وأسلوبها المرح يُضفي على الجو المُتعة والطيبة.

مازالت ذكراها تعني لي الكثير.. الكثير..

واليوم، حين تأملت الصورة الجماعية التي تجمعنا، لمعت عيناي بالدموع..

لأني يوم الصورة كنت أمتنع عن التصوير، ورفضت أن أقف أمام الكاميرا بحجّة أن هندامي لم يكن لائقاً. عاندتُها حين توسلت إليّ.

لكنها حسمت الأمر ووقفت إلى جانبي مُحكمة يديها على يدي ضامة أصابعها حول أصابعي وصاحت مُشيرة لإحدى الزميلات لتقوم بالتقاط الصورة بسرعة.

الحقيقة أني ابتسمت من حركتها هذه وكانت الصور حميمة ورائعة على الرغم من امتعاضي.

ابتسم كي تظهر الصورة حلوة.. هكذا تقول الحكمة..

اليوم أمعنتُ في وجوهنا جيداً وكأني أراها لأوّل مرة.. فلمحتُ الحزن الذي كان جاثماً على ملامحها ولامعاً في عينيها رغم أنها كانت تبتسم..

كيف لم أكن أعر الأمر اهتماماً حينها.. وكيف لم أعِ حقيقة تلك الابتسامة؟ فقد كانت تعاني مرضاً خبيثاً وأنا آخر مَن يعلم.

كنت أنا مَن يسبقها كلّ صباح لباب الفصل بينما هي يهزمها المرض ويُنهكها. فتُقابل كلّ ذلك بابتسامة.

كيف لي أن أفخر بذلك؟ رباه كيف أني لم أدرك الأمر؟

تلك الصورة هي آخر اجتماع لنا..

فقد كانت تلك الأيام في آخر صراعها مع المرض..

وعلى الرغم من أنّه أرهقها، إلا أنّه لم يتسرب إلى ذاتها ولم يثنِ عزيمتها.. رباه ألا يدرك هذا المرض أنّه صرع أجمل مخلوقه وأطيب قلب على وجه الأرض..

كلما عدتُ إلى نفسي أنبشُ أوراق مذكرتي لأعيش ذكراها..

وكلما أخذني الحنين أبعثر أكوام الكتب وأتصفحها حتى أقرأ أيامنا وأستعيد تلك الملامح الوفية.

اليوم، أخذتُ تلك الصورة ووقفتُ على الشاطئ أستعيد أيامي وذكرياتي الحميمة مع تلك الصديقة.

تذكرتُها حين راقبتُ موج البحر..

كأنها وذلك الموج مواليد نطفة واحدة..

كانت الأمواج هائجة، تثورُ كأنها ناقمة غاضبة.. لكنها حنونة.. حنونة جدّاً...

قمت بتقليب الصورة، فأبصرت من بين دموعي جملة بخط يدها

"اضحك للدنيا تضحك لك وابكِ تبكِ وحدك".

ارسال التعليق

Top