• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأنس بالله

ناصر بن مسفر الزهراني

الأنس بالله
  الله.. جلّ جلاله أنس المؤمن، وسلوة الطائع، وحبيب العابد، والأنس به ثمرة المعرفة، ونتيجة المحبة، ودليل الولاية، وبرهان العناية، ومؤهل الرعاية. إذا امتلأ القلب بجلاله تحلو الحياة، وتعذب الدنيا، وتستنير البصيرة وتنكشف الهموم، وتهاجر الغموم، ومن أَنِس بالله أنس بالحياة، وسعد بالوجود، وتلذذ بالأيام، قلبه مطمئن، وفؤاده مستنير، وصدره منشرح، نُقشت محبة الله في قلبه، وسكنت صفات الله في ضميره، ومثلت أسماء الله أمام عينيه، فهو يحفظ أسماءه، ويتأمل صفاته، ويستحضر في قلبه الرحمن، الرحيم، الجميل، الحليم، البر، اللطيف، المحسن الودود الكريم، العظيم.. إلى غير ذلك من صفات الجلال وأسماء الكمال، فتثير أنساً بالباري، وحباً للعظيم، وقرباً من العليم. إنّ الشعور بقرب الله من عبده يوجب الأنس به، والسرور بعنايته، والفرح برعايته، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة/ 186). إنّ الأنس بالله لا يأتي بلا سبب، ولا يحصّل بلا تعب، بل هو ثمرة للطاعة، ونتيجة للمحبة، فمن أطاع الله وامتثل أمره واجتنب نهيه وصدق في محبته، وجد للأنس طعماً وللقرب لذة، وللمناجاة سعادة. إذا كان حب الهائمين من الورى **** بليلى وسلمى يسلبا اللب والعقلا فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي **** سرى قلبه شوقاً إلى المأ الأعلى الأنس بالله أن تسعد بشريعته، وتشكر لنعمه، وتتفكر في ملكوته وتطرب لذكره، وتتلذذ بسماع كلامه، وترضى به رباً، وبكتابه نهجاً، وبنبيه رسولاً. إنّ كثرة الذنوب تحجب الأنس بعلام الغيوب، وتمنع السعادة بعناية عالم الغيب والشهادة، المستأنس بالله جنته في صدره، وبستاته في قلبه، ونزهته في رضاء ربه، وسياحته في مغاني الكمال، ومراتع الوصال، ومناظر الجلال، ومواطن الجمال. يا منتهى وحشتي وأنسي **** كل لي إن لم أكن لنفسي أوهمَني في غد نجاتي **** حلمُك عن سيئات أمسي المؤمن يأنس بالله في وحشته، ويسلو به في خلوته، ويسعد به في غربته، لا شيء أمتع لدى المحبين من الخلوة بمحبوبهم والحديث إليه، ومناجاته في أوقات التجلي إذا هدأت العيون، وسكنت النفوس، واستثقلت المضاجع بالنائمين، قام المحبون ليعيشوا لحظات الأنس، ودقائق السعادة في ثلث الليل الآخر. ولقد ورد الوعيد الشديد من المرور بين يدي المصلي، وما أظن ذلك إلا لأنّه يقطع أحلى ساعات الأنس، ويشوش على ألذ دقائق المناجاة، ولذلك جعلت قرة عين النبي (ص) في الصلاة. إذا تصدع شمل الود بينهُمُ **** فللمحبين شمل غير منصدع وإن تقطع حبل الوصل يومئذ **** فللمحبين حبل غير منقطع إنّ المحب لله جلّ وعلا يأنس به ويأنس بطاعته ويأنس بذكره، ويستوحش إذا شغل عنه. سئل أبو سليمان الداراني – رحمه الله –: ما أقرب ما يُتقرب به إلى الله عزّ وجلّ، فبكى، ثمّ قال: مثلي يسأل عن هذا؟ أقرب ما يُتقرب به إليه أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة غيره جل وعلا: قال بعض العلماء: العارف بالله أنس بالله فاستوحش من غيره، وافتقر إلى الله فأغناه من خلقه، وذلّ لله فاعزه في خلقه. إذا كان للناس أنس بما **** ينالونه من متاع الحياة فإن سروري وأنسي بمن **** هداني وسيرني في رضاه أصلّي فؤادي بآلائه **** ولا أنحني لعظيمٍ سواه يقول تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح/ 7-8). إذا فرغت من القيام بواجب الدعوة والتعليم والنصح والتوجيه، إذا فرغت من الناس ومطالبهم، إذا فرغت من القيام بأعباء الحياة ومتطلبات المعيشة والتي هي كلها من العبادة لله، فيجب أن تجعل جزءاً من الوقت خالصاً لله لا يشركه فيه أحد، ولا حتى هموم الدعوة أو الإسلام، لتأنس فيها بربك، وتتلذذ بمناجاته، وتسعد بالانطراح بين يديه، فيعمر ذلك الأنس قلبك، ويزيل همّك، وينسيك أتعاب الحياة وأوصاب الدنيا. ولأنّ تلك الخلوة بالحبيب هي الزاد للطريق، وهي الوقود للعمل، وهي التي تبرد حرارة الشوق إلى من بذلتَ وقتكَ من أجله، إلى من شرح صدرك، ووضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك. إن حركة المؤمنين وعنوان مسيرتهم: (إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة/ 59)، والرغبة في الله وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه والأنس بعبادته والسرور بطاعته، هي رأس مال العبد، وملاك أمره، وقوام حياته، وأصل سعادته، وعنوان فلاحه. وقف الهوى بين حيث أنت فليس لي **** متأخَّر عنه ولا متقدَّمُ أجد الملامة في هواك لذيذة **** حباً لذكرك فليلمني اللُّوَّمُ يقول ابن القيم – رحمه الله – حدثني تقي الدين بن شقير قال: خرج شيخ الإسلام ابن تيمية يوماً فخرجت خلفه، فلما انتهى إلى الصحراء وانفرد عن الناس سمعته يقول: وأخرج من بين البيوت لعلني **** أحدث عنك النفس بالسر خاليا   المصدر: كتاب الله.. أهلُ الثَّناءِ والمَجْدِ

ارسال التعليق

Top