• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التعايش مع الآخر في ضوء القرآن

أسرة البلاغ

التعايش مع الآخر في ضوء القرآن

يتحدّث القرآن الكريم عن علاقة الإنسان بالإنسان، ويُثقِّفه، ويُعلِّمه أسس التّقييم، وأساليب التّعامل والتّعايش والعلاقة مع الآخر..

القرآن علّم الإنسان أنّه إنسان.. تتجلّى فيه معان وقِيَم إنسانية، هي قيمة حياته ووجوده، والنّاس سواسية في الإنسانية، فأصل المنشأ الإنساني واحد..

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1).

وكرّم الله هذا الإنسان وعظّمه وثبّت أرقى المبادئ الأخلاقية والقانونية لبيان حقّ هذا الإنسان وحماية إنسانيّته من اعتداء الآخرين عليها، ومن اعتداء نفسه على إنسانيّته.. وبعبارة أخرى توفير الحماية للإنسان من ظلم أخيه الإنسان، ومن ظلم نفسه لنفسه.

يتجلّى أسمى بيان لتكريم الإنسان، واحترام شخصيّته في قوله تعالى:

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70)

وفي تزاحم الذّوات، وصراع الأنا والمصالح، تبرز ظاهرة استعلاء البعض من بني الإنسان على أخيه الإنسان، فيشعر بالعلوّ والغرور والكبرياء الأجوف.

فتتكوّن في نفسه رؤى وتصوّرات ونوازع خاطئة يرى نفسه فيها أعظم من غيره، بل قد يرى البعض من هؤلاء أنّ الوجود ملخّصاً بذاته.. وتتعاظم تلك الظّاهرة المرضيّة والحالة الإنحرافية عند هذا الصِّنف من المرضى، عندما يرى نفسه متفوِّقاً على غيره بالسّلطة أو المال أو الجمال أو الصّحّة أو المكانة العلمية أو الاجتماعية، بل لا يرى أنّ غيره يستحقّ أن يُحترم أو يُكرّم، أو يُعامل كإنسان له من الحقوق والكرامة ما يُعادله ويُساويه هو.. واضعاً نفسه ضمن مصاديق وصف القرآن للذّات الطّاغية المتكبِّر بغير حقّ:

(إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).

إنّ هذا الطّغيان يتجسّد سلوكاً عدوانياً ضدّ الآخرين، يتمثّل في احتقار الآخر والإستخفاف به، والتّهوين من شأنه، وأهمِّيّة ما يصدر عنه.. لذا يُعيِّر عن ذلك بالسّخرية والغمز واللّمز والهمز والغيبة.

والقرآن الحريص على حفظ كرامة الإنسان وقيمته الإنسانية، واجه تلك الظّواهر السّلوكية والأخلاقية العدوانية.. واجهها بالرّفض والتّحريم.. واعتبرها من كبائر الآثام، ومساوئ الأخلاق التي جاء الوحي ليُطهِّر المجتمع منها، ويُحصِّن الإنسان المسلم من الإصابة بها.. لذا نجده بعن أن ينهى عن تلك الأخلاقية المنحطّة.. يذكِّر الإنسان بوحدة النوّع وأصل المنشأ، وأنّ الإستخفاف بالآخرين والإستهزاء بهم عمل خاطئ، وتجاوز على إنسانية الإنسان..

لنقرأ النّصّ القرآنيّ، ولننصت لما يُتلى، ولنفهم ولنعي تلك الثّقافة الأخلاقية التي سعى القرآن الكريم لتربية المجتمع عليها:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 11-13).

تحدّث المُفسِّرون عن سبب نزول هذه الآيات، وذكروا الحوادث والظّواهر الاجتماعية الّتي نزلت لتُعالجها، وتُطهِّر المجتمع من آثارها.. فإنّ آيات القرآن كان بعضه ينزل بسبب وجوده بعض الحالات السّيِّئة في المجتمع ليُعالجها، ويُوضِّح موقف الشّريعة منها، ويضع الحلول النّاجعة لها..

ذكر الواحدي في أسباب النّزول إنّ قوله تعالى: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ)، نزلت في ثابت بن قيس؛ لأنّه عيّر أحد الجالسين في مجلس الرّسول (ص) بأُمِّه.. وذكر أنّ قوله تعالى: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، نزلت في بعض الصّحابيّات ممّن سخرنَ من ملابس أُمّ سلمة.. زوج الرّسول (ص).

وفي موضع آخر يستنكر القرآن أخلاقية أولئك الذين يهمزون الناس ويلمزونهم، لغرض الحطّ من شخصيّاتهم، والنّيل منهم.. ويجعل لهم الويل والعذاب..

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ[1] لُمَزَةٍ[2] * الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (الهمزة/ 1-3).

وفي مواضع أخرى يستعرض نماذج من سلوكيّة السّاخرين والمستهزئين بالناس بدافع التعّالي والغرور والعُجب وعبادة الذّات..

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة/ 212).

ويعرض لنا القرآن الكريم صوراً من سلوكيّة السّاخرين والمستهزئين بالنّاس بدافع الغرور والإستعلاء من مساحات تأريخية شتّى.. نقرأ ذلك من خطابه للنّبيّ محمّد (ص):

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة/ 79).

(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) (الأنبياء/ 36).

(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (غافر/ 83).

ومنها ما ينقله لنا القرآن من أعماق التاريخ ومساحات القرون العميقة، فيُحدِّثنا عن هذه الظّاهرة في مجتمع النّبيّ نوح (ع) فيُجسِّد الصورة بقوله:

(فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِّلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) (هود/ 27).

ويأتي جواب النّبيّ نوح (ع)، وردّه الحاسم على تلك الأخلاقية المتعالية المغرورة، ورفضه لما طلبوه منه أن يطرد الفقراء والمستضعفين والطّبقة المسحوقة في المجتمع.. فهؤلاء حسب رؤاهم السيِّئة لا يستحقّون أن يجتمعوا معهم في مجلسٍ أو يُحسبون معهم في صفٍّ عقيديّ واحد، أو يُساوى بينهم وبين أولئك في التّعامل والوجود الاجتماعي، ويردّ النّبيّ نوح (ع) على هذا الفهم والموقف الخاطئ بقوله:

(وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (هود/ 29-31).

وينتهي الجدل والحوار بين نوح وأولئك الطّغاة المستكبرين بإعلانه عن مبادئ الدعوة الإلهية السّامية بأنّه لن يطرد الذين تزدري أعينهم.. فإنّ مَن يفعل ذلك هو ظالم لا يستطيع أحد أن يحميه من عذاب الله.. إنّ الله ينظر لما في أنفسهم من خير فيتعامل معهم من خلال ذلك.. جاء هذا البيان في النّصّ القرآني:

(وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) (هود/ 30).

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (هود/ 31).

وهكذا يتحدّث القرآن عن ظاهرة التعالي على الآخرين، وظاهرة السّخرية منهم والإستهزاء بهم... وهمزهم ولمزهم.. ويعتبرها من أسوأ الظّواهر الأخلاقية التي يجب استئصالها من المجتمع، حماية لكرامة الإنسان وشخصيّته الإنسانية.

وللغرض ذاته، حرّم القرآن الغيبة والتجسّس على الآخرين؛ لكشف عيوبهم ونشرها في المجتمع؛ لإسقاط شخصيّاتهم، والنّيل منهم..

(وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 12).

وبعد أن نهى القرآن الكريم في سورة الحجرات عن السّخرية أن يسخر رجل من رجل أو امرأة من امرأة، وخاطب الآخرين بأنّ مَن تسخرون منهم عسى أن يكونوا خيراً منكم.

نهى عن التنابز بالألقاب، وهو أن يذكر شخص شخصاً آخر بلقبٍ يكرهه فيسيئ لشخصيّته ومكانته وينتقص منه.. وفي هذه الآية ينهى القرآن عن اللّمز.. عن ذكر عيوب النّاس وتعييرهم للحطِّ من مكانتهم.. واعتبر هذا اللّمز.. هو لمز للنّفس أيضاً.. لأنّه سيُقابل بالمثل وستشيع في المجتمع هذه السّلوكية السيِّئة..

ويستمرّ في النّهي عن التجسّس.. وهو تتبّع هفوات النّاس ونشرها والتّشهير بها، كما نهى عن الظنّ السيِّئ بالآخرين، والتعامل معهم على أساس هذا الظّن، فإنّه إثم وسلوك مرفوض..

ولحفظ كرامة الإنسان، وحماية شخصيّته، ينهى القرآن عن الغيبة، وهي ذكر الإنسان في غيبته بشيء يكرهه، وشبّهها بأكل لحم الإنسان الميِّت لكراهتها، وقذارة تناولها..

والآية تُثبِّت أنّ النّاس خُلِقوا من ذكرٍ وأُنثى، فهم سواء في الإنسانية، وأكرمهم عند الله أتقاهم.. إنّ ما اشتملت عليه هذه الآية من قِيَم أخلاقية وسلوكية لحفظ كرامة الإنسان، لهي من أرفع القِيَم والتّعليمات التربوية لبناء مجتمع يُحترَم فيه الإنسان وتُصان فيه كرامته وحقوقه..


[1]- الهُمَزَة: الذي يغتاب النّاس.

[2] - اللُّمَزَة: الذي يعيب النّاس.. ويذكر عيوبهم.

ارسال التعليق

Top