• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحقّ.. رسالة الرسل جمعياً

السيد سابق

الحقّ.. رسالة الرسل جمعياً
◄يتمثل الحقّ في العقيدة الصحيحة، والعلم النافع، والعمل الصالح، والخلق الكريم. ومن ثم فقد أطلق على الإسلام لفظ الحقّ.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (الفتح/ 28).

(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء/ 81).

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الإسراء/ 105).

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (سبأ/ 6).

 

الحقّ رسالة الرسل جميعاً:

والإسلام الحقّ هو دعوة الأنبياء جميعاً. وما رسالة محمّد (ص) إلّا إتمام لهذه الدعوة، وامتداد لها.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة/ 213).

قال (ص): "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلّا موضع لبنة، فكان من دخلها ينظر إليها قال: ما أحسنها إلّا موضع هذه اللبنة. فأنا موضع اللبنة. خُتم بي الأنبياء".

وكان رسول الله (ص) يقول في قيام الليل:

"اللّهمّ لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، ولقاؤك حقّ، الجنّة حقّ، والنار حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد حقّ، والساعة حقّ. اللّهمّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت الله لا إله إلّا أنت".

 

الصراع بين الحقّ والباطل:

والصراع بين الحقّ والباطل قديم، منذ عرف في الدنيا حقّ وباطل.

ودائماً تكون الغلبة في النهاية للحقّ؛ لأنّه الثابت النافع. كما تكون الهزيمة للباطل؛ لأنّه هو الزهوق الضار.

وهذه هي سنّة الله التي أبان عنها في كتابه:

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ) (سبأ/ 48).

(قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) (سبأ/ 49).

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (الأنبياء/ 18).

(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء/ 81).

وحتى تتجلى هذه الحقيقة في الأذهان، وتأخذ طريقها إلى الأفهام ضرب الله المثل للحقّ والباطل بالماء والحديد، والزبد والخبث.

فمثل الحقّ مثل الماء والحديد في بقائهما ونفعهما.

ومثل الباطل مثل الزبد الذي يعلو الماء، والخبث الذي يعلو الحديد، فإنّه لا بقاء لهما، ولا منفعة فيهما.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرّعد/ 17).

 

سنن الله في إقامة الحقّ:

ومن سنن الله ألا يقوم الحقّ وحده، وإنما ينهض بالرجال الكبار الذين لهم مزايا وخصائص.

1- من هذه المزايا: الثبات عليه، والاعتصام به...، فما شرفت النفس بمثل معرفتها بالحقّ، واستمساكها به..، فهو الذي يعلي قدرها، ويرفع شأنها.. يقول الله سبحانه وتعالى:

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (الزخرف/ 43-44).

أي: أنّ الوحي نزله الله على نبيه شرف له، ولمن استمسك به..، وهذا كقوله سبحانه:

(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء/ 10).

وقد أثنى الله على المستمسكين بالحقّ الذي يعتصمون بعروته، ولا يخالفون عن أمره، وأخبر أنّه لا يضيع شيئاً من أجورهم، فقال:

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/ 170).

2- ومنها: أن يكون لهم من الشجاعة ما يحملهم على الجهر به، والإعلان عنه دون خوف أو جبن؛ لأنّهم منتدبون من قِبَل الله لإشاعة هذا النور، والإذاعة به في العالمين.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).

والجهر بالحقّ من أعظم الفضائل؛ لأنّه لا قيام للباطل إلّا في غفلة الحقّ، فما دام الدعاة إلى الله يجهرون بالحقّ، ويدعون إليه، ويعملون على نشره، فسوف يتوارى الباطل، وينكمش. كما تتوارى الخفافيش في ضوء النهار.

ولهذا كان الجهر بالحقّ واجباً من الواجبات الدينية، والاجتماعية، وكانت الآيات التي تتحدث عنه أكثر من الآيات التي تتحدث عن بعض أركان الإسلام.

ولا يتصور أن تنهض جماعة، أو ترقى أُمّة إلّا إذا وجد فيها الدعاة الذين ينادون بالحقّ، ويصرحون به.

ويوم تفقد الأُمّة هؤلاء يكون ذلك إيذاناً بغروب شمسها، وتنكيس أعلامها. يقول الرسول (ص):

"إذا هابت أُمّتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُودِّعَ منهم".

ودعاة الحقّ من واجبهم ألا يخشوا إلّا الله، وألا يخافوا أحداً سواه؛ لأنّ الجهر بالحقّ لا ينقص رزقاً، ولا يقدم أجلاً؛ فإنّ الآجال بيد الله، والأرزاق في قبضته. يقول الله تعالى:

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب/ 39).

ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة/ 54).

وحين أمر موسى بتبليغ فرعون دعوة الله اعتره الضعف البشري الذي يعرض لكن إنسان أمام الطغاة، والجبابرة فقال:

(إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طه/ 45)، فيجيبه الله بقوله: (لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه/ 46).

ومن كان الله معه لا يضعف، ولا يهزم لأنّه يعطيه من قوّته، ويمده بالشجاعة التي يتضاءل أمامها كلّ طاغية جبّار.

وكذلك صنع شيخ الأنبياء عندما أعلن في الوثنيين دعوة التوحيد دون مبالاة – وهو وحيد فريد – لا يجد مَن ينصره، أو يشد أزره: حتى أن والده وقف له بالمرصاد محارباً دعوته، عاقاً بنوته.. ولكن إبراهيم يسير في طريقه لا يلوي على شيء، ويعلن في الناس دعوته متحدياً كلّ مَن يتصدى له قائلاً:

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 79-82).

ومحمّد رسول الله (ص) يُخوَّف هو وأصحابه في الله فما يخافون، بل لا يزيدهم ذلك التخويف إلّا إيماناً إلى إيمانهم، ويقيناً إلى يقينهم.

يقول الله تبارك وتعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 173-175).

ويثبتون على مبدئهم أمام العواصف الهوج:

(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 22-23).

3- واحتمال تبعات الحقّ مما يعمق جذوره، ويمكن له.

وهذه التبعات تقتضي الصبر، واحتمال الألم، واستعذاب العذاب، كما تقتضي التضحية بالنفس، والمال، والجهد، والوقت، والعرق، والدموع.

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 2-3).

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 142).

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة/ 214).

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف/ 110).

 

نماذج حيّة:

هذه هي صفات رجال الحقّ، وسمات أصحاب الرسالة السامية في كلّ عصر، ومصر، وفي كلّ زمان، ومكان..

فبعرفان الحقّ، والاعتصام به، ورفع رايته، واحتمال تبعاته – انتصر وبلغ مداه.

والتاريخ سجّل حافل ببطولة هؤلاء الأبال الذين رفعوا راية الحقّ، ونصبوا ألويته، وأقاموا أعلامه خفاقة في العالمين.

وقد عرض الله في كتابه نماذج كثيرة لهؤلاء الأبرار. مثل نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد (عليهم الصلاة والسلام).

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 146-147).

كما عرض نماذج لغير أنبياء الله، ورسله، لتكون أعلاماً هادية، وقدوة حسنة. نترسم خطاها، ونسير على هداها.

فمن ذلك: ما ذكره القرآن؛ ليكون نموذجاً أمام أنظارنا – قصة أهل الكهف.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف/ 13).

زادهم هدى، وبصيرة نفاذة.

هؤلاء الفتية فروا بدينهم من مجتمعهم الذي يعيشون فيه؛ لأنّه مجتمع وثني منحط. لا يصلح لنفس كبيرة يمكن أن تستمد منه، وتنتفع به.

فهؤلاء آثروا أن يهجروا هذا المجتمع، وأن يفروا منه إلى الله – عزّ وجلّ – فآووا إلى الكهف، وانتهوا إلى غار بعيد في الجبل، اعتزلوا قومهم، وما يعبدون من دون الله. فراراً بدينهم، وإيمانهم، ومثلهم، فهل تخلى الله عنهم؟

لا: لننظر إليهم وهم في الكهف:

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) (الكهف/ 17).

هؤلاء الذين ارتفعوا بإيمانهم، وإنسانيتهم، ورفضوا أن يعيشوا في هذا المجتمع الكافر. نرى أنّ الله لم يتخل عنهم حينما أووا إلى كهفهم، فكانت الشمس إذا طلعت تميل عنهم حتى لا تؤذيهم، وإذا غربت مالت عنهم كذلك..، فالله – سبحانه – كان يرعاهم غاية الرعاية – وهم في هذا المأوى الموحش –.

(وتَحْسَبُهُمْ) وهم في الغار (أيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (الكهف/ 18).

وكان الله – وحده – يقلبهم عن جنوبهم مرة بعد مرة. حتى لا تأكل الأرض أبدانهم.

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) (الكهف/ 18).

فهم في الغار يحملون الإيمان، والنفوس الكبيرة، وكان الله يحميهم ويتولاهم، ولبثوا في كهفهم على هذه الحال.

(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) (الكهف/ 25).

ثلاث مائة عام وتسعة أعوام.. بعد هذا الوقت الطويل بعثهم الله، وأحياهم، فوجدوا الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس.. إيماناً بعد كفر، وتوحيداً بعد وثنية. لقد ذهبت كلمة الكفر وحاملوها، وبقيت كلمة الله، كلمة الحقّ الخالدة!

(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (الكهف/ 19).

ظنوا أنّهم لبثوا يوماً، أو جزءاً من يوم.. وبعد التساؤل، والمحاورة قالوا لا نبحث في هذه القضية. ليذهب واحد منا. لينطلق إلى السوق؛ ليحضر لنا الطعام الطيب الزكي.

(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) (الكهف/ 19).

وظنوا أنّ الكفر هو الكفر:

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا) (الكهف/ 20-21).

فجاء هؤلاء الذين آمنوا من بعد وقالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) (الكهف/ 21)، فأقيم المسجد على هذا المكان الذي أوى إليه أهل الكهف.

والمسلم العاقل الذي يتخذ من هذا كلّه عظة وعبرة، ويجعل منها زاداً ليقوى على أعباء الجهاد الشاق، ويعلم بأنّ الله معه ما جاهد في الحقّ. سواء وجد في غار مظلم، أو في مكان مجهول؛ لأنّ القلب ما يدام يحمل إيماناً بالله فليس يحجبه شيء.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النّور/ 40).

وبهذا الحقّ، والثبات عليه، والدعوة له، واحتمال تبعاته – انتصر المسلمون في بدر، وفي الخندق، وفي الحديبية، وفي الفتح، وفي جميع معارك التي خاضوها ضد الفرس، والروم، وضد الصليبيين، والتتار، وضد الاستعمار.

ولم يكن ذلك الانتصار إلّا مظهراً من مظاهر الشجاعة، والإيمان بالله، والثقة به، والاستمساك بالحقّ، والإصرار عليه.

وإذا كان الحقّ هو الأمر الثابت – فإنّ الإسلام هو أثبت على الزمن، وأخلد على الدهر، وأبقى على الأيام.

فجذوره تمتد امتداداً في الماضي البعيد، وستبقى ظلاله تمد الدنيا بالروح، والريحان. حتى يرث الله الأرض، ومن عليها.►

 

المصدر: كتاب عناصر القوّة في الإسلام

ارسال التعليق

Top