• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حسّن أخلاقك بالكلمة الطيبة

د. عمرو خالد

حسّن أخلاقك بالكلمة الطيبة
◄دائماً عندما نفكر في الأخلاق يأتي سؤال يتكرر كثيراً وهو: كيف أحسن أخلاقي؟ ماذا أفعل؟ هناك وصفة سهلة ورائعة يمكن أن تكون هي الجواب على هذا السؤال، وهي وصفة مجربة للجواب عن هذا السؤال، وهو: كيف تُحسّن أخلاقك؟ اقرأ كل يوم القرآن، ولو آية واحدة، بنيّة حُسن الخُلق، وترديد كل آية فيها خلق. اختم ختمة بنيّة حسن الخلق.. لماذا؟ تعالوا نطبّق هذا المعنى في حياتنا كلها، حتى تتحسّن وتتغير أخلاقنا، وكن كالنبي (ص) إذا قرأ: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) (الفرقان/ 63)، تَطَبَّع وتَخَلّقَ بحلم القرآن. وإذا قرأ قوله تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 19)، تأدَّبَ به وإجعله منهاج حياته. لذلك، أفضل وسيلة لتقوية أخلاقك هي: اقرأ القرآن لتحسّن أخلاقك. فالأخلاق مهمة للنهضة والإصلاح. الإصلاح هو طريق النهضة، وترك الإصلاح هو طريق الهلاك. استمع معي إلى هذه الآية، وستعرف أنّ هذه هي سنّة الله في الكون التي لا تتبدل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 117). وكل إنسان مأمور بهذا الإصلاح، قال تعالى: (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف/ 142). والإصلاح يكون بتهذيب النفس بالأخلاق وتزكيتها. لذلك، عندما قالت الملائكة لله عزّ وجلّ: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30)، أي أعلم أنهم سيكون منهم مصلحون. فهل أنت المقصود بهذا؟ وأوّل طريق الإصلاح كلمة. وهذه الكلمة، لأنّها بداية هذه المهمة العظيمة التي من أجلها خُلق الإنسان، فكانت لابدّ أن تكون كلمة من نوع خاص. وليست أي كلمة، ولكنها كلمة طيبة. إنّ الكلمة نعمة مَيّز الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات، لقد ميّزه بالكلمة المفهومة، وأمرنا بحسن انتقائها واستخدامها: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53). وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70-71). وجعلها الله سبحانه، ضابط الحسنات والسيئات، إلى جانب الفعل والإرادة، وجعل عليها رقيباً، قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، ليميز بها المصلح من المفسد. وقد منحنا الله نعمة النطق بالكلمات من أجل أن نستعملها في ما يرضيه عزّ وجلّ، وأن نسخِّرها في طاعته، وأن نُؤثِر الكلمة الطيبة على ما سواها. وجعل سبحانه النطق بالكلمة الطيبة وتحريرها من علامات رضوانه، وامتَنّ بها على عباده المؤمنين بقوله سبحانه: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) (الحج/ 24). وهذه الكلمة محورها وشعارها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم/ 24-25). لماذا ضربها الله ومثَّلها بالشجرة؟ لأنّ الشجرة رمز الإعمار في الأرض، وهو الهدف الذي من أجله خلق الله تعالى الإنسان. لو مات الشجر ماتت الأرض، والكلمة الطيبة رمز إعمار البشر للأرض ولو ماتت الكلمة الطيبة إنتهى أثر البشر. فالزرع والشجر والكلمة الطيبة إذا انتهت تموت الأرض. ووجه الشبه أيضاً هو العمر، لأنّ الشجرة تعيش سنين طويلة، وعمرها طويل، وكذلك الكلمة الطيبة عمرها قرون. إيّاك أن تظنّ أنّ الكلمة الطيِّبة تموت. كلمة الخير عمرها طويل، وتعيش بعد موتك، مثل الشجر، سنين بل قروناً. شجرة الأرز في لبنان عمرها 4 آلاف سنة، وكلمة سيدنا إبراهيم ودعاؤه لمكة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) (البقرة/ 126)، عمرها أيضاً 4 آلاف سنة. أنت تزرع شجرة المطاط وتموت وهي مازالت نبتة صغيرة، لكنها تُحيي الأرض بعد موتك بسنين. وكذلك، عندما تزرع كلمة الخير تموت أنت، ولكنها تبقى هي تحيي الأمة من بعدك. وهل "صلاح الدين" إلا أثر كلمات أبي حامد الغزالي، وكتاب "إحياء علوم الدين"؟ مات الغزالي، وبقيت الكلمة الطيبة حية لمدة ثلاث أجيال، حتى ظهر صلاح الدين، وعاش بها حتى فتح بيت المقدس، ولا تزال كلمات الإمام الغزالي تُحيي القلوب إلى الآن. والنخلة كلها خير ووفاء طوال العام، وخيرها مستمر، وكلمة سيدنا عمر، أيضاً كلها خير ووفاء لسيدنا إبراهيم، عندما قال يا رسول الله، أفلا نتخذ من مقام إبراهيم مُصَلّى.. وفاء له، عليه السلام، على كلمته الطيّبة. كلمة لخير لا تموت أبداً. كنّ على يقين بهذا، وفي بداية كل صباح خُذ نيّة في كلام، وتكلم كل يوم على الأقل 10 كلمات بالخير والإصلاح، حتى تصبح سجيّة فيك، وهذه الكلمات ستعيش قروناً وقروناً. مَن كان يُصدِّق أنّ كلمة النبي (ص) لسيدنا أبي بكر في غار بعيد عن الأعين: "لا تَحزَن إنّ الله معنا". وقالها النبي بصوت خافت، ستظل حيّة إلى اليوم، نرددها ونُصبّر أنفسنا بها بعد 1400 عاماً؟ مَن كان يُصدّق أن كلمة خالد، التي قالها بمنتهى الإخلاص: "إنما أفتح الشام لله لا لعمر بن الخطاب"، ستظل موجودة إلى اليوم؟ مَن كان يُصدّق أن كلمة المقداد بن الأسود، للنبي (ص) يوم بدر: "يا رسول الله. أمْضِ بنا لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا) (المائدة/ 24)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق.. لو سرتَ بنا إلى برك الغماد لجاهدنا معك من دون تردد حتى تنتهي إليه يا رسول الله. قال ابن مسعود: "تمنيت هذا الموقف من المقداد أن يكون لي، هو أحب إليّ ممّا طلعت عليه الشمس". لماذا؟ لأنها ستُخلّد. وتخيّل كيف أحياها الله تعالى كل هذه السنين. إياك أن تقول هذه كلمات عُظماء، لذلك عاشت وخلدت، أما أنا فمن أكون حتى تعيش كلماتي؟ إياك أن تستهين بالكلمة الطيبة. الكلمة الطيبة تخلد بصرف النظر عن قائلها. مادمت مخلصاً لله تعالى في كلامك، وكانت كلماتك للخير والإصلاح، فقد تحيا أكثر من كلمات العظماء. فالكلمة التي تُحدث تغييراً حقيقياً، وتظل حية بين الناس، ليس من الضروري أن تسمعها من عالم أو مُربٍّ أو فقيه، بل ربما تخرج هذه الكلمة من رجل الشارع العامي، بل ربما خرجت من صبي أو لص أو سارق، كما حصل للإمام أحمد بن حنبل، حين جُلد في فتنة خلق القرآن، إذ يقول ابنه عبدالله: "كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم.. غفر الله لأبي الهيثم. عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبَتِ.. مَن أبو الهيثم؟ فقال: لما أخرجت للسياط ومُدَّت يداي، إذا أنا بشاب يجذَب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيّار اللص الطرّار. مكتوب في ديوان أمير المؤمنين، أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبرت أنت في طاعة الرحمن لأجل الدِّين. قال: فضُربت ثمانية عشر سوطاً بدل ما ضرب ثمانية عشر ألفاً، وخرج الخادم فقال: عفا عنه أمير المؤمنين". ويقول الإمام أحمد أيضاً: "ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد.. إن يقتلك الحق متَّ شهيداً، وإن عشت عِشتَ حميداً، فقوّى قلبي". إياك أن تستهين بنفسك أو بكلمة خير من فمك، وتذكر دائماً قول الله تعالى لك: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83)، وقوله (ص): "إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما كان يظنُّ أن تبلغ ما بلغت، يكتُبُ الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه". تخيّل كل هذا الثواب من أثر كلمة واحدة، لأنّ الكلمة الطيبة أحياناً تصنع مجداً، وأحياناً تغيّر مسيرة حياة بأكملها، وتساعد في بناء أقوام، وترفع من شأنهم ومجدهم وتثبت أقدامهم. فمن ينوي من الآن ويُعاهدني أن يكون له كل يوم 10 كلمات يقولها في الخير حتى تصبح سجيّة فيه؟ ولابدّ أن ننتبه إلى الكلمة الطيبة ليست حكراً على كلمات التدين فقط أو هي للمسلمين فقط.. لا.. كل كلمة فيها خير وإصلاح هي من الكلمات الطيبة. إصلاح بين زوجين كلمة طيبة.. إرضاء أمٍّ هي كلمة طيبة.. رفع همّة شاب محبَط هي كلمة طيبة.. إصلاح مجتمع، حتى لو من غير المسلمين ككلمات غاندي، فهي مازالت حية: "كونوا أنتم التغيير الذي تحبون أن تروه في الحياة". بقي أثرها لأنّها كلمة طيبة لك، ويبقى أثرها حتى يوم القيامة. وأخيراً، أكثر من دُعاء النبي (ص): "واهدِني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّي سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت".►

ارسال التعليق

Top