• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الدعاء مفتاح مغاليق العالم بأسره

د. طلال الحسن (من أبحاث السيد كمال الحيدري)

الدعاء مفتاح مغاليق العالم بأسره
◄الدعاء مفتاح الحاجة، ومعنى ذلك أنّ الحاجة لم تكن في مُتناول أيدي الفاقد ثمّ توفّر عليها بعد الاستجابة لدعائه، ممّا يعني أنّ هنالك دوائر كمالية مُغلقة لا ينفذ إليها الفاقد إلّا بوسيلة استثنائية، وهي الدعاء، فيكون الدعاء مفتاح مغاليق تلك الدوائر المغلقة، وقد ورد في ذلك عن أمير المؤمنين (ع) "الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح"، فهو وسيلة النجاح لفتح مغاليق الكمالات التي يصبو إليها الفاقد.

وحيث إنّ هذه الدوائر تضمُّ كلّ كمال مادي ومعنوي لم يطله العبد الفاقد، فإنّ الدعاء سوف يكون مفتاح مغاليق العالم بأسره، أو هو على أقلّ التقادير طريق واضح للوصول إلى تلك الدوائر المغلقة، من هنا يتأكّد لنا المعنى الجليّ في الحديث المرويّ عن الإمام جعفر الصادق (ع) حيث يقول: "الدعاء هو العبادة التي قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) (غافر/ 60)...، ادعُ الله عزّ وجلّ ولا تقل: إنّ الأمر قد فرغ منه"، وقد تقدّم منّا الإشارة إلى ذلك في دُعاء للإمام زين العابدين (ع).

بل إنّه يدفع القضاء المبرم، وهذا من أنصع الصور على كونه السر في فتح تلك المغاليق، فإنّ القضاء المبرم يعني غلق السبل أمام الفاقد، وما من شيء ينفذ به تجاه تلك الدوائر ليغيّر مجرى الفقدان إلى الوجدان، غير الدعاء.

عن عبد الله بن سنان قال: "سمعت أبا عبد الله الصادق (ع) يقول: الدعاء يردّ القضاء بعد ما أُبرم إبراماً، فأكثِر من الدعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة، ولا يُنال ما عند الله عزّ وجلّ إلّا بالدعاء، وإنّه ليس باب يكثر قرعه إلّا يُوشك أن يفتح لصاحبه"، فهو يردّ القضاء المبرم، وهو مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة، وهذا هو معنى كونه مفتاح مغاليق العالم بأسره.

وقد كان الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول: "الدعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل"، وقد أوضح لنا الإمام الرضا (ع) المراد من البلاء الذي لم ينزل، فعن عمر بن يزيد قال: "سمعت أبا الحسن الرضا (ع) يقول: "إنّ الدعاء يردُّ ما قد قُدِّر وما لم يُقدَّر، قلت وما قد قُدِّر عرفته، فما لم يُقدَّر؟ قال: حتى لا يكون".

 

أهمية الدعاء في الرخاء:

وممّا حثّ عليه أهل العصمة (عليهم السلام) في مجال الدعاء: التواصل في الدعاء، فيكون العبد داعياً راجياً لربّه تعالى في السرّاء والضرّاء، في الشدّة والرخاء، لأنّ الهدف الأعظم من وراء التزوُّد بثقافة الدعاء ليس قضاء الحوائج، فذلك أمر عرضيٌّ عند العارفين بالله تعالى، وإنّما الهدف الأعظم والحقيقي هو نيل القرب من الله تعالى، ونيل القرب ليس مقروناً بالضرّاء أو الشدّة ليتوقّف الدعاء عند ذلك، ولو أردنا أن نُحقِّق في الموضوع سوف نجد أنّ العبد هو أحوجُ للدعاء في السرّاء والرخاء منه في الشدّة والضرّاء، كما أنّ الرخاء أوجب للدعاء منه في الرخاء، وقد ورد هذا المعنى عن أمير المؤمنين عليّ (ع) إذ كان يقول: "ما من أحد ابتلي، وإن عظمت بلواه، بأحقِّ بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء"، ومن الواضح بأنّه لا يوجد عاقل يأمن البلاء في حلِّه وترحاله، فما دامت الحركة والتحوّل والتبدّل قوام وجود الإنسان، فلا يبقى حال على حال.

ثمّ إنّ السرّاء والرخاء غير معلوم لنا أنّهما كاشفان عن رضا الله تعالى، فلعلّهما من باب الاستدراج، وهذا أخطر ما يكون عليه العبد، ثمّ إنّ السرّاء والرخاء يعنيان تنعُّم العبد، وهذا يعني أنّ العبد قد استُجيب له أو أنّه لقي عنايةً خاصّةً، وهذا ما يُعمّق في نفسه الحاجة للدعاء، فإنّ الدعاء لا يعني بالضرورة طلب الحوائج، فالشكر باب من أبواب الدعاء، ثمّ إنّه لا يُعلم أين مكامن استجابة الدعاء عند الشدائد، فلعلّ ذلك يكمُن في الدعاء عند الرخاء، وهذا ما ورد فيه روايات عديدة، منها: عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ الدعاء في الرخاء يستخرج الحوائج في البلاء"، وعن سُماعة قال: قال أبو عبد الله الصادق (ع): "من سرّه أن يُستجاب له في الشدّة فليُكثر الدعاء في الرخاء"، وأيضاً: "تعرَّف إلى الله عزّ وجلّ في الرخاء يعرفك في الشدّة"، وهنا قد أُريد بتعرُّفِهِ إلى الله سبحانه ذكرُهُ إيّاه ومسألتُهُ كَرّةً بعد كرّة، وأُريد بمعرفة الله إيّاه استجابة الله تعالى له.

ثمّ إنّ الدعاء في الرخاء كاشف إنّي عن الكمال الإنساني الذي عليه الداعي، بخلاف الدعاء في الضرّاء فإنّه لا يكشف عن ذلك سلباً وإيجاباً، لأنّ الدعاء هو تعبير آخر عن الانقطاع إلى الله تعالى، وهنالك فرق عظيم بين الانقطاع الاضطراري الذي يُلازم الدعاء في الضرّاء، وبين الانقطاع الاختياري الذي يُلازم الدعاء في السرّاء.

إذن، "فهنالك حالتان يدعو الإنسانُ اللهَ فيهما، الأُولى: عندما يُبتلى بالمصائب والمحن وتُوصد في وجهه الأبواب، وتنقطع به العلل والأسباب، نراه يتوجّه تلقائياً وغريزياً إلى الله تعالى، يتوسّل به ليرفع عنه محنه ومصائبه، وهذا النوع من التوجّه نحو الله لا يُعتبر كمالاً إنسانياً. والثانية: عندما يكون في حالة رخاء، واطمئنان بالٍ، ولكنه يعلم بأنّ ما هو فيه من نعمة مُزجاة فمن الله، وأنّه تعالى هو القادر على أن يسلبه إيّاها، كما هو القادر على أن يزيده منها...، ولذا نجد هذا المخلوق الواعي حتى وهو في رخائه وبحبوحة عيشه يتوجّه إلى ربّه بنفس مُتسامية مُشرقة، داعياً إيّاه، مُتوسّلاً به ليديم عليه نعمته ويزيده من فضله، ويُبعده عن معصيته ليبعد غضبه سبحانه عنه، ويُقرِّبه من طاعته ليؤدّي حقّ شكره، ولا إشكال في أنّ هذا النوع من التسامي لمثل هذا المخلوق ينظر إليه بعين رحمته".

ولأجل ذلك كلِّه لا ينبغي ترك الدعاء في السرّاء والرخاء، بل إنّ تركه في حالة السرّاء قد يكون مُؤشِّراً إلى حالة خطيرة جدّاً، وهي الحالة الوصولية والنفاقية معاً، وربما يكون ذلك مؤشِّراً أيضاً على بروز حالات الرياء والعجب والتكبُّر؛ قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود/ 10)، وقال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) (فصّلت/ 50)، وفي ضوء ذلك يتبيّن لنا أنّ التواصل في الدعاء في السرّاء والضرّاء كاشف عن درجات إيمان العبد بربّه سبحانه وتعالى، فلا يأخذنا العجز عن ذلك، لا سيّما في السرّاء حيث الميل للراحة والدعة، فقد ورد عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ أعجز الناس مَن عجز عن الدعاء...".►

 

المصدر: كتاب الدعاء إشراقاته ومعطياته

ارسال التعليق

Top