• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

السمنة.. لابد من فهمها حتى نحسن مواجهتها

د. إبراهيم جبور

السمنة.. لابد من فهمها حتى نحسن مواجهتها
  السمنة التي صارت مشكلة في بيوت كثيرة، لابدّ من فهمها حتى يحسن مواجهتها لا شك في أنّ السمنة (Obesite) هي أحد الأعراض المعروفة منذ زمن طويل، لكن انتشارها ازداد في الوقت الحاضر بشكل كبير بسبب الحياة العصرية وتغير النظام الغذائي للإنسان. وإزاء ذلك حاول العلماء والأطباء ومختصو التغذية، منذ القدم وحتى الآن، جاهدين التخلص من هذه المشكلة أو على الأقل الحد منها. ودائماً نسمع باكتشاف جديد أو بوصفة سحرية تدعي قدرتها على حل هذه المشكلة التي تقلق بال الكثير منا، ولكن حتى الآن لا شيء من هذا. وأخيراً، أشار الاكتشاف الحديث لهرمون "كابح – الجوع" عند الإنسان الجدل مجدداً حول أسباب السمنة. ويمكن لاضطراب في التفاهم بين الدماغ وباقي الأعضاء أن يفسر ازدياد الشهية وبالتالي ازدياد الوزن.

لقد اعتبرت السمنة خلال زمن طويل نتيجة لنقص الإرادة عند الأشخاص المصابين بها. لكن هذه الفكرة شكك بها بسبب الأهمية المتزايدة لهذه المشكلة في البلدان الصناعية كما في البلدان التي في طريق التطور. إذ تبلغ نسبة السمنة حسب المناطق حوالي 10-30% من مجموع السكان. يعيش المصابون بالسمنة حياة أقصر، وزيادة الشحم تدفع للإصابة بمرض السكري (Diabete) وبارتفاع التوتر الشرياني، والأمراض القلبية الوعائية وبعض السرطانات. إنّه وضع مقلق جداً لعدم وجود معالجة فعالة على المدى الطويل.

 ومنذ حوالي عشر سنوات، أظهر البحث حول السمنة، في المجال السريري وحول نماذج حيوانية "القواضم أو الرئيسات"، مرضية (Pathologie) أعقد بكثير مما كان يظهر. والأمل العلاجي أصبح حقيقياً، حتى وإن كنا لن نملك على ما يبدو أدوية ناجعة قبل مرور عدة سنوات. إن نقصاً في وظيفة الوطاء (Hypothalamus)(غدة صماء متوضعة في أسفل الدماغ) يمكن أن يكون موضع الاتهام. والوطاء هو الموضع الذي عنده يمارس تنظيم تناول الغذاء ومراقبة إفراز العديد من الهرمونات. وفي الواقع، ينظر غالباً إلى السمنة كمرض عصبي هرموني، وهي فكرة تعددت منذ سنتين بسبب اكتشاف هرمون "كابح – الجوع" ألا وهو اللبتين (Leptine) نادراً ما كان اكتشاف في تاريخ البحث الحيوي الطبي هدفاً لتغطية إعلامية مثلما حدث عام 1944 عندما عزل جيفري فريدمان (Jeffery Friedman) وزملاؤه في نيويورك، عند الفأر كما عند الإنسان، مورثة هرمون جديد منتج من قبل النسيج الشخصي (الشحم الموزع تحت الجلد، داخل جوف البطن، حول الكلى والقلب)، سمي هذا الهرمون باللبتين ومورثته بالـOb "نسبة للسمنة".

وهذا الهرمون يملك خاصية رائعة، وهي مقدرته على إحداث الشعور بالشبع وإنقاص تناول الغذاء. فلقد وجد أنّ الفئران الطافرة التي لا تملك المورثة Ob الوظيفية تأكل كثيراً وتصبح سمينة، وإنّه يكفي فقط تجريعها اللبتين من أجل أن تفقد الشهية وأن تعود لوزنها الطبيعي. وبسرعة كبيرة اهتمت الشركات بهذا الاكتشاف. وفي طليعتها شركة التكنولوجيا الحيوية الأمريكية "أمجين Amgen" التي خصصت عشرين مليون دولار لمعهد روكفلر (Rockefller) النيويوركي من أجل اكتساب كامل الحقوق حول المنتجات المطورة انطلاقاً من المورثة Ob. وفي الواقع، بدا اللبتين ككابح – جوع طبيعي متميز من أجل معالجة عدد كبير من حالات السمنة، حيث بلغ رقم مبيعاته عدة مليارات من الدولارات.

 وفي الواقع، فإن اكتشاف اللبتين مفيد جدّاً، لأننا نعتقد منذ عدة سنوات أنّ السمنة مرتبطة بتفاهم سيئ بين الدماغ "الوطاء" وباقي العضوية )هرمونات، نسج مختلفة مثل النسيج الشحمي). وهذه النتيجة تم التوصل إليها بفضل العديد من الأبحاث التي أجريت على الحيوانات في مخابر التغذية، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فرنسا، وجنيف.

من أجل فهم ما يحدث عند ذوات السمنة، لنوجز الوضع المتوقع عند إنسان عادي. إن تخزين الشحم داخل العضوية يتوقف بالتأكيد على طبيعة الأغذية المتناولة "شحوم، سكريات" من قبل الإنسان، لكنه يتطلب أيضاً تأثير هرمون مهم جدّاً، ألا وهو الأنسولين (Insuline) المفرز من قبل جزر لانجرهانس لغدة البنكرياس. إنّ الشحوم تتحول، عندما تمتص أثناء الهضم، إلى جسيمات مجهرية مرتبطة إلى بروتينات لتأمين عملية النقل ضمن الدم. وهذه الجسيمات التي تنقل بواسطة الدم إلى النسيج والأعضاء، تسمى بالبروتينات الشحمية وضعية الكثافة (منخفضة الكثافة جدّاً) أو VLDL، إما ستحترق من أجل تزويد الطاقة أو ستختزن في النسيج الشحمي. وهنا يتدخل الأنسولين: إن تخزين الـvldl يحدث بفضل تأثير هذا الهرمون. إذا كان السلوك الغذائي طبيعياً وإفراز الأنسولين ملائماً، فإن توضع الشحم يكون لا قليلاً جدّاً ولا مفرطاً بل يكون طبيعياً).   - المحافظة على وزن طبيعي:

في غضون السنوات الأخيرة، بينت مخابر طبية وغذائية عديدة، أن مركباً منتجاً داخل الوطاء "الببتيد العصبي Y: Neuropeptide أو اختصاراً NPY وهو أحد المنبهات الرئيسية لتناول الغذاء، لإفراز الأنسولين ولتخزين الشحم. والمعطيات حول هذا الببتيد العصبي Y تتأتي من نماذج حيوانية، بسبب عدم إمكان قياس مستواه داخل دماغ الإنسان. عند حيوان عادي، يكون مستوى "مقدار" الببتيد العصبي Y متغيراً: عندما يرتفع مستواه، فإنّه يتزايد تناول الغذاء ويتنبه إفراز الأنسولين، وأيضاً يزداد تخزين الشحم داخل النسيج الشحمي. أما العكس فيحدث عندما ينخفض مستوى الببتيد العصبيY. لكن ما هو الذي بدوره ينظم هذا المستوى للببتيد العصبي Y؟ بالضبط إنّه اللبتين. يفرز هذا الهرمون من قبل النسيج الشمي تحت التأثير المنبه للأنسولين. تذهب هذه الجزئية الضخمة إلى الدوران الدموي ثمّ تصل إلى الوفاء متثبتة إليه بواسطة مستقبلات نوعية. إنها تمارس عندئذ تأثيرها المشعر بالشبع عاملة على تخفيض مستوى الببتيد العصبي Y. وهذا الانخفاض الموضعي للببتيد العصبي ينقص ليس فقط تناول الغذاء إنما أيضاً إفراز الأنسولين، وبالتالي تخزين الشحم. وهكذا، فإن تنظيماً دقيقاً بشكل حلقي بين الوطاء والنسيج الشحمي يعمل على تحاشي تبدلات الوزن.   - مراقبة الوزن الجسدي: في الدماغ، ينظم الوطاء تناول الغذاء بواسطة الببتيد العصبي Y(NPY)، ذي المستوى المتغير. عندما يزداد، فإنّه يتنبه تناول الغداء وإفراز هرمون الأنسولين من قبل البنكرياس. ييسر الأنسولين تخزين الشحوم (التي تتجول في الدم بصورة جسيمات VIDL). إنّه ينبه أيضاً افراز هرمون آخر وهو، اللبتين، من قبل النسيج الشحمي، يعمل اللبتين على انقاص مستوى الـNPY، وبالتالي تناول الغذاء وتخزين الشحم. عند السمين تكون حلقة المراقبة معيبة، وتكون مستويات الـNPY داخل الوطاء مرتفعة جدّاً. ويكون تناول الغذاء وإفراز الأنسولين وتخزين الشحم مفرطا. وإفراز اللبتين، المزاد، لا يستطيع أن يعمل على جعل مستوى الـNPY طبيعياً. وعندئذ تظهر السمنة وتتسارع. إذا حقنت جرذان بجرعة من الببتيد العصبي Y، فإنّ الجرذان الطبيعي يصبح سمينا خلال عدة أيام. ما الذي يحدث خلال السمنة؟ لقد تبين، على ضوء التجارب الحديثة عند القواضم، أنّ السمنة تعود بالأصل إلى اضطرابات متضمنة اللبتين والببتيد العصبي Y. تكون مستويات (معدلات) الببتيد العصبي Y مرتفعة جداً عند الحيوانات السمينة. لذا، يتنبه تناول الغذاء وإفراز الأنسولين من قبل البنكرياس. وعندها يختزن الشحم بشكل مفرط ويتضخم النسيج الشحمي وتبدأ السمنة بالظهور. إنّ المستوى المرتفع جداً للأنسولين ييسر أيضاً إفرازاً مفرطاً للببتين. وهذا يجب على ما يبدو أن يسبب انخفاضاً في إنتاج الببتيد العصبي Y من قبل الوطاء، وبالتالي تناقصاً في تناول الغذاء. لكن هذا لا يحدث أبدا: إن حلقة المراقبة بين الدماغ والنسيج الشحمي تكون مشوشة. ففي عدة نماذج من الحيوانات السمينة (فئران، جرذان)، تكون في الواقع مستقبلات اللبتين مخربة والهرمون لا يستطيع أن يعمل على إنقاص الببتيد العصبي Y. ولقد بينت إحدى التجارب بطريقة قاطعة الأثر الحاسم لفربط اللببتيد العصبي Y. إذا حقن وطاء جرذان طبيعي بهذا اللببتيد العصبي، فإنّ الحيوان يفرز زيادة من الأنسولين ويصبح سميناً خلال يومين. ووجد أن وزنه يعود إلى الته الطبيعية، إذا ما توقف الحقن. من المحتمل أن تنطبق هذه المعطيات على الإنسان أيضاً، وكما يشاهد عند الحيوان فإنّ الأشخاص السمينين يأكلون أكثر، ويفرزون انسولينا أكثر ولبتينا أكثر، ومعدل هذا الأخير يتناسب مع كتلة النسيج الشحمي. فالسمنة البشرية تعزى إذن على ما يبدو إلى عدم مقدرة اللبتين على أن يماري تأثيره على الوطاء. وفي الوقت الحاضر هناك دراسات سريرية قيد البحث: بالإضافة لازدياد معدلات (مستويات) اللبتين في دم المصابين بالسمنة، فإن دراسات حديثة بينت أن نقل هذا الهرمون نحو الدماغ يكون معيبا. تفسر هذه الشذوذات المشاكل التي يعاني منها أغلب المصابين بالسمنة عندما يخضعون لنظام غذائي منخفض الحريرات. فإذا ما ابتدأوا عادة بخسارة الوزن، فإن جهودهم تنتهي غالباً باستعادة الكيلوجرامات الضائعة، وحتى إلى تفاقم السمنة الأصلية. وهذا الفشل يعزى إلى أنّ النظام الغذائي لا يعالج سبب السمنة: إنّه لا يعيد طبيعياً حلقة المراقبة بين الدماغ والنسيج الشحمي. هكذا، فإنّ الفرق الأصغر (الأدنى) سيسبب ازدياداً جديداً للأنسولين وتخزين الشحم. وكما أنّ الإفراز المبالغ به للببتين يبقى غير فعال، فإن تناول الغذاء يعود من جديد مفرطا. إنّ أغلب الشركات الدوائية، تنظر حالياً إلى استعمال طرق جديدة أكثر تهديفاً من أجل معالجة السمنة. إحداها تسعى للحصول على جزيئات تكبح "توقف" تأثير الببتيد العصبي Y "صنواد Antagonistes" ، وأخرى تقوم على البحث عن جزيئات قادرة على تقليد التأثير الطبيعي للببتين "شواد: Agonistes"، ودائماً من أجل إنقاص تناول الغذاء، إفراز الأنسولين واستبعاد الوزن الزائد. وعلى الرغم من تعاون عدة مجموعات بحثية جامعية وبالتأكيد عدة مجموعات صيدلانية في هذا العمل، فإنّه يسود من أجل أسباب اقتصادية ومن أجل المنافسة، صمت مطلق فيما يخص التجارب السريرية. على الرغم من هذه الإمكانات الجديدة الواعدة، فإنّه يجب عدم النسيان بأنّ السمنة هي حالة مرضية معقدة جدّاً، وأن هناك العديد من النقاط التي يجب إيضاحها. إذا كانت السمنة تبدو مرضية عصبية هرمونية، فإن أصل الشذوذات المذكورة، الوراثة، البيئة، أو مزيج منهما مازالت صعبة الفهم. مهما يكن من أمر، فإنّ المستقبل مازال واعدا جدا ومبشر بالخير في هذا الميدان.   * أستاذ في الكيمياء المصدر: مجلة العربي/ العدد 490

ارسال التعليق

Top