• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصراع في بيئة العمل.. وجهان لعملة واحدة

جيمس د. كوفمان/ ترجمة: مجد الإبراهيم

الصراع في بيئة العمل.. وجهان لعملة واحدة

◄إنّ مصطلح الصراع غير المثمر يفترض ضمنياً وجود الصراع المثمر. في الحقيقة، يلعب الصراع دوراً رئيسياً في أي منظمة، بما في ذلك الكليات والجامعات. ويستعرض النقاش الآتي تكلفة الصراع غير المثمر، ولماذا من الضروري جدّاً جعله في حدوده الدنيا؟ وطبيعة الصراع غير المثمر وأهميته في رفاه المؤسسة على المدى الطويل.

 

- الصراع غير المثمر:

تعدّ البيئة الأكاديمية مكاناً للأفكار سواءً كانت المؤسسة عبارة عن كلية في حي ما أو كلية صغيرة للفنون الليبرالية أو جامعة شاملة على مستوى الماجستير أو جامعة بحثية كبيرة. ويعدّ التبادل الحر للمعلومات والمعرفة أمراً رئيساً بالنسبة لوجود المؤسسة. وهذا صحيح تماماً في الصف الدراسي بقدر ما هو صحيح في مختبر الأبحاث. فالأفكار والمعلومات والمعرفة تسود في أي نظام أكاديمي وتخضع للتغيير في كل يوم على مدار الساعة.

وتشكل النزاعات المتعلقة بـ الأفكار وصحة المعلومات والمعرفة جزءاً من كل يوم في الحياة الأكاديمية. وقد يكون الحديث ممتعاً ومسلياً كذلك. وكلما حصلت النزاعات في الصف الدراسي، كان الوضع أفضل لأن هذا يعدّ بمثابة التربة الخصبة التي تعدّ أفضل مكانٍ لزراعة بذور التعليم العملي الفاعل. إنّ هذا الحديث بحد ذاته هو الذي منع الصحافة والتفكير المرتكز على الرغبة من دفع البلد باتجاه قبول فكرة ما يسمى بالانصهار البارد بسرعة كبيرة. وأخيراً كشف التحقيق المستمر تلك الفضيحة التي أثارتها نظرية إنسان بيلتداون، التي استمرت لعقود من الزمن عن طريق المد والجزر بين المتحف البريطاني والمؤسسات الأكاديمية. أمّا قائمة الأمثلة من هذا النوع فهي غير محدودة، وهذا واضح بشكل بارز عبر حديث داروين مع ذاته الداخلية على طول طريقه الرملي الذي كان يمشي عليه، أو انتقاد واتسون وكريك لاتجاه بحثهم في مكتبهم المخبري.

إنّ الأفكار والمعلومات والحكمة المكتسبة أيضاً تتمتع بطريقة لتصبح متجانسة مع الأفراد ومهنهم. ولذلك من المتوقع أن ينتقل الحديث – مع بعض التكرار – إلى الناس الذين يقفون وراء الأفكار أكثر من الأفكار بحدّ ذاتها. وعندها يمكن للنزاعات المستمرة مدى الحياة أن تتطور. ويكون هذا محتملاً عندما يتم إبعاد الأشخاص المتنازعين عن بعضهم بعضاً. لكن عندما يكونون في القسم الأكاديمي نفسه فقد يكون التأثير السلبي عليهم وعلى زملائهم المباشرين ومؤسستهم تأثيراً مدمراً. لقد حدثت أمثلة حقيقية وذلك عندما حافظ عضوان متخاصمان في الهيئة التدريسية ممن يتمتعون بشهرة طويلة الأمد على الحروب والمجموعات المتنازعة، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تدمير قسمهم. والأسوأ من هذا هو أنّه يمكن للأفراد ذوي المعدل المتوسط وما دون أن يخلقوا مستوىً من التأجيج المزمن بها يكفي ليوقع الفوضى في وحدة ما لدرجة الإضرار بمهنة أولئك المحيطين بهم، وإلحاق الضرر بمؤسستهم بالمحصلة. أما الأكثر فظاعة هو أنهم يتسببون بالضغط والكبت وإعطاء توجيهات رديئة الجودة لطلابهم. لذا لا يجب السماح أبداً باستمرار هذا السلوك عند اكتشافه، ويمكن حله أو إدارته في معظم الأمثلة. والأفضل من هذا هو منع وقوع كثيرٍ من هذه الحالات.

إنّ الصراع غير المثمر من هذا القبيل يستهلك الشيء الوحيد الذي يجب أن تقدمه المؤسسة ألا وهو الموارد الفكرية والطاقة اللازمة لشرح هذه الموارد. ويعدّ الوقت والطاقة الفكرية المستهلكة في الذهاب والإياب وراء الأبواب المغلقة، والثرثرة الفارغة والمواساة العامة وقتاً غير مستثمرٍ في ثقافة الاكتشاف والتدريس والتعلّم والتكامل والتطبيق. وهكذا لا يحصل الطلاب على حقوقهم، وتتعرقل المهن وتخسر المؤسسة قوامها. ويسود الهم والغم في مكان يفتقر إلى قليل من الابتهاج الذي يضفي لمسة من الجمال. لكن الأسوأ في هذه الحالات هو أن هذه الخسارات هي خسارات حقيقية جدّاً لا يمكن استردادها أبداً!

ويعدّ الصراع غير المثمر أمراً شائعاً في مسائل الإدارة الرشيدة. فالصراع والنزاعات ضرورية لتطوير سياسات سليمة لتعزيز مستقبل المؤسسة والعاملين فيها. وتستمر هذه الحالة بين مدٍّ وجزر طالما أن هناك إحساساً عاماً بالثبة بين الأطراف وطالما بقي النقاش مُركَزاً على القضايا أكثر من تركيزه على الأشخاص الذين يثيرون مثل هذه القضايا. لكن إذا أطلقت الإدارة تصريحات مضللة – وإن كان ذلك بشكل مقصودٍ أو سهواً – بشأن الميزانية أو بعض القضايا الأخرى المعروفة يومياً، فإنّ الشك بالأشخاص الذين أطلقوا هذه التصريحات يبدأ باحتلال الأولية بدلاً من الالتفات إلى حل القضايا بحد ذاتها. وهذا يخلق بيئةً يستطيع فيها أولئك الأفراد النادرون الذين يزدهرون بوجود الصراع أن يبرزوا بكامل إمكانياتهم. ويمكن أن يحصل هذا عبر التصريحات الطنانة في اجتماع أعضاء الهيئة التدريسية، أو المعلومات المضللة المرتبطة بأجزاء من الحقيقة المنتشرة عبر وسائل إبداعية لا تعد ولا تحصى. فالبريد الإلكتروني كان قد سلّح هؤلاء الأشخاص بشكل هائل، خصوصاً أولئك الذين أتقنوا فن وعلم المراسلة الإلكترونية الجماعية للرسائل مجهولة المصدر. أمّا الإمكانية الحقيقية لمثل هذه الأحداث المتضاربة للخروج عن السيطرة وإيقاع المؤسسة في حالة من الإرباك المزمن أو الحاد، فتؤكّد على الطبيعة الأساسية للتعامل الصادق والاتصالات الجيِّدة (التي لا يمكن أن تصل إلى مقدار كافٍ أبداً) والاحترام المتبادل، والسياسات والعملية التي يتم اتباعها.

وبمفهوم عادي يتمتع الصراع غير المثمر، بتأثير مالي واقعي جدّاً حيث يتم تخصيص حصة الأسد من الميزانية في أغلب الوحدات الأكاديمية للرواتب ولفوائد الموظفين الإضافية. وعندما تتم ترجمة كلفة هذا النوع من الصراع الذي تم وصفه منذ لحظات إلى الوقت الفعلي الذي يقضيه أعضاء الهيئة التدريسية وفريق العمل والإدارة، يتم إنفاق مبالغ كبيرة من الأموال يومياً دون طائل أو جدوى، لكن هذا لا يتضمن المنح والعقود المهملة، والهبات غير المستثمرة، أمّا في حالة الجامعات العامة فيتم إيقاف التمويل التشريعي بسبب ظهور المؤسسة وهي في حالةٍ من الفوضى.

إنّ عبارة هنري كيسنجر المشهورة التي مفادها أن علم السياسة منتشر بكثرة في الجامعات؛ لأنّ المخاطر متدنية جدّاً، لا أساس لها من الصحة. فالمخاطر مرتفعة جدّاً. ويجب التفكير ملياً، بالإضافة إلى الاهتمام بالبحث والخدمة، بعدد الطلاب المدرجين في التعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعدها التفكير ملياً بدراسة التأثير الذي سيكون لهم على التوجه المستقبلي للبلد. إنّ تأثير الطلاب ومستقبلهم يؤدي إلى رفع المخاطر عالياً جدّاً.

 

- الصراع المثمر:

يمكن تقديم الصراع المثمر في بيئة أكاديمية وفقاً لصيغتين اثنتين: صراع بشأن الأفكار وصراع بشأن الأشخاص وأدائهم. وسيكون من السهل إضافة الصراع من أجل المال، لكن قضايا الموارد لا تعدّ مهمة إلا إذا كانت مرتبطة بالأشخاص وبأدائهم المثمر.

 

- الصراع حول الأفكار:

تقود الأفكار المجتمع على وجه العموم والمؤسسات الأكاديمية على وجه الخصوص، وتغطي مجموعة الأفكار في الجامعات البحثية جبهةً أكبر وأكثر تأملاً. فالاستكشاف الفكري يعدّ صفةً قوية لأغلب الناس الذين يجدون طريقهم وصولاً إلى إحدى المهمات الأكاديمية. وتقود هذه الصفة أولئك الأشخاص الأكثر نجاحاً. فعندما تشتعل هذه الشرارة تبلغ المهن طوراً يتسم بالاستقرار، وإذا أصبحت هذه الشرارة مرضاً مستوطناً فإنّ المؤسسة تنحدر باتجاه الهاوية. وبقدر ما يكون هذا صحيحاً بالنسبة لكليات الفنون الليبرالية الصغيرة، أو كليات المجتمع الصغيرة فهو صحيح بالنسبة للمؤسسات الإقليمية الشاملة والجامعات البحثية الكبيرة.

يتنوع تبادل الأفكار ووجهات النظر عن هذه الأفكار بدءاً من قضايا الإدارة الرشيدة وسياسات الجامعة إلى النقاط الدقيقة للبصيرة الجمالية، وإلى نظرية الأوتار، وإلى علم الأحياء الجزيئي وصولاً إلى الأدب الإغريقي، وكل شيء بينهم. وهذه هي الخميرة التي تجعل العجين يختمر. ويمكن للتدريس والتعلّم في هذه البيئة الارتقاء بمستوى الطلاب إلى مستو أعلى من حيث الطموحات الفكرية الدائمة، أكثر مما يمكن تحقيقه عبر مجرّد تبادل المعلومات. ومعاذ الله أن يتفق أبداً الأعضاء جميعاً في مجتمع أكاديمي على شيء ما في الوقت ذاته. وإذا حدث هذا فإنّ المؤسسة ستنفجر داخلياً.

يخلق التفاعل الجوهري في الصراع بشأن الأفكار والتقاليد الأكاديمية كثيراً من المفارقات الممتعة. فمن المفترض أن تستمر الكليات والجامعات التقليدية إلى الأبد، ولهذا السبب يقوم المتبرعون بتقديم الأموال لها، ويتطلّع الخريجون الجامعيون إليها من أجل أبنائهم وأحفادهم ليدرسوا في المدرسة الأم. ويرتبط هذا أيضاً بنسبة كبيرة بالسبب وراء التغيير المؤسساتي الذي يأتي ببطء شديد وبحالة بالغة الأسى. وهذا بالطبع يحبط الأشخاص الحساسين في القطاع الخاص الذين يعتقدون أنه يجب إدارة الجامعة على أنها مشروعٌ تجاري. فالتنفيذيون والإدارة المركزية في مجال العمل التجاري لا يثيرون الانتباه عبر أرجاء المقرات الرئيسية للشركة، وهم يرتدون الرداء الجامعي الأسود والشعارات والرموز الملكية الملونة لمرتين أو ثلاث مرات في السنة؛ بغية تعزيز أهمية جوهر القيم التي تعود إلى ما قبل 900 عاماً، أمّا الإداريون وأعضاء الهيئة التدريسية فيفعلون ذلك. ومن المثير للمفارقة هو أن نسبة كبيرة من التقدم الفكري والمعرفة الجديدة في العالم تنشأ في هذه المؤسسات القديمة نفسها. فالعلوم الرئيسية التي ستقود تكنولوجيا المستقبل تطورت هناك، كما هو الحال في العمليات البحثية والتنموية للعمل التجاري الخاص. وتعدّ هذه المفارقة الداخلية الخلفية المناسبة بالنسبة للصراع بشأن الأفكار. وتوصف إحدى الجامعات بأنّها قديمة وديناميكية وخلّاقة وتقدمية، كل هذا دفعة واحدة. وبالمحصلة تكون الإنتاجية ضخمة. ويتحقق هذا عندما يتسع الصراع بشأن الأفكار ليصل إلى مرحلة الصراع الذي بدأته المشكلة بشأن الشخصيات وأداء الأشخاص.

 

- الصراع حول الأشخاص وأدائهم:

يمكن للصراع – حتى وإن كان صراعاً جدياً وطويل الأمد بشأن الأشخاص – أن يكون مثمراً. إن لطريقة الفهم هذه علاقة بالفكرة التي تشير إلى أنّه يجب ترتيب الأوليات في بعض الأحيان بحيث يكون العمل ضد قلة من الأشخاص؛ بغية تحقيق المصلحة العليا للمؤسسة والناس الذين يدعمونها بدولارات الضريبة والرسوم التعليمية والمنح والعقود. وهذا يتناغم مع مبدأ الإنصاف الرئيسي. فكل حالة من حالات رفض التثبيت أو الترقية تستلزم صراعاً ما، لكن تخفيض المعايير لتجنب مثل هذا الصراع يعدّ أمراً غير منصف بالنسبة للزملاء، وللمؤسسة كلها، ولدافعي الضرائب ومسددي الرسوم التعليمية، وفوق كل ذلك الطلاب. إنّ الأمثلة الآتية تقدم تصوراً وفهماً للجانب المثمر في الصراع عبر موقفين حقيقيين:

في آذار عام 2003، قام حاكم نبراسكا بتقليص ميزانية جامعة نبراسكا – لينكولن التي تبلغ 21 مليوم دولار أمريكي بنسبة 10%. وكان هذا التقليص مترافقاً مع تخفيضات أساسية سابقة ولم يترك خياراً أمام الجامعة إلا أن تقوم بالتخلي عن بعض البرامج؛ لكي تحافظ على القوى الجوهرية للمؤسسة إلى أبعد حد ممكن.

ووفقاً للبيان الصحفي لجامعة نبراسكا لينكولن بتاريخ 10 آذار من عام 2003، فقد أعلن رئيس الجامعة، هارفي بيرلمان، الدفعة الأولى من التخفيضات بقيمة 7,5 مليون دولار أمريكي وأرسلها عبر وسائل الاتصال الإلكترونية إلى مجتمع الجامعة. وكانت إستراتيجيته المعلنة تنص على: "الحفاظ على القوى المركزية للجامعة وتوجيهنا لمتابعة تعزيز برامجنا في التعليم البحث والخدمة".

وتضمنت المقترحات الأولية للتخفيضات المبرمجة وحالات عدم الاستمرارية، حذف قسم الأبحاث في متحف ولاية نبراسكا (Nebraska State Museum). وأدى هذا إلى تسريح عدد من أعضاء الهيئة التدريسية المثبتين. ولأن موضوع التثبيت كان مشمولاً، فقد أثبت هذا الأمر على أنه أحد أكثر القضايا تعقيداً، التي تتطلب نضالاً مريراً في هذه العملية. أمّا لجنة التخطيط الأكاديمية التي تم تعيينها لمراجعة مقترحات رئيس الجامعة فقد عارضت هذه التخفيضات.

وبشكل أكثر تحديداً، بلغت مقترحات بيرلمان حدّ الإعلان عن الحاجة المالية الماسّة؛ لأن بعض أعضاء الهيئة التدريسية سيتم تسريحهم بشكل مؤقت لأسباب مالية. وهذه قضية قوية لدرجة أنه يمكن طرحها في بيئة أكاديمية. ففي شهر نيسان (أبريل) من عام 2003 قام مجلس جامعة نبراسكا لينكولن بالتصويت لحجب الثقة عن بيرلمان. لكن رئيس الجامعة عبّر عن نيّته إجراء استفتاء يشمل أعضاء الهيئة التدريسية جميعاً على اتساع الجامعة بشأن مقترحاته مع التزامه بتقديم استقالته من منصبه إذا كانت نتائج الاستفتاء ضدّه. وقد تم إجراء هذا الاستفتاء في شهر أيار (مايو) وحقق بيرلمان فوزاً ساحقاً في التصويت بنسبة 90%.

وكما ورد في البيان الصحفي الصادر عن جامعة نبراسكا لينكولن بتاريخ 6 حزيران (يونيو) 2003، فقد قام مجلس نبراسكا التشريعي باختزال مقترحات الحاكم اختزالاً، وتم تقليص التخفيض الفعلي لميزانية الجامعة.

كان هذا وضعاً خطراً جدّاً حيث يجب أن يؤخذ الإنصاف بعين الاعتبار بالنسبة لأولئك الذي يخسرون وظائفهم، وذلك بالتوازي مع تحقيق المصالح المثلى لبقية أعضاء الهيئة التدريسية، والطلاب، ودافعي الضرائب، ودافعي الرسوم التعليمية، وأولئك الذين يملكون المنح والعقود. وكانت استمرارية المؤسسة على المدى الطويل موضوعاً مطروحاً للنقاش. وفي معالجته لهذه المسألة في مراحل متقدمة، قام رئيس الجامعة بزجّ أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب والقيمين على الولاية والمشرعين وغيرهم من الناخبين في هذا الموضوع. وقد عُقدت كثير من جلسات الاستماع في الجامعة وعبر الولاية. وتم تلخيص هذه الجلسات والإعلان عنها في بيان صحفي للجامعة في 4 نيسان (أبريل) من عام 2003. وحافظ بيرلمان وإدارته على التركيز على المصالح المثلى للمؤسسة على المدى الطويل. وبالرغم من أنّ المسألة كانت جدلية بشكل كبير جدّاً، فقد كان كل ما اقترحه علنياً ومنفتحاً. لقد أظهر بيرلمان ميّزةً في وجه هذا الصراع الهائل، تتمتع بأهمية جوهرية في فض النزاعات التي تشمل الأشخاص وأدائهم: هذه الميّزة هي الشجاعة.

لا يوجد تناقض بين تمسّك المرء بأسلحته إزاء القضايا التي تتمتع بأهمية جوهرية، وإظهار الاحترام للأطراف المتنازعة والتعاطف مع الأطراف المتأثرة. ولا يقتصر الإنصاف على أولئك الذين يخسرون وظائفهم، على الرغم من أنه يجب إبداء التعاطف بحده الأقصى والمجاملة الممكنة تجاههم. ويمتد هذا الإنصاف ليصل أيضاً إلى الشركاء الأساسيين في المؤسسة جميعاً وعبر الولاية حاضراً ومستقبلاص.

تعدّ الحالة في جامعة نبراسكا لينكولن مثالاً كلاسيكياً للصراع البنّاء الذي يشمل الناس (والأموال). فقد كانت هناك مشكلة كبيرة وملّحة وكان يجب حلّها ضمن إطار زمني مضغوط. وكل حل محتمل ينضوي على وجود صراع ما.

أثناء التسعينيات، أصبح المشرعون ومجالس الحكام والأوصياء مقتنعين بأنّ الجامعات التي تمنح درجة الدكتوراه قد تجاوزت حدودها في مجال البحث، الأمر الذي أدى إلى إهمال التدريس والتعلّم. وقد ترافق هذا الرأي بانتقادات لإنتاجية أعضاء الهيئة التدريسية على جبهات متعددة، بما في ذلك الصحافة الشعبية. وقد استشهد النقّاد بالوقت الكثير جدّاً المستغرق في الاستشعارات الشخصية، وفي أنشطة المصالح الشخصية للحصول على ترقية في العمل. وكانت النتيجة وجود جو عام من الريبة والشكّ بشأن المساءلة الأكاديمية، خصوصاً في الجامعات الحكومية. ولم يعد بالإمكان النظر إلى التعليم العالي على أنّه ذو قيمة تُذكر. أمّا نظام تثبيت الموظفين فقد كان الهدف المنطقي لهذه الاهتمامات، وبرزت حقبة مراجعة نظام تثبيت الموظفين في العمل إلى حيز الوجود وأصبحت متسارعة بفضل آلية سنّ القوانين عبر الفاكس. وهذا يعني أنّه عندما يتوصّل أحد الحكام أو المشرعين أو أحد أعضاء مجلس القيمين أو الأمناء إلى شيء ما، فإن بقية الأعضاء يسيرون خلفهم؛ لأنّ الجميع يذهبون إلى الاجتماعات نفسها ويقرؤون الأدب نفسهُ.

في ربيع عام 1995 قام رئيس مجلس الأوصياء في كنساس بإيقاف الاجتماع المنعقد لمجلس كبار الموظفين الأكاديميين (COCAO) بشكل غير رسمي وتحدث باسم الجامعات الست التابعة لولاية كنساس. وكان المجلس على وشك إصدار قائمة الأوامر التوجيهية للجامعات نتيجةً لسلسلة طويلة من الأنشطة المتعلقة بتقويم أعضاء الهيئة التدريسية، لكن رسالة الرئيس إلى مجلس كبار الموظفين الأكاديميين كانت رسالةً واضحةً ودقيقةً.

واستذكر ما قاله رئيس المجلس عندما قال: "إنّ المجلس مقتنع بأنّ الجامعات متشدِّدة جدّاً في توظيف أعضاء هيئة تدريسية جدد. نحن نؤمن بأن مقداراً كبيراً من التقدم تم إنجازه في التقويم السنوي. ومن الواضح أنّ القرار بمنح التثبيت قد تم بصورة جدّية تماماً، أمّا المعايير المستخدمة بهذا الخصوص فتعدّ معايير رفيعة المستوى. لكن لم يكن هناك أدنى دليل على أن أياً من الجامعات تتمتع بطريقةٍ ما للتعامل مع أعضاء الهيئة التدريسية المثبتين الذين أصبحوا غير منتجين. ولذلك فإمّا أن تقوم المؤسسة بالاهتمام بهذا الأمر أو أنّ المجلس سيقوم بهذا عوضاً عنهم".

لقد أوضح النقاش اللاحق بأنّ القضية ليست قضية عدم كفاءة وإنما قضية إنتاجية منخفضة أو عدم وجو قابلية للإنتاج بالأساس. فالقضية الرئيسية هنا هي أن هناك عدداً من أعضاء الهيئة التدريسية لا يقومون بالكثير على الرغم من قدرتهم على ذلك. في الواقع، كانت القضية قضية الأداء المتدني بصورة مستمرة وهذا هو الاسم الذي أصبحت سياسات المجلس تشتهر به. وهذا هو الاسم أيضاً الذي تشتهر به طريقة المعالجة في كتيّب الجامعة في جامعة كنساس ستيت هذه الأيام، كان رئيس مجلس الهيئة التدريسية في جامعة كنساس ستيت وكثيرٌ من قادة الهيئة التدريسية ورئيس المجلس التعليمي متفقين على العديد من النقاط:

1- كان هناك عدد قليل جدّاً من أعضاء الهيئة التدريسية ممن تُطبق عليهم سياسات المجلس الجديدة بشكل فعلي.

2- إذا لم تُعالج هذه القضية فمن شأنها أن تؤدي إلى الإضرار بنزاهة نظام تثبيت الموظفين بصورة تدريجية في عيون القيمين والمشرعين وعامة الشعب.

3- وإذا عولجت القضية بصورة ملائمة فقد يكون للسياسات أثرٌ بنّاءٌ، خصوصاً عندما يتم ربط هذه القضية بالسياسات الموجودة لشخصنة توزيع جهود أعضاء الهيئة التدريسية. لقد قام رئيس مجلس أعضاء الهيئة التدريسية؛ بتعيين قوة عمل تألفت بشكل رئيسي من أعضاء الهيئة التدريسية من أجل بدء العمل على صياغة مسودة للسياسات. وكان يعتقد بالفعل بأنّ المنهجية المثلى تتمثل باغتنام أعضاء الهيئة التدريسية للمبادرة في تطوير الإطار المناسب؛ من أجل وضع السياسات النهائية. وعند هذا الوقت لم يكن متبقياً أمامه إلا ثلاثة أشهر في سنته رئيساً للمجلس. واستمرت هذه العملية مع بعض التعديلات التي أجراها خَلَفُه أثناء رئاسته للجامعة، وتمت الموافقة على السياسات النهائية بعد 18 شهراً تقريباً من العمل والمفاوضات مع رئيس المجلس التعليمي، والرئيس الثالث لمجلس أعضاء الهيئة التدريسية الذي تم تعيينه لاحقاً أثناء الفصل الدراسي. لكن المعارضة كانت شديدة جدّاً في بعض الفصول الدراسية، والسبب الرئيسي وراء ذلك هو أنه كان يُنظر إلى السياسات الجديدة، وكأنّها هجوم على نظام تثبيت الموظفين. فأولئك الذين كانوا يدعمون هذه المعارضة لديهم رأي مغاير من شأنه إنقاذ هذا النظام. لكن عندما انجلى الغبار، وافق مجلس أعضاء الهيئة التدريسية على السياسات بالأغلبية ووقّع عليها رئيس الجلس التعليمي. وأصبحت سياسة ولاية كنساس نسخة معدّلة عن الموضوع المُثار لمراجعة نظام تثبيت الموظفين. لكن ما العملية برزت نقطة واحدة للصراع الرئيسي بين رئس المجلس التعليمي ومجلس أعضاء الهيئة التدريسية في تعريف كلمة "الإجمالي".

لقد استندت السياسات الجديدة الناشئة (الأداء المتدني بصورة مستمرة) إلى تقويم سنوي شامل وهو ما كانت تقوم به الجامعة سابقاً. فعندما يكون مجمل الأداء دون الحد الأدنى للمعايير (التي يتم تحديدها من قبل أحد الأقسام الأ:اديمية، وتكون خاضعة لموافقة عميد الكلية ورئيس المجلس التعليمي) لسنتين متعاقبتين أو لأي ثلاث التدريسية المثبتين بسبب وجود دعوى قضائية ضده، إن لم يبدِ هذا الفرد استجابة لأي خطة من خطط المعالجة.

أفاد ادعاء أغلب أعضاء الهيئة التدريسية بأن كلمة "مجمل" سمحت لعضو الهيئة التدريسية بعدم القيام بالكثير، أو العمل بعجز، في مجال رئيسي واحد (البحث على سبيل المثال) إذا كان لأداء في مجال رئيسي آخر جيّداً بما يكفي ليعوّض عن العجز في المجال الأوّل. لكن رأي رئيس المجلس التعليمي كان مختلفاً تماماً فإذا كان الأداء في مجال رئيسي للعمل دون الحد الأدنى للمعايير، فسيكون من الغريب بالنسبة لذلك الفرد تحقيق مجمل المعايير المقبولة بالحد الأدنى. كانت الفرضية الرئيسية تقول: إنّه إذا كانت نسبة 30% أو 40% من جهود الفرد مخصصةً من أجل البحث ( على سبيل المثال) – ولم يقم بأي شيء على الإطلاق – فإنّ الموارد التي تم تكريسها لذلك الجزء من وقت الفرد قد تمّ هدرها. إنّ هذه الفرضية لم تكن عادلة بالنسبة لأعضاء الهيئة التدريسية الآخرين، والمؤسسة جميعها، ودافعي الضرائب ودافعي الرسوم الجامعة. فبعض أعضاء الهيئة التدريسية كانوا قلقين من أن هذا يمكن أن يفتح الباب أمام رئيس أحد الأقسام أو عميد أحد الكليات ليميل للانتقام عن طريق تكليف أحد أعضاء الهيئة التدريسية بعملٍ يعرف أنه يفوق قدرته على إنجازه، وذلك من أجل إقحامه في "الفشل في تحقيق الحد الأدنى للمعايير" ضمن التقويم السنوي.

لقد كان الصراع بشأن هذه القضية صراعاً جديراً بالاهتمام. فكثير من الأفراد الذين دعموا تلك السياسات بشكل عام عارضوا الموقف الذي اتخذه رئيس المجلس التعليمي. لكن هذا الصراع كان مثمراً أيضاً بشكل كبير. وعند التوصّل إلى التحليل النهائي، تم تذييل النسخة الأصلية لبيان السياسات بثلاث فقرات إضافية سمحت بطرح هذه القضية في الوثائق الإدارية التي تحكم التقويم السنوي الترقية والتثبيت والحد الأدنى للأداء.

ومنذ أن تم وضع هذه السياسات وتطوير الوثائق التنفيذية والموافقة عليها في الأقسام الأكاديمية (1997) جميعها، وُصف ما بين 20 و30 عضو من أعضاء الهيئة التدريسية المثبّتين بأنهم عاجزون عن تحقيق الحد الأدنى من معايير الأداء. وقد استجاب بعضهم للخطط التنموية و/ أو إعادة ترتيب المهام بما ينسجم مع رئيس القسم، لكن عدداً قليلاً منهم قدّم استقالته، وبعضهم الآخر تقاعد، وتم طرد عضواً واحدٍ بسبب دعوى قضائية. ونتيجةً لهذه السياسات فقد تمت إعادة تجيه وإنقاذ عدد من المهن المتخبطة كونها كانت مرتبطة إلى حدٍّ بالتشديد المتزايد على التنمية المهنية، والتشديد الأكبر على شخصنة عملية تحدي وتنسيق جهود أعضاء الهيئة التدريسية.

إنّ الإرتباط بشخصنة جهود أعضاء الهيئة التدريسية، أو الطرق المرنة للنجاح يعدّ أمراً في غاية الأهمية. وقد يكون من الصعب ترسيخ هذا المفهوم في المؤسسات الأكاديمية، خصوصاً تلك التي تشدّد على البحث. لكن يعدّ الارتباط أحد أهم الأساليب على الإطلاق في استثمار الموارد ومنع الصراع غير المثمر. وقد تمت معالجة هذا المفهوم ضمن سياق نفسي وبشكل مرتبط بالمنحنة التعليمية على حدٍّ سواء.

أمّا مثال الطرد بسبب وجود دعوى قضائية فيستحق تفصيلاً موجزاً. فعند تأليف هذا الكتاب، كانت حادثة الطرد هذه هي الأولى من نوعها والوحيدة، عام 2004 على وجه التحديد، بسبب وجود دعوى قضائية في الولايات المتحدة الأمريكية وقد نجمت عن مراجعة نظام وتثبيت الموظفين في التسعينيات، ولم يتم الاعتراض عليها إلا في المحكمة. وبمتابعة هذه الحادثة عن كثب من قبل الأكاديميين المهتمين بهذه القضايا – بما في ذلك الرابطة الأمريكية للأساتذة الجامعيين وغيرها من المنظمات، وسجل التعليم العالي- توقفت سلامة السياسات الجديدة لجامعة ولاية كنساس على تحقيق نتيجة ناجحة في الشكاوى المقدّمة داخل الجامعة والخصومات القضائية التي تبعتها.

وتتمحور القضايا الرئيسية حول ما إذا كانت الجامعة تتعامل بأسلوب منصف مع الشكاوى، أو فيما إذا كانت السياسات الجديدة، إذا تم اتباعها بشكل صحيح، ستقوّض المبادئ الرئيسية لنظام تثبيت الموظفين. لكن لدى الأقسام الأكاديمية المشتكية – لحسن الحظ – سياسات وإجراءات مفهومة بشكل جيِّد تُطابق تلك الموجودة في الجامعة، وقد تم اتباعها. وتتماثل إجراءات المناشدة الإدارية مع سياسات الجامعة. وقد تألفت هيئة الاستماع للشكاوي التي أحدثها رئيس مجلس أعضاء الهيئة التدريسية وفقاً للسياسات من أعضاء الهيئة التدريسية بشكل كامل، وكانت متفقة على العمل لما فيه خير الجامعة. وتمت الموافقة على الطرد فيما بعد في كلٍ من محكمة مقاطعة الولاية ومحكمة الاستئناف في الولاية. ولو تمت خسارة هذه القضية لكانت السياسات الجديدة بأكملها موضعاً للشك والتساؤل. ويمكن أن يؤدي هذا – وفقاً للاحتمالات جميعاً – إلى مقدارٍ كبير من الصراع الجديد بشأن القضايا الفردية والسياسات بحد ذاتها.

وفي بعض الأحيان قد يغضب الناس من بعضهم بعضاً عندما يتجادلون ويتنازعون في بعض الأفكار، وهذا جزء من عملية الصراع، ويمكن أن ينجم عن نوبة غضب طبيعية من عمل شخص ما. ولا تبدأ المسائل الشخصية بالتسرب لتحوّل الصراع إلى صراع غير مثمر إلا عندما يستمر الغضب، ويصبح منصبّاً على شخص آخر، أو عندما يبدو أحد الإداريين وكأنه يردّ بالمثل على أحد الأطراف المتجادلة معه، أو عندما يتم تهميش أو تكذيب أحد الأفراد.►

 

المصدر: كتاب (العمل والطمأنينة في البيئة الأكاديمية)

ارسال التعليق

Top