• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العبادة.. عامل في التربية

مُرتضى مطهري

العبادة.. عامل في التربية
  ◄العبادة مركب يتخذ للتقرب إلى الله وأداة لتكامل الإنسان. والشيء الذي يكون مظهراً لتكامل الإنسان، ويكون ذاته غاية وهدفاً، لا ضرورة لأن يكون مقدمة أو أداة لشيء آخر سواه. ولكن في الوقت ذاته تُعتبر العبادات فضلاً عن هذه الأصالة مقدمة لشيء آخر، أي أنها في ذاته تدخل في إطار المنهج الإسلامي في التربية. بمعنى أنّ الإسلام يستهدف تربية الأفراد أخلاقياً واجتماعياً؛ وإحدى الوسائل التي يتّخذها في هذا السبيل هي العبادة باعتبارها أكثر الأساليب تأثيراً في روح وأخلاق الإنسان.

ويمكن بيان هذا الموضوع بالصورة التالية:

تدور القضايا الأخلاقية حول محور نكران الذات ونسيانها والتغاضي عن مصالحها. وكما أنّ في صحة الجسم ثمة مبدأ يعتبر بمثابة المصدر والمنبع لجميع المحاسن وذلك هو مبدأ "الحمية"، كذلك القضايا الأخلاقية فيها ثمة مسألة تعتبر أُسَّ الأُسس في جميع القضايا الأخلاقية ألا وهي الانعتاق من الذات وهجر الـ"أنا".

والأصل الأساسي لجميع القضايا الاجتماعية هو مبدأ العدالة. العدالة معناها رعاية حقوق الآخرين. وهذه هي المشكلة التي يعاني منها الإنسان عملياً على صعيد الأخلاق وعلى صعيد الاجتماع. أي ليس ثمة أحد لا يعرف الأخلاق أو لا يعرف أهمية العدالة. إلا أنّ المشكلة تكمن في التنفيذ. فالإنسان حينما يبغي تطبيق مبدأ أخلاقي يجد مصالحه تقع على طرف نقيض من ذلك المبدأ؛ يجد الصدق في جانب والمنفعة والربح في جانب آخر؛ وعليه أن يختار إما أن يكذب ويربح أو أن يصدق ويتغاضى عن الربح.

وهنا نجد أنّ الإنسان الذي يتحدث عن الأخلاق والعدالة يتصرف – حين تصل القضية إلى حيّز العمل – بشكل مناقض للأخلاق والعدالة. والشيء الوحيد الذي يعتبر سنداً للأخلاق وللعدالة، وإذا ما كان الإنسان يتحلى به يتسنى له انتهاج سبيل الأخلاق والعدالة واجتناب الربح بكلِّ سهولة هو الإيمان.

ولكن أي إيمان؟ الإيمان بالعدالة ذاتها وبالأخلاق ذاتها. ولكن متى يؤمن الإنسان بالعدالة باعتبارها أمراً مقدساً، ويؤمن بالأخلاق على أساس كونها بعداً مقدساً؟ حينما يكون له إيمان بأصل وأساس القدسية ألا وهو الباري تعالى. ولهذا السبب يتمسك الإنسان بالعدالة والأخلاق على قدر إيمانه بالله. هذه هي مشكلة عصرنا.

كانوا يظنون أنّ العلم وحده كافٍ في هذا المضمار. فإذا عرف المرء العدالة والأخلاق وعمل بهما يكفيه ذلك ليكون عادلاً وصاحب أخلاق. إلا أنّ الواقع العملي أثبت أنّ العلم إذا كان في معزل عن الإيمان لا يكون مفيداً للأخلاق والعدالة بل ومضر بهما أيضاً. ولكن إذا وجد الإيمان يستتب معه العدل والأخلاق. وإشاعة الأخلاق والعدالة بلا إيمان، إنّما يكون مثله كمثل إصدار عملةٍ بلا رصيد. وإذا كان هناك إيمان تأتي معه الأخلاق والعدالة.

لهذا السبب أنّ الإسلام لم يعرض قضية العبادة بمعزل عن الأخلاق والعدالة. أي أنّ العبادة التي يقول بها الإسلام عمادها الأخلاق والعدالة. أو يمكن القول أنّه يقول بعدالة وأخلاق عمادها العبادة، وإلا فلا شيء ممكن غير هذا.

نستنتج من هذا في قضية العبادة والتضرّع أنّ المرء إذا كان المرء حريصاً على تربية ذاته وأبنائه تربية إسلامية، أو إذا كان يرمي إلى تربية أشخاص آخرين، لا مناص له من إبداء غاية الاهتمام بالدعاء والعبادة. وقضية العبادة أساساً – وبغض النظر عن تربيتها لحس أصيل – لها تأثير كبير في سائر مناحي حياة الإنسان. ولهذا السبب يوصي أكابر الدين بضرورة أن يتفرغ الإنسان لذاته ولو ساعة يومياً مهما كانت كثرة أشغاله.

قد يقول قائل: ليس لي ولا حتى ساعة واحدة من وقتي، لأنّ وقتي كلّه مكرّس لخدمة الناس. فيأتيه الجواب: أجل، حتى لو كانت كلّ ساعاتك وقفاً لخدمة الناس فإنّك لا تستغني عن ساعة تتفرغ فيها لذاتك. وهذه الساعة الواحدة وإن كانت لذاته فهي ضرورية ولازمة، والساعات الأُخرى التي لغيره مع ما لها من ضرورة وفائدة لا تملأ الفراغ الناجم عنها.

وحينما يقال ساعة، فهذا حدّها الأدنى. أي لابدّ للإنسان أن يخصص ساعة في يومه على الأقل لذاته؛ يعود خلالها إلى نفسه، وينتزع ذاته مهما كانت من بيئتها الخارجية ويعود بها إلى داخل نفسه وإلى ربّه ويُخلي الجوّ ويتفرغ بالتمام مع ربّه ولا يفكر في شيء آخر ويباشر الدعاء والمناجاة والاستغفار.

الاستغفار بذاته معناه محاسبة النفس ليرى ماذا فعل خلال اليوم الماضي فيتضح له على الفور الصالح من الطالح من أعماله، فيحمد الله على الصالح، ويستغفر ربّه عن الطالح ويصمم على عدم تكراره.

لاحظوا إلى أي مدىً يهتم القرآن بموضوع الاستغفار! جاء في وصف أصحاب الرسول أنهم كانوا: "رهبان الليل وأُسدُ النهار". وجاء في القرآن الكريم: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) (آل عمران/ 17). لاحظوا كيف يبيّن القرآن كافة الجوانب؟ فهو لا يتحدث فقط عن الاستغفار والتضرع كما يفعل الزاهد المتطرف في الزهد. وحينما يذكر القرآن "الصابرين" يقصد بذلك الصابرين في النزال. و"الصادقين" هم الذين لا ينحرفون قيد أنملة عن الصراط. ولعل المراد بـ"القانتين" هو ما وردت الإشارة إليه في الآية الشريفة (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة/ 238)، أي الذين لا يتحدثون إلا مع الله ولا صلة لهم بغيره.

هذه الصفات كلها يجب أن تكون إلى جانب تلك.►

 

المصدر: كتاب الروح والنور في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top