• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المؤاخاة بين المسلمين

عمار كاظم

المؤاخاة بين المسلمين

إنّ من أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين، وتوحّد بين صفوفهم: المؤاخاة بين طبقات المسلمين، ونبذ الميزات إلّا من حيث العلم والتقوى، حيث يقول تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13) و(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (الألباب/ 9). ويقول النبيّ: «إنّ الله عزّوجلّ أعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهليّة وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها. فالناس اليوم كلّهم؛ أبيضهم وأسودهم، وقرشيّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم. وإنّ آدم خلقه الله من طين، وإنّ أحبّ الناس إلى الله عزّوجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم»، وقال: «فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناكم».

ويقول الله تعالى في كتابه المجيد: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 10). منذ أن انطلق الإسلام في الدعوة الإسلامية العالمية التي أرسل الله تعالى رسوله بها ليظهره على الدِّين كلّه ولو كره المشركون، كان أول عمل قام به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة وأكمله في المدينة هو المؤاخاة بين المسلمين. ذلك أن المسلمين عندما دخلوا في الإسلام كانوا أفراداً، قد لا تربط بينهم أية رابطة من النسب أو غيره، فأراد (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال وحي الله سبحانه أن يوجد رابطة عضوية بينهم، بحيث تكون أخوّة أو رابطة الدِّين كرابطة النسب، بل هي أكثر ترابطاً، فهي أشبه بالرابطة التي تجمع أعضاء الجسد في الجسم الواحد.

وقد كانت التجربة الأولى أن آخى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في شكل مباشر بين المسلمين في مكة والذين هاجروا معه بعد ذلك، فقال لفلان إن أخاك هو فلان، بحيث عيّن لكل واحد منهم أخاً في إطار الوحدة العام. وعندما هاجر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وهاجر معه فريق من المسلمين، أعاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه التجربة، فأكد المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، ثم ربط بين المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقيمون في المدينة، فآخى بينهم على الحقّ والمساواة، لتكون أخوّتهم على أساس الحقّ الذي يلتزمونه، ليقوموا بالدعوة إليه ونصرته والدفاع عنه وعن أهله، وأن يواسي كلُّ واحدٍ منهم أخاه في الإيمان، بحيث يشاركه ماله وحزنه وفرحه ومشاكله. وقيل إنّ هذه المؤاخاة كان لها تأثيرها الكبير، وخصوصاً أن المهاجرين عندما جاءوا إلى المدينة، تركوا كلّ أموالهم في مكة وهربوا بدينهم، فكان الأنصاري الذي تآخى مع المهاجر يأتي إلى أخيه المهاجر، ليقول له: ما دمت أخي فلا يمكن أن تبقى فقيراً وأكون على هذا المستوى من الغنى، تعال أشاطرك مالي... وقد حدّث الله تعالى عن هؤلاء فقال: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ـ وهم الأنصار ـ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ـ مضايقة ـ مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون).

وكانت هذه المؤاخاة تعتمد على قاعدة التوارث، فيرث الأخ المؤمن أخاه، كما يرث الأخ أخاه في النسب، وبقيت الحال كذلك حتى جاءت معركة بدر، فنزلت هذه الآية: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) (الأنفال/ 75)، فنسخت ذاك الحكم، وأصبح الإرث مختصاً بالأرحام في كلّ طبقة، يتوارث أهل تلك الطبقة بعضهم بعضاً، ولا ينتقل الإرث إلى الطبقة الثانية إلّا بعد أن لا يبقى أحد من الطبقة الأولى. هذه هي التجربة الواقعية العملية التي قام بها الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المؤاخاة تأكيداً لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)؛ هذا المبدأ الإسلامي الشامل الذي يريد أن يقول للمؤمنين جميعاً: إن رابطة الإيمان هي أعظم من رابطة النسب، وعليكم أن تعيشوا هذه الأخوّة فيما بينكم. وقد وردت بعض الأحاديث في بيان طبيعة هذه الأخوّة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن ـ يطمئن إليه، يستريح له وينفتح عليه ـ كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء». ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمنون أخوّة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم». وفي حديث عن الإمام عليّ (عليه السلام) وهو يخاطب صاحبه كميل: «يا كميل، المؤمنون أخوّة، ولا شيء آثر عند كل أخ من أخيه». وعن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه». ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «النظر إلى الأخ تودّه في الله عزّوجلّ عبادة»، وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما استفاد امرؤ مسلم فائدةً بعد الإسلام كمثل أخٍ يستفيده في الله».

في الثاني عشر من شهر رمضان يصادف يوم المؤاخاة الذي عقد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولذلك لابدّ لنا من أن نجعل هذا اليوم يوماً نؤكد فيه هذه المؤاخاة على المستويين الخاص والعام، لأنّ ذلك هو الذي يجعل المسلمين في رباط عضوي على مستوى الأُمّة، بحيث يتحسس الإنسان المسلم آلام أخيه المؤمن ويحمل همه ويعيش مشاكله، حتى ينطلق المسلمون ليكونوا أُمّة واحدة.

إنه يوم المؤاخاة، فلنتآخ، لأنّ المرحلة تفرض علينا أن نترك كلّ حساسياتنا وخلافاتنا، لنلتقي عند الله ورسول الله وعند المسؤولية، لنعيش في ذلك اليوم أخواناً على سرر متقابلين، أخواناً يتحركون على أساس المحبّة التي عقدوها في قلوبهم، لننطلق إلى الجنّة والحب في قلوبنا، والحقّ في عقولنا، والخير في حياتنا. هل تريدون الجنّة؟ الجنّة لا حقد فيها ولا نزاع ولا بغض، هل تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وأنتم على هذا الحال من البغض والعداوة والفتن والنزاع؟ «هيهات، لا يُخدع الله عن جنّته».

ارسال التعليق

Top