• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المستبشرون والخائفون

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

المستبشرون والخائفون

حالتان ونوعان:

في القرآن الكريم حديثٌ عن حال قسمين من الناس كيف يكون عندما تأتيهم الملائكة لتتوفّاهم، فهناك قسمٌ تتوفّاهم الملائكة بأسلوب يشعرون فيه بالخزي والعار، من خلال حديث الملائكة معهم، وما يشاهدونه مما يَقدِمون عليه من مصير. وهناك أناسٌ يشعرون بالانفتاح والسرور من خلال حديث الملائكة معهم، وما ينظرون إليه مما يفتح لهم أبواب المصير بشكل يؤدي بهم إلى رضوان الله.

ومن الطبيعي أنّ سلوك الملائكة مع هؤلاء وأولئك ليس ناشئاً من فراغ، أو خاضعاً لمزاج الملائكة، لأنّ الملائكة لا يتحرّكون كما يتحرّك بعض البشر من حالات مزاجية ذاتية أو انفعالية شهوانية، لكنهم عبادٌ مُكرَمون يتلقون أمر الله، فلا يسبقونه بالقول ولأمره يخضعون ويعملون.. والله سبحانه وتعالى عندما يُعطي الناس ما يعطيهم، أو عندما يعاقبهم بما يعاقبهم، فإنّ ذلك خاضعٌ لسنّته تعالى التي أجراها في الكون، حيث تنطلق على أساس تاريخ الناس، فإذا كان تاريخهم مشرقاً في طاعة الله، فإنّ مصيرهم عند الله سيكون مشرقاً، وإذا كان تاريخهم مستغرقاً في معصية الله، فإنّ مصيرهم عند الله سيكون مصيراً أسود.

ولذلك، لابدّ لنا ونحن نقرأ الآيات التي سنسردها في سياق البحث، أن نفكر بالحالة التي نحب أن تتوفّانا عليها الملائكة، ونحن لا ندري متى يأتينا اليوم الذي يدعونا الله فيه إلى لقائه، ويُرسل الملائكة لتأخذ أرواحنا. وعلى هذا، نسير مع الجوّ القرآني لنحدّد لأنفسنا مصيرها قبل أن تفوتنا الفرصة، ومنا مَن يملك فرصة شهر أو شهور، سنة أو سنين، يوم أو أيام، قد يستطيع بذلك أن يغيّر تاريخه، لأنّ الله سبحانه جعل لنا من رحمته، أن باستطاعتنا أن نغيّر الصفحة السوداء إلى بيضاء بالتوبة والإنابة إليه..

 

موقف الخزي:

يقول سبحانه وتعالى: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) (النحل/ 27)، يقف بعض الناس يوم القيامة بين يديّ الله تعالى، وقد كانوا ممن أشرك بالله.. والشرك ليس فقط شرك العبادة والعقيدة، ولكنه قد يكون شرك الطاعة، فأنت عندما تستغرق في إنسان وتعطيه كلّ حبّك وطاعتك، وتجعل إرادتك منحنيةً أمام أوامره ونواهيه، مبتعداً عن إرادة الله إذا تعارضت مع إرادته، فإنّك بذلك تجعل لله شريكاً من خلقه.. وقد يكون الشرك بالله في طاعة الناس الذين يتحرّكون على خلاف طريق الله، أخطر من الشرك بالله في عبادة الأصنام، لأنّ عبادة الأصنام مسألةٌ تتصل بطقوس خاصة محدودة، فتسجد للصنم وتطلب منه ما تريد، من دون أن يتدخل الصنم في حياتك، لأنّ الصنم لا يأكل ولا يُبصر ولا يتعب، ولذلك فإنّ مسألة الصنمية، مسألة تتصل بمشاعرك الذاتية وبانفعالاتك الخاصة وطقوسك العملية التي تعيش في دائرة محراب الصنم. أما عندما يكون الصنم من لحم ودم ويملك موقعاً سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً منحرفاً، ثمّ يبدأ ليخطّط للفساد من خلال سلطته التي يأمر من خلالها وينهى، فإنّ عبادتك وطاعتك وخضوعك لهذا الصنم البشري تمثّل خطورة على مستوى الحياة كلّها، لأنّك عندما تأتمر بأوامره التي هي على خلاف أوامر الله، وتنتهي بنواهيه التي هي على خلاف نواهي الله، وتركّز حياتك على أساس مناهجه وشرائعه ومفاهيمه ووسائله وغاياته، فمعنى ذلك، أنّك تجعل لهذا الصنم البشري حجم إدارة الحياة كلّها، وبذلك تكون عبادتك العملية لهذا الصنم خطراً على الحياة كلّها من حولك وليس خطراً على نفسك وحسب.

ولذا، فإذا سمعنا حديث الله عن المشركين، علينا ألّا نتجمّد أمام صورة الإشراك في عبادة الوثن على الطريقة البدائية في الخضوع للأصنام الحجرية والخشبيّة وما إلى ذلك، بل أن ننطلق لندرس وثنيّة وصنميّة مَن يؤمن بالله في ذهنه وعقله، ولكنّه يعبد الصنم في سلوكه وعمله.

ومن هنا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يطلب من هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أرباباً من لحم ودم (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أين هم الذين كنتم تفضلون زعيماً على زعيم وتتسابقون إلى رضاه، أو عندما تنحازون إلى دولة على أنّها الأفضل والأحسن والأكبر، على اعتبار أنّ هناك صنماً أكبر وصنماً أصغر؟ هذا هو النداء: أين شركائي، اجلبوهم لتوقفوهم أمام العظمة الإلهية، ولتجروا المقارنة بين العزّة الربانية وعزّتهم، أين هم الذين كنتم تفضلونهم في الطاعة، ويحدث لأجلهم الشقاق والنزاع بينكم؟ ولا جواب، وعندها (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) (النحل/ 27).

 

خطُّ الهلاك:

وهؤلاء الكافرون كيف يموتون؟ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل/ 28)، تمتدُّ بهم الحياة، وكلُّ حياتهم لهو وعَبَثٌ وفجورٌ وفسقٌ وتمرّدٌ على الله تعالى وطاعة للشيطان، تسير بهم الحياة، وتسير معهم المعاصي، ويأتيهم الموت وقد ظلموا أنفسهم. وظلمُ النفس، إنما يحدث عندما يورّط الإنسان نفسه في الخطِّ الذي يؤدي به إلى الهلاك، فيعيش الكفر بكلّ تفاصيله، والكفر نهايته جهنّم (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) تتوفاهم الملائكة وهم جالسون على طاولة قمار، أو أثناء شرب كأس خمر، أو في حالة رقص فاجر أو لهو فاسق، أو ركونٍ أو إعانةٍ لظلم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) استسلموا لأنّهم لا يستطيعون أن يواجهوا الملائكة، استسلموا وتحدّثوا على الطريقة التي كانوا يتحدّثون بها في الدنيا عندما يضبطهم المسؤولون وهم متلبسون بمخالفة القانون أو بمخالفة رغبات الأقوياء، هؤلاء بمجرد أن تأتيهم الملائكة في حالة كونهم (ظالمي أنفسهم) يُلقون السَّلَم (ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سوءٍ) ما كنا نمارس السوء على الإطلاق. وهم بهذا يحاولون كما كانوا يحاولون في الدنيا استعمال الطرق الملتوية وإبراز العاطفة في محاولة للصفح عنهم، فلربما تلين القلوب. ولكنّ هذه الطريقة لا تنفع مع الملائكة (بَلَى) مع مَن تتكلّمون أنتم؟ أنت تتكلّمون مع الملائكة، وهم رُسُل الله الذي (يَعلَمُ خائِنَةَ الأعيُنِ وَما تُخْفِي الصدُور) (غافر/ 19)، فمع مَن تتكلّمون؟ (بَلَى) كنتم تعملون السوء (         إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه قضيةٌ لا تحتاج لأن يشهد فيها أحد، لأنّ الشاهد هو الحاكم.. فالله تعالى وهو الحاكم العدل، لا يحتاج إلى شهود، ولذا، فإنّه يحكم في المسألة مباشرة (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحل/ 29).

 

الفئة الناجية:

هذا فريقٌ من الناس الذين تتوفّاهم الملائكة، وهناك فريقٌ آخر (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) (النحل/ 30)، يُراد إقرارهم، لا ليُعرف ماذا لديهم، ولكن لتظهر أمام الخلائق في يوم القيامة طبيعة هذه الفئة المؤمنة من الناس، والتي عاشت في حياتها الخوف من الله (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) الله تعالى لا يُنزل إلّا الخير، وما هو الخير الذي أنزله الله؟ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل/ 30)، فالله سبحانه وعد الذين يُحسنون في أعمالهم حسنةً في الدنيا وحسنة في الآخرة أفضل منها، فحسنة الدنيا هي ما يمارسه الإنسان من نعيم الدنيا في شهواتها ولذّاتها المحلّلة، ولِما يرتاح إليه، ثم يموت وتموت كلُّ هذه الأشياء، أما في الآخرة، فهي دار خلود (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة/ 201)، اطلب من ربّك حاجاتك الدنيوية على ألّا تُنسيك حاجاتك الأُخروية.

فالذين يحصلون على حسنات ربّهم في الآخرة، لهم (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) (النحل/ 31)، ويحقّق الله للإنسان المؤمن أمنياته في الآخرة، حيث يعطيه ما تشتهي الأنفس وتَلَذُّ الأعين، فتتحول أمنياته إلى وقائع وحقائق (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) يعني أيها الإنسان المؤمن إذا سلكت سبيل التقوى، واستطعت أن تُخضع نفسك لمواقع خوف الله، فإنّ جزاء الله يعلو كلّ جزاء (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) (النحل/ 31).

وكيف يموت المتّقون؟ وما هو الجوُّ الذي يعيشون فيه عندما تأتيهم الملائكة لتدعوَهم إلى لقاء الله؟ عرفنا كيف تتوفّى الملائكة الكافرين والمُلحَقين بهم سياسياً وثقافياً واقتصادياً من المنافقين والعاصين.. أما المتّقون (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل/ 32)، يعيشون طيبةً في قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم وفي كلّ حياتهم.. وعندما تأتيهم الملائكة لتتوفّاهم تحمل إليهم البشرى (سَلامٌ عَلَيْكُم) فأوّل ما يُطلّون بوعيهم على الحياة الآخرة لا يشعرون بالغربة والوحدة، بل يشعرون بالسلام يُحيط بهم من كلِّ جانب (ادخُلُوا الجنّة) لم نعطكم الجنّة من موقع فراغ، وإنّما حصلتم على ذلك (بِما كُنتُم تَعْلَمُون) أنتم تستحقون الجنّة بما عملتم، والله تعالى أخذ على نفسه العهد (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (النساء/ 124).

هذا هو الجوّ الذي يعيشه الناس عندما تأتي الملائكة لتتوفاهم، فريقٌ يقال لهم (فادخُلُوا أبوابَ جهنّم) وفريقٌ يقال لهم (سَلامٌ عليكم ادخُلُوا الجَنّة) هاتان الحالتان سنواجههما فيما نستقبل من نهايات حياتنا، وللإنسان أن يحدّد طريقة موته من خلال ما يحدّده من حركة حياته.. الدنيا أمامنا ولننتهز الفرصة قبل أن تكون غُصّة "عجّلوا بالتوبة قبل الموت" فذلك هو طريق النجاة في الدنيا والآخرة.

ارسال التعليق

Top