• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الوقت في حسابات المسلم/ ج2

د. كامل صكر القيسي

الوقت في حسابات المسلم/ ج2

 ◄حظي الوقت بنصيب وافر من العناية في الإسلام، إذ أعطى القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة الوقت قيمة كبرى وأهمية عظمى، باعتباره واحداً من أعظم نِعَم الله تعالى التي أنعم بها على الإنسان، إلّا أنّ هذه النِّعَمة مرهونة بحُسن استثمارها، وبقيمة العمل الذي يشغل به الإنسان وقته. وفي بيان عدد من المفاهيم التي ترتبط بالوقت من منظور إسلامي.

إنّ الوقت هو أساس ديمومة الحياة ووسيلة بنائها، لأنّه الأداة الفعّالة التي تُستغل في عبادة الله تعالى وفي حركة البناء والتعمير في شتّى مجالات الحياة، وهو نِعمة امتَنَّ بها الله تعالى على عباده ليُحسنوا استخدامها في تحقيق الخلافة وعبادة الله تعالى في الأرض.

    

- معنى الوقت:

معنى الوقت في اللغة هو: مقدار من الزمان قُدِّر لأمر ما، وهو مقدار من الدهر معروف، والتوقيت هو: تحديد الأوقات، قال تعالى في (الآية 103 من سورة النساء): (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، أي مؤقتاً ومُقدَّراً، أي كُتبت عليهم في أوقات مؤقتة.

ولعظم نِعمة الوقت المُتاح للإنسان في عمر الدنيا امتَنَّ الله تعالى على عباده بذلك، فقال تعالى في (سورة إبراهيم الآيات 32-34): (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). والمتأمّل في هذه الآيات الكريمة يجد أنّ فيها تأكيداً على القدرة الإلهية في إيجاد الوقت وصنع الحياة ووحدات عناصر الزمن.

كما جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى في (سورة آل عمران الآية 190): (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ). وقوله عزّوجلّ في (سورة الفرقان الآية 62): (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا). فهذه الآيات الكريمة وغيرها تُبيّن قدرة الله تعالى وفضله على عباده في خلق الزمن على النحو الذي تتعدّد فيه أجزاؤه حسب حركة الكون والكواكب والأفلاك، لتكون حكمة الله تعالى ماضية، وقدرته نافذة.

    

- نِعمة الوقت:

أكدت السنّة النبويّة المطهّرة أنّ الوقت نعمة عظيمة - كما سبق ذكرها في القرآن الكريم -، فقال رسول الله (ص): "نِعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ". وجاء في شُعب الإيمان للبيهقي أنّ رسول الله (ص) قال في خطبته يوم الجمعة: "يا أيّها الناس، إنّ لكم علماً فانتهوا إلى علمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإنّ المؤمن بين مخافتين، بين أجل قد مضى، لا يدري كيف صنع الله فيه، وبين أجل قد بقي، لا يدري كيف الله بصانع فيه. فليتزود المرء لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الهرم، ومن الصحّة قبل السقم، فإنّكم خُلقتم للآخرة والدنيا خُلقت لكم. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مُستعتب، وما بعد الدنيا دار إلّا الجنّة أو النار، وأستغفر الله لي ولكم".

وقد وصف سيِّدنا عليّ (ع)، حال النبيّ (ص) بأنّه كان: "إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه. ثمّ جزء جزّءه بينه وبين الناس". المعجم الكبير للطبراني.

    

- الوقت في التشريع الإسلامي:

لقد احتل الوقت مساحةً كبيرةً في كثير من المسائل الشرعية في الفقه الإسلامي، سواء أكان في نظام العبادات، أم في المعاملات أم في العقوبات وغيرها كثير من الأبواب الفقهية. وبالعودة إلى الناحية العقدية تظهر حقيقة أنّ معظم العبادات مرتبطة بمواعيد زمنية محددة، وذلك حتى ينطبع سلوك المسلم بالقيمة الأساسية في ضبط الوقت في مختلف الأنشطة في حياته. ومن هنا كانت التكاليف موقوتةً تجري وفق قانون معين يحدّده ذلك الزمن، الذي لا يتحقّق التكليف إلّا بالالتزام به، كما في الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج، الأضحية، الطلاق، العدة، الرجعة، النفقة، الحيض والنفاس، وغير ذلك من الأحكام الشرعية، التي فرض الله تعالى التقيد بها بالحساب الزمني، كشرط لصحّة العبادة والعمل.

ومن ذلك قول الله تعالى في (سورة الإسراء الآية 78): (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). وقوله عزّوجلّ في (الآية 185 من سورة البقرة): (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وقوله عزّوجلّ في (الآية 141 من سورة الأنعام): (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ). وقوله تعالى في (الآية 197 من سورة البقرة): (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، وقوله تعالى في (سورة البقرة الآية 234): (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، وقوله عزّ مَن قائل في (الآية 4 من سورة الطلاق): (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

    

- أهمية الوقت:

إنّ الوقت من أهم عناصر الإنتاج، وقد جعله الله تعالى مُقدَّراً في كلّ شيء، قال تعالى في (الآية 20 من سورة المزمل): (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، وقد رأينا كيف أنّ كثيراً من التكاليف قُدرت به، ووفق مقتضياته نُظِّمت حياة المسلم، في العمل والنوم والاستيقاظ، بل حتى ما يُقال في مختلف الأوقات من الأدعية الصباحية والمسائية وفي الضحى وعند الملبس والمأكل والمشرب، وكلّ شأن في الحياة له نظامه حسب الجدول الزمني المرسوم لكلّ حال، سكون أو حركة، قال تعالى في (سورة الروم الآيتان 17 و18): (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)، وقال عزّوجلّ في (سورة الأحزاب الآيتان 41 و42): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا)، وقال تعالى في (سورة المزمل الآية 20): (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ).

وبهذه الجداول الزمنية، يتميّز النظام الإسلامي في تحديد سلوكيات المسلم وتنظيمه، ففي كلّ وقت منها خاصية تميزها عن غيرها، وهو بذلك يختلف عن الأنظمة المادّية في الإدارة الحديثة النابعة من الحضارة المادّية الغربية، التي لا يخرج نظام الوقت فيها على حدود: أنّ (الوقت مال)، بينما يُعدّ الوقت في حسابات المسلم أغلى من المال، وأنفس من كلّ شيء، لأنّه العمر كلّه، وما فات منه لن يعود.

    

- المسؤولية عن الوقت:

نظراً إلى أهمية نِعمة الوقت، فإنّ هناك مسؤولية أخلاقية وجزائية في الدنيا والآخرة تنتظر الإنسان، هل حفظ تلك النِّعمة أو ضيَّع؟ قال رسول الله (ص): "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه". وقال الإمام ابن القيم: "السنة شجرة والشهور فروعُها، والأيام أغصانُها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيِّبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل. وإنّما يكون الجزاء يوم المعاد فعند الجزاء يتبيَّن حلو الثمار من مرها".

فالمسلم تحكمه مسؤولية استثمار وقته في العمل الصالح، حيث إنّ شغله وفراغه عبادة يتقرّب بها إلى الله عزّوجلّ، فيقتنص كلّ لحظة ليوظِّفها في أحسن الأعمال، لما يعتقده من أنّ الحياة ابتلاء واختبار، كما أنّ الموت نهاية بعدها حساب وجزاء، قال تعالى في (سورة الملك الآية 2): (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) فقد عبَّر القرآن في هذه الآية بأحسن الأعمال لا بكثرتها، ليبرز قيمة الأعمال ورصيدها من خلال فاعليتها وما تتركه من آثار طيِّبة خلّاقة في الحياة.

ولما كان الزمن هو أثمن ما يملك الإنسان فإنّ الله عزّوجلّ تمنَّن بالعمر الذي منحه للإنسان، قال تعالى في (سورة فاطر الآية 37): (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)، وقال رسول الله (ص): "أعذر الله عزّوجلّ إلى امرئ أخر أجله حتى بلّغه ستين سنة". وقال (ص): "مَن عمره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر". أي أزال عذره ولم يبقَ له موضعاً للاعتذار، وفي هذا حثٌ على اغتنام الوقت في عمر الإنسان واستغلاله حتى لا يذهب جزافاً ولا ينقضي بلا عمل يخلده.►

 

* الباحث والواعظ الديني

ارسال التعليق

Top