• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تجسيد معاني الوحدة في فريضة الحج

عمار كاظم

تجسيد معاني الوحدة في فريضة الحج

الحج هو عبادة وفريضة على الناس يهدف إلى تأكيد حقيقة الإيمان بالله تعالى في قلوب عباده، فهو تجديد لحركة المشاعر في النفوس لجهة معايشة هذا الإيمان وتعميقه في القلوب وتركيزه في العقول. ومن انعكاسات هذا التأكيد والتجسيد تعزيز روح الأمة في اجتماعها ووحدتها، وترسيخ معاني المحبة والرحمة والأخوة بين أفرادها ومذاهبها وطوائفها، والسعي إلى إصلاح ذات البين والتعاون على رفض الفتن والإثم.

لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وخصوصيته، ولم يأت بناؤه تلبية لرغبةٍ ذاتيةٍ في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة، بل جاء نتيجة أمر من الله، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم (ع) أن يبني هذا المسجد ليكون بيتاً له تعالى على مستوى العالم كلّه، ليفِد إليه الناس من كلّ بقاع الأرض، تلبيةً لدعوته الشّاملة، من أجل تحقيق المنافع الدنيويّة والأخرويّة، الماديّة والمعنويّة.. ولينطلق النّاس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوّعة الّتي شرّعها لهم في رحابه وأجوائه، ليخلصوا له العبادة من موقع التّوحيد، ولينفتحوا على عمق التّوحيد في صفائه ونقائه، فيما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرّك فيه أوضاعهم، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، من خطٍّ يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ النّاس إلا من خلاله، ولا يلتقي بخصوصيّات الحياة إلا في دائرة رضاه.

وهكذا كان الحجّ هو العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة، والمرتكزة على أكثر من قاعدة للحركة، والقريبة إلى الجانب العمليّ في الحياة، فيما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع.

والحج يعلِّم الناس أن يتلاقوا وينتفعوا من كلّ الغنى والتنوّع الذي أودعه الله تعالى في الأمة، وأن يتعالوا على كلّ الفروقات والحواجز بينهم، والتي تعقد حياتهم، فإذا ساروا في خط الإيمان فلن يكون لأي فروقات من معنى واعتبار. فالحج إلزام إلهي للمؤمنين المخلصين بما عاهدوا عليه الله من الانقياد لطاعته والانتفاع من اجتماعهم بما يقوي وحدتهم ويؤسس لعلاقات وروابط جديدة على مستوى التعاون والتعارف والتشاور في حل مشاكلهم، فتتحوّل النداءات في طقوس الحج إلى امتثالات والتزامات تنعكس بتجلياتها على الواقع برمّته، لتضخّ به الحياة في عروق المجتمع لتبعده عن الرتابة. فالحج تجربة عبادة ترفع من إحساس المؤمن بمسؤولياته في الحياة، فعندما يعود إلى موطنه ومجتمعه عليه واجب العمل بهذا الإحساس.

وأخيراً، إنَّ الحجَّ يُطل بنا على فكرة الصراع مع الشيطان، من خلال الإيحاء الحسي في عملية رجم الشيطان بطريقة رمزية لا تبتعد عن الواقع فيما تتحرك به الحياة، بحيث لم يستحضر شيطاناً خفيّاً يعيش في زوايا نفسه من دون أن يعرف طبيعته، بل إنه يستحضر في داخل وعيه الذاتي كلّ الشياطين، من خلال طبيعة فكر الشيطان، لا من خلال حجمه، ويتطلع ليجد الشيطان في نفسه وفي واقعه؛ ليبصر ويحدق جيداً أين هو الشيطان في داخل ذاته؟ وأين هو في حياته الاجتماعية والسياسية؟ وما هو حجمه فيما يتمثل به من أحجام القوة في مواقع السلطة بين حجمٍ كبيرٍ وصغير، وأكبر أو متوسطٍ؟ وهذا هو معنى نهاية الحجّ في عملية رجم الشيطان.

أيها الإنسان المسلم الحاج، لقد انتهيت من عملية التدريب فيما هي التجربة على مستوى الحركة الذاتية في العبادة، في المواقع التي لا تمثل التحدي الصارخ في ساحة الصراع، وها أنت تقف لرجم الشيطان، لترى أمامك كلّ شياطين الكفر والظلم والاستكبار في مواقع القوة في العالم، وها إنك قد انتهيت من الحج إلى ساحة العمل؛ لتنطلق في الحياة كلها بكل أصنامها ومواقفها ومشاكلها وشياطينها ووسائلها وغاياتها.

إنها عملية النجاح في الحج بعد ذلك، ليست في نهاية الحج، بل في نهاية الحياة عندما يقوم الناس إلى رب العالمين. ولكن هل ينتهى الحج بانتهاء أعماله؟ إنه لم ينته بل بدأ الآن، ليكون الحجّ إلى الحياة الإسلامية التي تنتظر أكثر من حج، إلى الساحات الملتهبة في الواقع الإسلامي في كلّ أنحاء العالم، ليكون الدين كله لله، وتكون الحياة كلها في خدمة الله.

وتلك هي قصَّة الإنسان عندما يعبد ربه من موقع إحساسه بالإيمان المسؤول والهدف المسؤول، لا من موقع إحساسه بالفراغ. وذلك هو البعد الحقيقي للحج؛ إنه صناعة الإنسان المسلم الذي يحب الله ويحب الإنسان والحياة من خلال هذا الحبّ الواعي الخاشع المسؤول.

هكذا تحجّ إلى الله بأن تبدأ الحج بعد أن ينتهي الحج، لتحجّ إلى الله في كلّ ساحات الحياة، فحياتنا فيها الكثير من مواقع الطواف وفيها الكثير من مواقع السعي، وفيها الكثير من مواقع الصراع مع الشيطان، وفيها الكثير من عرفات، ومن المشعر الحرام، ومن منى، إنّها تتوسّع حتى تشمل الحياة. وهكذا، تبقى التلبية لتؤكد نفسها في كلّ واقعنا الروحي والفكري والحركي فالله أراد لنا أن نصلي، وأن نصوم وأن نحج فنحن نلبّيه في ذلك، والله أراد لنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن تكون صرختنا "لبّيك اللّهمّ لبّيك" منطلقةً من حركة الصراع في الداخل، والله أرادنا أن نجاهد الكفار والمنافقين والمستكبرين فعلينا أن نقول "لبّيك اللّهمّ لبّيك".

ارسال التعليق

Top