• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تلك الساعة الصامتة

دانة الخياط

تلك الساعة الصامتة

دقّت الساعة القديمة ذات الحركة السريعة المفزعة تمام الساعة الخامسة فجراً، مُعلنةً بزوغ الفجر وولادة يوم جديد، فقام بتثاقل وصعوبة ليتوضأ ويصلي الفجر، ومن ثمّ يستمتع بتلك الأجواء الروحانية الرائعة التي تُورث النفس إحساساً بالسكينة والهدوء وصفاء الذهن، والتي قلما يدركها البشر بسبب ركضهم الدائم للحاق بركب الحياة.

ها هو يبدأ يومه بالإيقاع نفسه، فهو رجل مسنّ يبلغ السبعين من العمر، يلزم منزله بعد تقاعده من العمل الذي شغل جُل وقته في ما مضى، وأصبح الآن يستمتع بالهدوء والسكينة التي طالما افتقدها.

بعد أن صلى الفجر، توجه إلى المطبخ لإعداد القهوة، ومن ثمّ اتخذ موقعاً له في الشرفة المطلة على المدينة، مستمتعاً بجمال الطبيعة والهدوء، والنسمة الباردة التي تحمل معها رائحة الخبز الشهية، المنبعثة من المخابز التي تبدأ نشاطها بعد صلاة الفجر مباشرةً.. أدار المذياع فإذا بفيروز تصدح غناءً بصوتها الشجي:

"يا طير يا طاير على أطراف الدني، لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير

روح أسألهن عن يلي وليفه مش معه

مجروح بجروح الهوا شو بينفعه

موجوع ما بيوقل ع إللي بيوجعه

وتعن ع بالي ليالي الولدنه

يا طير يا طاير على أطراف الدني، لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير

يا طير وآخذ معك لون الشجر

ما عاد في إلا النطرة والضجر

وانطر بعين الشمس عبرد الحجر

وملبكة وايد الفراق تهدني

يا طير يا طاير على أطراف الدني، لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير

وحياة ريشاتك وأيامي سوا

وحياة زهر الشوك وهبوب الهوا

كأنك لعندن رايح وجّن الهوا

خذني لو شي دقيقة وردني

يا طير يا طاير على أطراف الدني، لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير".

أعادته تلك الأغنية إلى أجواء قديمة لها نكهة خاصة، وبدأ يسترجع شريط الماضي الذي لن يعود. تذكر تلك الأيّام عندما كانت زوجته لا تزال على قيد الحياة، عندما كانت توقظه فجر كلّ يوم ليُصليا الفجر، وتعد له القهوة والإفطار الصباحي وهي تُغني بتفاؤل يليق باستقبال يوم جديد أغنيتها المفضلة "يا طير يا طاير على أطراف الدني، لو فيك تحكي للحبايب شو بني يا طير...". وتحدثه أحاديث مشوقة وأخباراً طريفة، في كلّ ركن من أركان المنزل لها بصمة جميلة، تذكرها عندما كانت تطبخ، وعندما كانت تصف الأطباق على الطاولة، وتدرّس الأولاد وتهتم بهم. لا يزال عبق الروائح العطرية المنعشة التي كانت تعطر بها المنزل عالقة بأنفه، لا تزال ضحكاتها وقهقهاتها ترن في أذنه، كلماتها العذبة وصوتها الدافئ الحنون، مواقفها المساندة له دائماً.. وكل ذلك كان على الرغم من قسوته عليها.

أما الآن، فقد تغيّر الوضع تماماً، وها هو يتجرع مرارة الوحدة وقسوة الفراق، فضلاً عن التقدم في السن، إلا أنّ هذه المعاناة تهون أمام إحساسه الدائم بالندم لمقابلته كلّ ما كانت تفعله تلك الزوجة الصالحة بالصمت والجمود، ليتها كلّت أو ملّت من محاولاتها الدائمة لإرضائه، ليتها تمردت أو اشتكت لكانت خففت من وطأة شعوره الذنب!

فلماذا كان أنانياً، قاسياً، ناكراً للجميل؟

لماذا لم يُعبّر لها ولو بكلمة شكر وامتنان؟ لماذا لم يقدرها حق قدرها؟

لماذا كانت الكلمة الطيبة عصيّة على لسانه؟

لماذا كان منصرفاً عنها، مهملاً لها، واثقاً بحبها العميق له، وتفانيها في خدمته وخدمة بيته؟

لماذا لم يشعر بقيمتها إلا بعد أن فقدها؟

ابتسم وتذكر وصفه لها بأنها كالساعة الصامتة التي تعمل ليل نهار، وتدور بانتظام تنتظم به نواحي الحياة، ومن دونها تنقلب الحياة رأساً على عقب...

تنهد بألم، ولم يستطع منع ما انفلت من دموعه عندما تذكر أيامها الأخيرة، كانت تعاني مع المرض بصمت وهدوء، ورحلت بهدوء.. ومن يوم رحيلها إلى اليوم وهو يشعر بغصة ندم ليس لها حدود، مهدئاً نفسه بين حين وآخر بأن استمرارها معه وصبرها عليه قد يكون دليلاً على ثقتها التامة بأنّه رقيق القلب والمشاعر، لكن ظاهره لا يُفصح عن ذلك، ورجولته تمنعه من إظهار عواطفه الحقيقية لها.. فتبّاً لتلك الرجولة التي تقيد مشاعرنا، وتحبسها بداخلنا.

في تلك اللحظة تنامى إلى سمعه صوت المذيعة عبر المذياع تسأل المستمعين:

في هذا الصباح المشرق الجميل، ماذا تودّ أن تقول للمستمعين؟

ليجد نفسه من دون أدنى تفكير، يدير الرقم المخصص للبرنامج، ويجيب المذيعة:

في هذا الصباح المشرق الجميل، أود أن أقول لكل مستمع لا تحبس مشاعرك، لا تخشَ من إظهارها، أطلقها حرة صادقه واضحة، قل لمن تحب: "أنا أحبك"، اشكر من قدم لك معروفاً بصدق وامتنان، لا تؤجل التعبير عن إحساسك، فالحياة قصيرة.. عبر عن مشاعرك قبل فوات الأوان، قبل أن تندم، فالندم لا يُعيد ما كان.

ارسال التعليق

Top