• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

جوهر الحج ولبابه

د. زيد بن محمد الرماني*

جوهر الحج ولبابه
◄ما أعظم دين الإسلام! وما أروعه! وما أكثر عنايته بتربية الناس على الأخلاق القويمة، فترة بعد فترة، وموسماً بعد موسم، يُذكّرهم بها إن نسوا ويوقظهم إذا غفوا، ويحفّزهم إذا تكاسلوا. بعد شهر رمضان وشوال، فرغ المسلمون من تدريب عملي على الصبر وضبط النفس والإحساس باحتياج الفقير، ومعاونته على قسوة الحياة بجزء من أموالهم. كان ذلك في رمضان خلال ثلاثين يوماً ختمناها بعيد الفطر، وفيه تبادلنا الزيارة وصلة الأرحام وبر ذوي القربى والصحبة والإحسان إلى من يستحق الإحسان من الأبعدين، ونسيان العداوات القديمة. واليوم، نبدأ في تدريب عملي آخر على الصبر، وضبط النفس، والإحساس بالأخطاء والذنوب، والأمل في التوبة والصلاح. كما نستشعر قرابة المسلم للمسلم مهما شطت الديار، ومهما اختلفت الألسنة والألوان، ونُحسّ بأنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وندرك أنّ المسلمين عامة أمة واحدة، لابدّ من العمل على تجميعها ومقاومة تفرقها. إنها فترة الحج: موسم الجهاد الأصغر الذي هو تمرين وترويض للنفوس المؤمنة على الجهاد الأكبر جهاد الأهواء والأخطاء. يقول الأستاذ أحمد محمد جمال – يرحمه الله –: إنّ الحج والصلاة والصيام الزكاة جميعها عبادات يجب على المسلم أن يخضع لأدائها، ولو لم يدرك مقاصدها ومصالحها، تصديقاً لقول الله عزّ وجلّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56). ومع ذلك يدرك العقلاء المفكرون المتأملون أنّ للعبادات في الإسلام كالمعاملات مقاصد ومصالح ومكارم، وإذا كنا نذعن بأداء الحج كعبادة يجب، في الوقت نفسه أن ننتفع بمقاصده ومصالحه ومكارمه التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...) (الحج/ 27-28). والمنافع، وإن فسرها بعض العلماء أو معظمهم بالتجارة، بَيْدَ أنها في حقيقتها تتسع لمعانٍ وأبعاد ومجالات متعددة ومتنوعة، فكل أمر أو فعل أو عمل أو سلوك فيه منفعة لجماعة المسلمين دينية كانت أو مادية أو اجتماعية أو سياسية، فهو من منافع الحج لا ريب فيه. ولذلك ينبغي للمسلمين أن ينتهزوا فرصة الحج للتعارف والتعاون على حل مشكلاتهم وفصل قضاياهم وللعمل على رفع شأن الإسلام وعزة المسلمين في كل مكان من العالم وتحقيق وحدتهم وقوتهم. فالإسلام، إذن، دين المقاصد والمصالح والمكارم وليس دين العبادات المجردة من منافع الفرد المسلم والجماعة المسلمة. هنا نتساءل: لماذا نحج؟! ألنطوف بالبيت الحرام؟! أم لنبيت في مزدلفة؟! أم لنقف في عرفات؟! أم لنرجم بالحصي الجمرات الثلاث؟! أم لنقدم الأضحيات؟! وغير ذلك من أعمال الحج ومناسكه؟! حقاً هذه مظاهر الحج وشعائره، ولكنها ليست لبه وجوهره حقاً، تلك وسائله وصوره، ولكنها ليست غايته ومغزاه. إننا منذ مئات السنين، نحج ونتخذ وسائله وصوره ونرجع ببعض بركاته: المريض يشفى، والفقير يستغني، والعقيم تلد، والعانس تتزوج، والفاسد يتوب، والمذنب يؤوب، وهي بركات للحج المبرور لا ريب فيها؛ لأنها ثمرات للدعاء المخلص في مواقف مباركات ورحاب مقدسات. إنّ القرآن الكريم يتحدث عن دعوة المسلمين إلى الحج ويعللها بقوله عزّ وجلّ: "ليشهدوا منافع لهم"، والمنافع هنا فردية وجماعية، مادية وروحية، دنيوية وأخروية، مباشرة وغير مباشرة، منظورة وغير منظورة، ملموسة وغير ملموسة، عاجلة وآجلة، قريبة وبعيدة، في وقت واحد. إذن: فمتى نحج من أجل جوهر الحج ولبابه؟! من أجل إصلاح مجتمعاتنا؟! من أجل تطهير أراضينا؟! إلى جانب ما نحققه من بركات فردية خاصة: شفاء من مرض، غنى بعد فقر، صلاح بعد فساد. لقد حرص القرآن الكريم على تهذيب الفرد الحاج وهو يؤدي نسكه؛ لأنّ الفرد المهذب أصل الجماعة المهذبة فهي تتألف منه ومن أمثاله، ولن تكون جماعة صالحة ما لم يكن فرد صالح، وصلاح الجماعة طريق إلى تعاونها وتضامنها في الخير المشترك والسلام العام. ختاماً: أقول: إنّ الحج فرصة كبرى للصلاح الفردي والإصلاح الجماعي، وعلى قادة المسلمين من حكام وعلماء وعامة أن يعملوا صادقين للإنتفاع من هذه الفرصة المتكررة كل عام لتحقيق عزة العالم الإسلامي.►   *جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

ارسال التعليق

Top