• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حكمة الصوم

د. عدنان الشريف

حكمة الصوم

 لكل ركن من أركان الإسلام حكمة قدّرها الباري تعالى ينبغي إستنباطها وشرحها لتوضع في متناول المكلفين، فما فرض المولى من فريضة وما نهى عن شيء إلا لحكمة بيّن العلم فضلاً عن الواقع أنّها خير للمكلف ورحمة به. والرسالات السماوية الحقة ما هي في جوهرها إلا لإصلاح النفس الإنسانية والمجتمعات، وللوصول بالإنسان إلى السعادة وفق هديه سبحانه.

والصوم من حكمته وقاية وعلاج الفرد والمجتمع من آفات الفقر والجهل والمرض، شرط أن يُفهمَ معناه ويُراعى تطبيقه كما تُفهمُ النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة الواردة في شأنه فهماً علمياً في العمق، وعندها يكون الصوم علاجاً ووقاية من كثير من الآفاق التي أصابت الأفراد والمجتمعات الإنسانية التي تركت القانون الإلهي واتّبَعَتْ قوانين الإنسان وأهواء النفس الأمّارة بالسوء. -        الصوم تقوى وخير وهدى: عرفت النصوص القرآنية الصوم بأنّه تقوى أي وقاية وصيانة، ولكن من ماذا؟ من آفاتنا وأمراضنا الإجتماعية والنفسية والجسدية، وعرّفه الحديثُ الشريف بأنّه "جُنّة من النار" أي وقاية من هذه الأمراض التي قد تقودنا إلى النار. وعرّفته النصوص أيضاً بأنّه هدى من الله، والله لا يهدي إلا إلى ما فيه خير الإنسان والإنسانية، لذلك وجب شكر المولى على هذه الفريضة والإلتزام بها (.. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 185). 1- الصوم.. وقاية من الأمراض الجسدية: شرط أن يلتزم المسلم بتعاليم القرآن الكريم والرسول الأعظم (ص) في حقل التغذية وقد سبقت هذه العلوم الوضعية بقرون. - لا إسراف في المأكل والمشرب: هي القاعدة القرآنية الأولى وكذلك في الأحاديث الشريفة المتعلقة في المأكل والمشرب، (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه/ 81). (.. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31)، (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع... أن من السرف أن تأكل كلما اشتهيت... ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه... بحسب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه... قم عن الطعام وأنت تشتهيه... لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم...). - لا إقتار في المأكل والمشرب: هي القاعدة القرآنية الثانية في حقل التغذية. فالإقتار في المأكل وقهر النفس بحرمانها من طيبات ما أحل الله من مأكل، بحجة التقشف، أو إتباعها لمفهوم خاطئ عن التصوف والزهد، هو مرفوض أيضاً في الإسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا...) (المائدة/ 87)، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32). أمّا أن يتخم الصائم وقت الإفطار، اشرّ وعاءٍ فيه، بما إمتنع عنه خلال ساعات الصوم، أو أن يكتفي بالقليل القليل منه إعتقاداً خاطئاً بأن في ذلك تقشفاً وتقرباً إلى الله، فهذا ليس من حكمة الصيام في شيء بل هو المرض عينه، وقد وجدنا خلال شهر رمضان كثيراً من الذبحات القلبية والدماغية، وأمراض التغذية والجهاز الهضمي، عند الذين لم يلتزموا أو يعقلوا قواعد التغذية في الإسلام. أن ثلثي الوفيات في العالم اليوم هي نتيجة تصلب الشرايين، وفي طليعة مسبباته السمنة التي هي مرض خفي ظاهر، وهي من المسببات الرئيسة لإرتفاع الضغط الشرياني وتصلب الشرايين والغضاريف، والترسيات الدهنية في مختلف أعضاء الجسم والكبد خاصة، والسمنة يمنعها الصيام شرط الإلتزام بقواعد التغذية التي ذكرناها وليس ذلك خلال شهر الصيام فقط بل طيلة أيام السنة، أمّا في خلال شهر رمضان وأيام التطوع للصوم والمندب من بقية السنة فتكون ممارسة وتعويداً للنفس كي تلتزم بهذه القواعد الوقائية الشفائية خلال بقية الأيام التي لا يكون المسلم فيها صائماً. والإنسان اليوم ينفق الأموال الطائلة ثمناً لإسرافه في مأكله، وثمناً للطبابة والإستشفاء من السمنة والأمراض المدمرة الناتجة عن هذا الإسراف، وهو لو فهم والتزم بحكمة الصوم وخصص هذه الأموال في محاربة الفقر والجهل والمرض لخفف من آلامه وآلام الغير، ولأسعد نفسه دنياً وآخرة.. لكن الإنسان كان ولا يزال كما وصفه التنزيل (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب/ 72)، ظلوما لنفسه ولغيره لأنّه فضَّل القانون الوضعي على القانون الإلهي رغم معرفته بهشاشة القوانين الأرضية. وقد كشف علم السلوك الحيواني أنّ الحيوان، وهو المُسيَّر من خالقه، يصوم دورياً بصورة وقائية وخلال مرضه فكل عضو في الجسم البشري أو الحيواني بحاجة للراحة الدورية وخاصة الجهاز الهضمي، وإن لم يبين الطب اليوم بالإحصاءات العلمية المنهجية الا القليل من الفوائد الصحية الكامنة في الصيام فلأن الأبحاث العلمية الرصينة تأتينا عادة مع الأسف من الغرب، وهم قلّ ما يمارسون هذا الركن من العبادة أو يجرون أبحاثاً علمية في فوائده، ولو انّ القائمين على أمور هذه الأُمّة الإسلامية جنَّدوا فريقاً من الباحثين لدراسة مختلف وظائف أعضاء الجسم ومكونات الدم قبل الصيام وخلاله وبعده، لطلعوا على العالم بدراسة علمية مذهلة عن فوائد الصيام الجسدية والنفسية. أمّا الأمراض التي يمنع بسببها الصوم، فلا ندخل في تفاصيلها، فلكل حالة مرضية لَبوسها، وعلى المريض أن يسأل طبيبه، والأفضل أن يكون الطبيب المسؤول من الملتزمين العدول المُطَّلعين على العلوم الدينية والطبية. 2- في الصوم وقاية من الأمراض النفسية: وفي طليعتها الجهل، وهو ليس بالضرورة الأمية، فكم من أمي لا يقرأ ولا يكتب هو في الواقع من أعقل العاقلين، والرسول الكريم، وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، كان ولا يزال سيد العاقلين وأعلم العالمين من الثقلين بفضل ما آتاه ربه من حكمة وما أوحاه إليه من تنزيل. والجهل هو إستسلام الإنسان لشهواته وأهوائه ونزوات نفسه الأمارة بالسوء بالغاً ما بلغ من علم، لأن كل علم لا يُقرن بالحكمة التي هي نقيض الجهل، هو أقرب إلى الجهل منه إلى العلم الصحيح، فكثير من المتعلمين هم أجهل الجاهلين وقد ورد في الشعر: لو كان للعلم دون التقى شرفٌ **** لكان أشرفَ خلق الله إبليس لذلك كان العلم الصحيح هو كل علم يقي ويمنع الإنسان عن آفاته الجسدية والنفسية والإجتماعية، وكان الجاهل كل عبد لأهوائه ونزواته رغم معرفته بضرر هذه الاهواء والنزوات. والنفس الإنسانية إذا لم يكن العقل سيدها ومُسيرها، تصبح مصدر كل الاهواء والنزوات التي تجعل الإنسان جاهلاً. ولذا نجد الصوم من أنجح الوسائل للسيطرة على النفس الأمَّارة بالسوء والجهل والتي وصف الرسول الكريم (ص) جهادها بأنّه الجهادُ الأكبر! ومن شروط الصوم الأساسية، صوم اللسان والقلب والجوارح عن كل ما يسيء لأنفسنا وغيرنا، ليس خلال شهر رمضان فقط، بل طيلة أشهر السنة، كي يظل المسلم قائد نفسه والمسيطر عليها، وبهذا يكون الصوم علاجاً للجهل بشفاء النفس من نزواتها المؤدية إلى ذلك الجهل والفساد والظلم والإنحراف. -        "ليس الصيام من المأكل والمشرب فقط وإنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحد أو جهل عليك فقل أني صائم". -        "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". -        "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فان سابه أحد فليقل اني صائم".

-        رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر".   

كيف نفهم شهر رمضان:

نحن نفهم رمضان من خلال تعريف المولى له: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة/ 185)، نفهمه بأنّه علاج للجهل، نفهمه شهر ندوات ومحاضرات علمية في الإذاعة والتلفزة والمساجد والأندية الثقافية يحاضر فيها علماء من مختلف فروع العلم يتناولون فيه المعاني الكامنة في كتاب الله العظيم الذي فيه تبيان كل شيء.

نحن نفهم شهر رمضان شهر عبادة، وطلب كل علم، والعلم المفيد أرقى درجات العبادة، فلقد مر الرسول (ص) على مجلسين فرأى في أحدهما جماعة يدعون الله سبحانه وتعالى ورأى في الثاني أناساً يعلِّمون ويتعلَّمون فقال: أمّا هؤلاء فيدعون الله تبارك وتعالى ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وان شاء منعهم، وأمّا هؤلاء فيعلّمون الناس، فرغب عن المجلس الأوّل جلس مع المجلس الثاني وقال: انّما بعثت معلما والأحاديث في فضل العلم كثيرة: "اغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامس فتهلك...". "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة...". "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". "من سئل عن علم ثمّ كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما إجتمع قوم في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده". أمّا أن يصبح شهر رمضان كما يفهمه البعض اليوم، شهرَ المآدب السخية يدعى إليها الأغنياء ويحرم منها الفقراء، شهراً يتحضَّر له الصائمون بكل ما لذَّ وطاب من مأكل ومشرب ليملأوا به أشر أوعيتهم من آذان المغرب إلى الفجر، فهذا ليس من الصيام في شيء.. في الصوم وقاية وشفاء من العقد النفسية: وفي طليعتها عقد الحرص المادي وحب الدنيا، عبر تذكر الآخرة "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه" فيصبح شهر رمضان شهر الزكاة والإحسان، ويتحول الصيام أيضاً إلى وقاية وشفاء من عقد التعالي والغرور، ذلك أن فريضة الصوم كبقية أركان الإسلام، تُساوي بين جميع المكلفين، فهم سواسية أمام الخالق في أداء هذا الركن والصوم خير وسيلة لتحصيل فضيلة الصبر وهي من كبريات الفضائل: "الصوم هو نصف الصبر وشهر رمضان هو شهر الصبر". والصوم وقاية وشفاء من عقد النقص والحرمان المادي: فالتحليل النفسي للخلفيات الشعورية وللمشاكل الإجتماعية التي تنغص حياة المجتمعات تبين بأنّها وليدة عقد الحرمان المادي والعاطفي التي تتحول إلى عقد شراسة وتهديم وأيذاء للذات والغير وتحطيم للقيم الإجتماعية، ومن علاجها الإحسان والعدالة الإجتماعية، فالمحروم غالباً ما يتحول إلى محطم للذات والغير، والصوم هو في معانيه العميقة إحسان وبذل وعطاء مادي ومعنوي وبذلك يخفف من وطأة السؤال والحرمان المادي والعاطفي. هذا إضافة إلى أنّ الواقع أثبت أنّ الصيام يخفف الشهوة الجنسية وفي الحديث "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه اغضً للبصر واحسن للفرج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء"، وقد قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا...) (النور/ 33)، وفسَّر العلماء التعفف بالصوم. وعندما يتخلص الإنسان من عقده النفسية يشفى من القلق النفسي المرضي آفة المجتمعات غير المؤمنة. الإنسان نفس وعقل وروح، والمولى سبحانه وتعالى جعل من العقل سيداً على النفس، وأمّا الروح فسرّ المولى في الخلق ومفتاح الإحساس بالسعادة أو الشقاء، فلا تسعد إلا إذا اتبع الإنسان تعاليم خالقها ومالك سرها، وخلال الصوم يمسك الصائم بزمام نفسه ونزواتها ورغباتها، وبذلك يمسك بأسلوب العلاج الشافي من القلق. الصيام عندما تفهم معانيه ويلتزم بها، يصل بالصائم إلى أرقى درجات الطمأنينة والسعادة والصفاء. -        وأخيراً في الصوم علاج للفقر: الصوم علاج للفقر، لأن من معاني الصوم وحكمته إنفاق ثمن ما أمسكنا عنه من مأكل ومشرب في النهار على الفقراء والمعوزين من الناس، لا أن نتخم المعدة وقت الإفطار بما امتنعنا عن أكله خلال النهار. وندعو إلى ضرورة إنشاء صندوق خاص بشهر رمضان، مستقل عن صندوق الزكاة في كل البلاد الإسلامية، ندعو "بصندوق شهر رمضان" وتوزع مداخيل هذا الصندوق على المعوزين وبذلك نمنع عملياً الفقر. أين كمالية هذا القانون الإلهي من القوانين الوضعية اليوم، يكفي التذكير بأن ربع الإنسانية اليوم هو جائع، وأن في الولايات المتحدة الأميركية بالذات الملايين الذين يعانون من الجوع علما أنّ المصروف اليومي لحاملة طائرات واحدة هو مليون دولار في اليوم! وفي الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به..." ولا يكون الصوم حقاً للمولى ولا يجزينا به حسب مفهومنا إلا إذا أنفق الصائم القادر ثمن ما أمره المولى بأن يمتنع عنه من مأكل خلال الصيام على الفقراء. وقد حضّ على ذلك في حديث قدسي آخر: (المال مالي والفقراء عيالي والأغنياء وكلائي فما يضر وكلائي إن أنفقوا من مالي على عيالي).

ارسال التعليق

Top