• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رحلة يومية مع الحياة

علي عفيفي

رحلة يومية مع الحياة
استيقظ (نجدي) من نومه على صوت اصطدام قطرات المياه المتساقطة من سقف الغرفة على قاع الإناء الذي وضعه ليتلقفها، والذي يعزف لحناً حزيناً منتظماً تك... تك... تك، وانقلب على جانبه الأيمن وهو يهمس لنفسه: لقد عادت الأمطار تهطل بغزارة مرة أخرى لدرجة أنها ملأت الشق الموجود في سقف الغرفة، وتسربت منه إلى القاع، فالأمطار غزيرة هذا العام بدرجة لم نعتدها من قبل، وازداد قلقه من أن تؤدي غزارة المطر إلى توسعة الشق الموجود، ما قد يتسبب في انهيار المنزل الذي لا يملك مأوى له ولأولاده غيره، ليقيهم الليل البهيم، في الشتاء البارد، ولمجرد تصوره هذا انتابته رعشة في أطرافه وبدأت تتسرب رويداً رويداً إلى أوصاله، فسارع يشد غطاءه ويحكم سيطرته على جسده الذي ازدادت رعشته لتنتشر في جميع أجزاء جسده الجاثي على الفراش، حتى أكملت أسنانه الأوركسترا السيمفونية باصطدامها ببعضها بعضاً محدثة نغماً مساعداً لصوت المياه المجاور ليكملا معاً الحفل الساهر. وعاد الدفء ينتشر بين أنامله، وسرى بين جانبيه الهدوء والاستقرار فذهب في غفوة انتبه منها على صوت زوجته (أحلام) لتوقظه من سباته، فقد قاربت الساعة الخامسة صباحاً، ولم يعد أمامه من الوقت الكثير فعليه أن يغتسل، ويصلي، ويتناول إفطاره، ثمّ يسير لمسافة كيلومترين عن قدميه ليصل إلى محظة القطار، الذي يغادرها السادسة والنصف صباحاً متجهاً إلى الإسكندرية حيث محل عمله. أحكم (نجدي) معطفه، وبمجرد خروجه من باب المنزل لفحت وجهه موجة من البرد الشديد في تلك الساعة المبكرة التي غالباً ما تكون أكثر ساعات اليوم برودة، خاصة إذا هطلت الأمطار بغزارة، حيث ينتشر الصقيع في المناطق الريفية بين المزارع، وبعد معاناة شديدة بين الأوحال والمياه وصل إلى الطريق المسفلت ثمّ سار على جسر محصور بين نهر النيل الذي تنتشر على جانبيه مصانع الطوب الطفلي، التي تنبعث من مداخنها أدخنة احتراق الطوب متثاقلة متباطئة متكاسلة ملتوية كالثعبان، وبين الترعة التي تنحدر مياهها مسرعة متسابقة تنبعث منها أبخرة كثيفة، تحت الأشجار التي تنفض من على أوراقها قطرات الجمان المتلألئ وهي فرحة مسرورة، وكأنّها كانت في حاجة إلى تلك الليلة المطيرة ليعود إليها بريقها وخضرتها وابتسامتها. في محطة القطار انضم إلى الركب المتنوع ما بين طلبة المدارس والجامعات، وموظفي الشركات والهيئات الحكومية، الذين اعتادوا السفر يومياً إلى عروس بارداً ممطراً، فهم كآلة في مصنع تعمل يومياً دون أن تئن أو تطلب الراحة، كانوا بين الحين والآخر يفقدون أحدهم لينتقل إلى جوار ربه، ولكن ذلك لم يكن ليثنيهم عن الاستمرار في تلك الرحلة اليومية. تأخر القطار على غير عادته اليوم، ما كان يعني تأخر الجميع عن مواعيد أعمالهم، وانتابت الجميع موجة من القلق فراحوا ينظرون في ساعاتهم، ثمّ ينفقون أدخنة سجائرهم التي يخالطها بخار الماء إلى الهواء البارد باحثة عن الدفء المفقود، وترددت أقاويل عن اصطدام القطار أو خروجه عن مساره ليتخلف اليوم عن ميعاده. أنارت الابتسامة وجوه الجميع عندما شارف القطار من بعيد آتياً، وكأنّهم بعد طول سير وعناء في صحراء جرداء وجدوا فجأة بئراً من المياه فنزلوا ليشربوا جميعاً ويرووا عطشهم فرحين مسرورين. بعد لحظات كان الجميع يستقلون القطار بعد أن أحكموا الأبواب والشبابيك فانتشر الدفء في أرجائه وراحوا يطلقون النكات، والكلمات التافهة عديمة المعنى، ويضحكون لسبب أو لغير ليهونوا على أنفسهم، فهم جميعاً سمتهم الضحك ثمّ الضحك. وسط هذا الجو كان يجلس شخص واحد بجوار شباك القطار حزيناً صامتاً ينظر إلى الأشجار والمنازل التي تتسارع متسابقة إلى الخلف تتساقط من عليها قطرات الندى، لتحاول أن تنفض من عليها عبء ليلة ثقيلة طويلة، ولأشد ما يكون الليل طويلاً على المستيقظ الذي لم يسدل السهد جفنه، ويتأمل قرص الشمس الذهبي اللامع في رحلة الشروق إلى أمل جديد بعد طول يأس، ولكن وجدانه في منزله الذي أوشك على الانهيار ولا يملك المال لترميمه، فراتبه لا يفي بمتطلبات الحياة اليومية له ولأولاده الثلاثة الذين التحق أصغرهم هذا العام بالمرحلة الثانوية. استبد الصراع الداخلي بنجدي ليستعيد وعيه على صوت زميله في العمل (محيي)، فها هي محطة "سيدي جابر" وعليهم الاستعداد للنزول ليبدأوا يوماً جديداً من العمل الشاق كرحلة يومية في رحلتهم الكبرى "الحياة".

ارسال التعليق

Top