• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رعاية الأيتام.. مسيرة إصلاح وصلاح

عمار كاظم

رعاية الأيتام.. مسيرة إصلاح وصلاح

قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ...) (البقرة/ 83). شدّد الإسلام على تكريم اليتيم حتى إنّه ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي أحرج عليكم حقّ الضعيفين من اليتيم والمرأة». ومعنى ذلك أنّه ينبغي الحرص على تكريمه حتى ولو سبّب ذلك حرجاً وضيفاً على المتكفّل، واعتبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ ذلك حقّ له، ولا يخفى أنّ كونه حقّاً له معنى ذلك أنّه واجب علينا. كما أنّ رعاية اليتيم لا تقتصر على إيوائه أو إطعامه وسوى ذلك من التقديمات المادّية، بل تتعدّى ذلك إلى رعايته رعاية أُبويّة لها بُعدها المعنوي والروحي وتعوِّضه من فقدان أبيه.

لرعاية الأيتام وكفالتهم ثمرات دنيوية وأخروية منها إنزال الرزق واستجابة الدعاء ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران/ 37-38). وفي الآية دلالة على أنّ التكفّل موجب لدرّ الرزق على الإنسان الذي نتكفّله، وأكثر من ذلك فإنّ التكفّل موجب لاستجابة الدُّعاء، فإنّ الله استجاب دعاء زكريا حال كونه متكفّلاً لمريم، فإنّما طلب زكريا حين رأى مريم على حالها أن يرزقه الله تعالى مثل مريم لمّا رأى من منزلتها عند الله، فرغب إلى الله في مثلها، وطلب إلى الله عزّوجلّ أن يهب له ذريّة طيّبة مثل مريم، فأعطاه الله تعالى أفضل ممّا سأل. عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: «ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحّماً له إلّا كتبَ الله له بكلّ شعرة مرت يده عليها حسنة».. من الواضح أنّ الحديث لاحظ أبسط حالات التكريم أي مسح رأس اليتيم، ولعلّ الحديث ناظر إلى الناحية المعنوية في التعامل مع اليتيم في حال عدم استطاعة تكريمه بالأُمور المادّية، فكيف بحالات التكريم الأعلى فالأعلى؟ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى الله عزّوجلّ وأشار بالسبابة والوسطى». وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله، وصام نهاره، وغدا وراح شاهراً سيفه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنّة أخوين كما أنّ هاتين أختان وألصق إصبعيه السبابة والوسطى». وعنه أيضاً (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنّة، والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله».

فجزاء إعالة اليتيم ليس دخول الجنّة فحسب، بل جزاؤه علوّ المقام ورفيع الدرجات وأجر المجاهدين وجوار الأنبياء في دار الخلود، وهنا إشارة مهمّة وهي أنّ هناك الكثير من الروايات التي وعدت أصحاب الأعمال الصالحة ببعض الحسنات أو الدرجات أو سوى ذلك، وأمّا أن تَعِدَ النصوص المقدّسة على فعلٍ ما بالجنّة دون تردّد، فإنّ ذلك كاشف عمّا لهذا الفعل من أثر كبير في مسح السيِّئات وتكفيرها والعفو عنها. ويؤكِّد ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن قبض يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنّة البتّة، إلّا أن يعمل ذنباً لا يغفر». وكأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ هناك الكثير من الذنوب التي يغفرها تكفّل اليتيم ورعايته. وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ في الجنّة داراً يقال لها: دار الفرح لا يدخلها إلّا مَن فرّح يتامى المؤمنين». ولعلّ تسمية الدار بدار الفرح تبشِّر مَن فرّح الأيتام بما أعدّ الله لهم من أُمورٍ تدخل الفرح والسرور إلى أنفُسهم جزاء لهم. لرعاية الأيتام أيضاً أثر على لين القلب، أي بقاؤه خاشعاً خاضعاً لله تعالى. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) – لرجل يشكو قسوة قلبه –: «أتحبّ أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ إرحم اليتيم وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك».

هنا إشارة غاية في الأهمّية وهي أنّ الشريعة الإسلامية لم تقدّم كفالة اليتيم على أنّها رفع لحاجة اليتيم، بل رفع لحاجة المتكفّل كذلك، وتحفيز له لإصلاح نفسه والعروج في مسيرة الصلاح من خلال تكريم اليتيم والتعامل معه برحمة. قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ...) (البقرة/ 177).. الآية أرادت أن تبيّن أنّ حقيقة البرّ ليست في الجانب الشكلي للعبادة، بل بما تتركه هذه الآية من أثر سامٍ على الجانب الاعتقادي والسلوكي في حياة الإنسان.

ارسال التعليق

Top