• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سكينة النفس المؤمنة أمام براكين الأنفعال

د. سلمان بن فهد العودة

سكينة النفس المؤمنة أمام براكين الأنفعال
  ربّما يتظاهر المرء بالهدوء وفي أعماقه براكين من الانفعالات والغضب الذي يوشك أن ينفجر! حين يتعرض الإنسان لشيء من الإثارة، ثمّ يحافظ على هدوئه فهو يتصف بالسيطرة على النفس "يملك نفسه عند الغضب". أن يكون تعبيره عن انفعالاته ومشاعره متوازناً معتدلاً، في حالة الرضا والغضب، والحب والبغض، والعداوة والصداقة هنا يكون محموداً على لسان النبيين "كلمة الحق في الغضب والرضا". والهدوء الروحاني ليس استعلاء على الآخرين ولا فوقية، ولا استئثاراً بالخلق الأسمى، وإنما هو سلوك يستلهم منه الآخرون مواقفهم، ويشجعهم على الاستجابة. هدوء الكلمة واللغة، وهدوء القلب، وهدوء الملامح والقسمات والجسد. ليست الصلاة وحدها ولا الصيام أو الحج، بل الحياة كلها هي "معبد" يربي المسلم على الانضباط حتى مع النفس، وفي الحديث قال رجلٌ: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غير أنّها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار" (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد). من الطبيعي أن تمر بالمرء حالات اندفاع وحالات ضعف: "فإنّ لكل عابدٍ شِرَةٌ ولكلِّ شِرَةٍ فترةٌ..". حتى الثورات هي اندفاع يتحول إلى تكوين حياتي، ويصبح نظاماً ودولة وسياسة.. الهدوء يكمن في جزء من الثانية ما بين المثير الذي صنع الاستفزاز وما بين الاستجابة ورد الفعل، ويالحكمة المصطفى (ص) حين قال: "الصبر عند الصدمَةِ الأولى" (كما في الصحيحين من حديث أنس (رض)). حين تتعامل مع أي استفزاز على أنّه "كاميرا خفية" وضعت لتسجيل نوع استجابتك، ثمّ تعرضها عليك وعلى الجمهور، هنا ستكون أكثر إحكاماً للنفس وسيطرة عليها، ومعنى هذا أن أي إنسان يدري أنّ السكينة والسيطرة على النفس هي فضيلة إنسانية ونبل كبير، وأنّ الطيش والانفعال السريع غير المدروس مثلبة ونقص. حين يمر المرء بتجارب الحياة سيدرك أن من السهل أن يقول ومن الصعب أن يعمل ويمتثل.. سيكون مدافعاً بحرارة عن موقف انفعالي مرّ به، لأنّه لا يجدر به أن يستسلم أو يفوّت الأمر! الذين حصلوا على قدر من الهدوء لم يدركوه خلال فترة يسيرة، ولكن عبر تراكم ممتد من المحاولات والفشل والخجل والتردد والإحباط، ومع كل المعوقات قرروا ألا تسقط الراية من أيديهم، وأن يكرروا المحاولة تلو الأخرى مسترشدين بقول الحق عزّ وجل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69)، وألجموا أنفسهم عن البغي والعدوان والظلم متذكرين وصمة النفاق لمن "إذا خاصَمَ فَجَرَ". فهنا مواطن التقوى الصادقة، وامتحان النفوس، وحين عبر الله تعالى بقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات/ 3)، كان ذلك في سورة الحجرات التي اشتملت على النهي عن رفع الأصوات فوق صوت النبي، والنهي عن ترديد الشائعات، وعن الوقوع في الأعراض، وعن التعيير والتحقير، وعن السخرية، وعن سوء الظن، وعن الاختلاف والتقاتل، وعن العنصرية والانتساب.. وختمت بالآية الكريمة: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (الحجرات/ 14)، فالإيمان الحق هو ممارسة أخلاقية على أعلى المستويات، وانضباط في الحقوق والعلاقات. النظرة الإيجابية للأشياء والحوادث من منطلق الإيمان بحكمة الخالق الذي لا يقع شيء إلا بإذنه؛ تعطي بعداً لقراءة النتائج البعيدة وحسن الظن بالله، والهدوء في معالجة المواقف الغامضة والجديدة مع كمال الحرص على الإفادة من الفرص واقتناصها وحسن توظيفها، وتوقع الأفضل. استفراغ الطاقة في العمل الإيجابي النافع ليس نقيضاً للهدوء، هو الوجه الآخر للهدوء، فالمنجزون عادة لا تستفزهم الحوادث بسرعة، لأنّهم يراهنون على إنجاز تراكمي طويل، وليس على مفاجآت أو صدف. حين يقولون: إنّ القائد الهادئ هو الذي يتعامل مع الفجائع والنكبات على أنها أشياء عادية، فهذا لا يعني أنّه غير مبالٍ، كلا، وإنما هو يحتفظ بقدر كافٍ من الهدوء يمكنه من التفكير والبحث واختيار الحلول بعيداً عن أن يقع في أحبولة الخصم. وحين نتحدث عن الهدوء.. فليس معناه أن نلغي الطبيعة الشخصية، ولا نطمس العنوانات الأخرى والمواقف المناقضة. كل ما هنالك أن يقال: أضف إلى العناوين الجميلة الموجودة لديك عنواناً اسمه "السكينة"، تحاول استحضاره كلما ألمت بك مشكلة أو دهمتك نازلة، أو واجهت موقفاً مستفزاً أو مثيراً، تذكر فوراً أنّ هذا الموقف "مصمم" خصيصاً لاختبار صبرك وقدرتك على الانضباط، نعم إنّه "القدر المقدور". فشكراً لك يا رب وحمداً على نعمائك وحسن تأديبك، وزدنا من فضلك ثواب الشاكرين.

ارسال التعليق

Top