• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عواطفنا في حقائق وأكاذيب

سيرج تيسرون

عواطفنا في حقائق وأكاذيب

◄كثيراً ما نسمع هذه الأيام أنّه "يجب أن نتصرف بحسب ما نشعر به" أو "يجب أن نشعر بما نقوم به" ولكن ماذا لو كانت عواطفنا تغشنا؟ فمنها ما نخفيه حتى عن أنفسنا وأخرى نمنع أنفسنا من الإحساس بها، وثمة منها ما نظن أنها لنا ولكنها أدخلت إلينا كجسم غريب عنا. فما هي حقيقة عواطفنا؟

 في فيلم "ميتك ريفر" لكلينت إيستوود (2003)، يقدّم المخرج رجلاً في الأربعينات من العمر يحكي لابنه حكاية قبل النوم عن طفل مرعوب وهارب من وحش يلاحقه، شبيهة بما يحصل في حكاية "ليلى والذئب". ولكن فجأة، يرى مُشاهد الفيلم تغيراً مفاجئاً في نبرة الأب وتعابير وجهه ويفهم أنه لم يعد يصف هرب ولد صغير يلاحقه ذئب ولكن حادثة هربه هي التي وقعت قبل عشرين عاماً حين أفلت من قبو كان رجلان قد احتجزاه فيه بقصد الاعتداء عليه. لم يعد الأب يحكي حكاية ولكنه لا يقص كذلك قصته بشكل واضح، بل يقوم بإخراج حادثة سرية سببت له صدمة عميقة ومن المفترض بها أن تظل سرية.

في الحقيقة، لا يندر أن تستيقظ صدمة طفولة عند الأهل حين يبلغ الطفل السن التي عانى فيها الأب أو الأُم من هذه الصدمة. لا يقول لنا الفيلم شيئاً عن ردة فعل الطفل، فهل يراقب والده؟ ماذا يجري بينهما في هذه اللحظات؟ إذا كان فيلم كلينت إيستوود لا يقول شيئاً عن هذه الجوانب إلا أن ملاحظة الأطفال تمكننا من السير قدماً في هذا المجال. فحين يواجه أحدهم وضعاً كهذا، ينحو دائماً إلى أن يأخذ على عاتقه المشاعر التي يغرق فيها أهله. ولا يكون الأهل هم من يفرضونها عليه، كما في حالة المشاعر المفروضة، ولكنه من يقوم باستملاكها بنفسه، لهذا السبب يمكن أن نسميها "مشاعر الجوار".

تذكرنا الآلية التي تتشكل فيها مشاعر الجوار بالتفاعلات العاطفية التي تقوم بين الرضيع والبالغ الذي يكون أمامه. في وضعيات من هذا النوع، يصدر الرضيع أصواتاً ويقوم بحركات فيجيبه البالغ. ثمّ يتواصل مجدداً بطريقة تتأكد فيها مشاعر كلّ طرف وتتوطد بواسطة مشاعر الطرف الآخر. وتستند هذه الآلية على الدوام إلى المراقبة المتبادلة، ولاسيّما في ما يتعلق بحركات الوجه والجسم التي تكون في كلّ لحظة متبادلة.

تخضع مشاعر الجوار بين بالغ وطفل إلى آلية مختلفة بعض الشيء. فمحاولة تلاقي عالمين داخليين تقوم من جهة واحدة هنا، هذا لأن واحداً من الشريكين، وهو الطفل، يراقب تعابير وجه وحركات محدّثه بطريقة تمكنه من أن يترجم في داخله ما يفترض أنّ الآخر يشعر به، ومن دون أن يظهر هذا الأمر بالضرورة بالطريقة ذاتها، نصادف هذا الموقف لدى من يكونون عاجزين عن الاعتراف بقيمة مشاعرهم الخاصة وينزعون لذلك إلى استبدالها بمشاعر القريبين منهم، كما في حالة الأطفال الصغار. ولكنه موقف قد يظهر كذلك كلما كان الشخص في حالة تبعية عاطفية كبيرة بالنسبة إلى شخص آخر.

تجري الأمور بالطريقة الآتية: يستسلم البالغ لمشاعره القوية والمكتومة، إما لأنّه لا يريد التحدث عنها، وإما لأنّه لا يستطيع أن يفعل. أمّا الطفل القريب منه، فهو يتطابق مع هذه المشاعر وتكون ردة فعله بهذه الطريقة لسببين: الأوّل متصل بحدة الفيض العاطفي الذي يظهره البالغ، والثاني متعلق بمحاولة الطفل إعطاء معنى لما يشعر به أهله، والتعاطف الذي يحسه تجاههم. وأخيراً، قد يضاف سبب ثالث، وهو أنه حين تكون المشاعر التي تنتاب الأهل مؤلمة، قد يخيّل للطفل أنه قادر على التخفيف عن والده أو والدته ما شعر مثلهم بالشيء ذاته، علماً ان هذا خطأ.

في حين ان استعارة الدخول بالكسر والخلع تناسب تماماً الانفعالات المفروضة، فإنّ التهريب والدخول خلسة هي التي تتلاءم مع انفعالات الجوار، فهذه الأخيرة مستوردة سراً ومنقولة من شخص إلى آخر من دون أن ينتبه الشخص الأوّل الذي يشعر بها لعملية الانتقال هذه. وفي التهريب، يكون البلد الذي تخرج منه البضاعة قد صنعها للتصدير. وفي حالة انفعالات الجوار، في المقابل، يكون الشخص مصدر الانفعال غير دارٍ دائماً بأن انفعاله قد انتقل إلى شخص آخر.

وعلينا أن نشير إلى أن علاج الحالات الانفعالية التي تنجم عن أوضاع كهذه صعبة جدّاً. فالتطرق إلى شعور هو بمثابة "صمغ" بين شخص يعاني منه وآخر يظل بواسطته مرتبطاً به في خياله ليس بالأمر السهل. فما من أحد يتخلى بسهولة عن شعور يبدو له أن يحافظ بواسطته على علاقة مميزة، حتى لو كان الشعور مزعجاً. كما أنه يصعب التعرف على انفعالات الجوار بما هي عليه فهي تحمل السمات ذاتها التي يحملها الانفعال الناجم عن مسائل شخصية وتولّد في بعض الأحيان الأعراض ذاتها، ولكن الشفاء يتوخى في الحالتين طرقاً مختلفة تماماً. فحين يكون العارض شخصياً، قد يؤدي البحث عن سببه إلى حلٍّ له، أما في حالة انفعال الجوار، فيتعين فهم العلاقة التي تربط الشريكين والأسباب التي جعلت هذا الانفعال بالذات يربط في ما بينهما بشكل وثيق.

وفي هذه الأثناء، الطفل الذي يعتبر أن مشاعر شخص آخر هي مشاعره لا يجد أمامه سبيلاً سوى أن يحاول أن يجد معنى لما يشعر به. وهكذا، يتعرض لإغراء تخيّل نفسه إما ضحية وإما معتدياً. ويبني في داخله صورة شبح على امتداد فترة اتصاله بأهله الذين يحملون سراً مؤلماً لا يستطيعون الافصاح عنه وعادة ما يكون صدمة يعجزون عن تخطيها. وينبني هذا الشبح تحت تأثير انفعالات شديدة يعيشها الطفل بالتعاطف مع أهله من خلال وضعيات مكررة. كما أن ذكره هذه الوضعيات كثيراً ما يكون ممحواً من الذاكرة لأنّ الانفعالات شديدة ومقلقة إلى درجة يصعب معها على الطفل أن ينأى بنفسه عنها. فيسارع في هذه الحالة إلى نسيان هذه اللحظات ومعها هذه الأشباح ليصير ما شعر به جسماً غريباً حقيقياً في داخل نفسه. وهو جسم غريب يستطيع في ما بعد أن يوجه جزءاً من حياته من دون أن يدري ومن دون أن يكون لديه أي ذكرى عن الوضعيات التي تسببت في بنائه.

وقد بدت هذه الأمور مستغربة جدّاً بالنسبة إلى الباحثين الذين اكتشفوها في الستينات حتى أنهم نسبوها في البداية إلى "تواصل غامض يدور من لا وعي إلى آخر". ولكننا نعلم اليوم أن تفسيرها الحقيقي كامن في الحركات والمواقف وتعابير الوجه التي يتبادلها الأهل والأطفال في مختلف أوضاع الحياة اليومية.

إنّ الشخص الذي عانى من صدمة أو الذي كان قريباً جدّاً من الناحية العاطفية من شخص عاش صدمة، أكثر ميلاً إلى القيام بحركات واتخاذ مواقف ملتبسة. فالإنسان لا يهرب أبداً بالكامل من الأفكار المؤلمة التي تعتريه وهو يتمثلها، انفعالياً على الأقل، على شكل حزن أو قلق أو غضب لا تفسير له. والمشكلة هي أنه كلّ مرة يسعى أهل إلى أن ينسوا وضعاً مؤلماً، تصير مظاهره الانفعالية غير المتوقعة بمثابة رسائل غامضة تصل إلى الأطفال وتستنفر لديهم حالة قلق وصوراً تتصل أحياناً مع تلك التي يشعر بها الأهل كما تكون أحياناً من صنع خيالهم بالكامل.►

ارسال التعليق

Top