• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فشة الخلق.. لحظات من الجنون المؤقت

تحقيق: ثناء عبدالعظيم

فشة الخلق.. لحظات من الجنون المؤقت

 

- شحنة غضب عابرة قد تصيب الشخص الخطأ: "فش الخلق" هو مناورة نفسية يلجأ إليها الإنسان للتنفيس عن غضبه، إلا أنها مناورة في غير محلها، لأنّها تصيب أشخاصاً أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم وجدوا أنفسهم في مرمى شخص غاضب تصور أنّهم سيغفرون له ما لا يغفره آخرون. ولكن... تعرّف "فشة الخلق" بأنّها حالة من التنفيس عن مشاعر الحنق والغضب عبر إسقاطها على شخص هو أبعد ما يكون عن مسببات الغضب، أو بمعنى آخر لا ناقة له في الموضوع. وفي الحقيقة، أنّ الأغلبية العظمى منا متورطان في إسقاط مشاعر الغضب على أشخاص حولنا. والأخطر ما تكشفه دراسات نفسية وتربوية واجتماعية، تشير إلى أنّ الأطفال هم أكثر الضحايا المحتملين لتنفيس مشاعر الغضب لدى الأهل، تليهم الزوجة في المرتبة الثانية، حيث أكدت دراسة أجريت حديثاً في "المركز القومي للبحوث" في مصر "أنّ الزوجة تمثل الهدف المحتمل، وعليها يقع النصيب الأكبر من غضب زوجها الناجم عن مشكلات ومتاعب يعانيها الزوج، ولا علاقة لها بها". كما أشارت الدراسة أيضاً إلى أن "أكثر الأوقات التي تشهد خلافات زوجية من هذا النوع، هي الفترة التي تلي مباشرة عودة الزوج من العمل، حين يكون محملاً بمتاعب وضغوط يوم عمل طويل".   - انفجار: وإذا كانت الدراسات قد كشفت جانباً من هذا المنحى النفسي والسلوكي لدى الإنسان، فلا شك في أنّ الاعترافات كفيلة بتسليط الضوء على المشكلة بطريقة أكثر وضوحاً. "لا شك في أن ضغوط الحياة ومتاعبها المتزايدة، جعلت الإنسان أكثر توتراً، وأقل قدرة على التعامل مع مشاعر الغضب أو الضيق بشكل واعٍ ومعتدل. وبالتالي، أصبح من المعتاد أن نرى من يفرغ حصاد يومه من التعب والإرهاق على أطفاله أو زوجته حينما ينفجر ثائراً لأتفه الأسباب". هذا ما تقوله سيدة الأعمال سوزان أحمد، وتضيف معترفة: "للأسف، يحدث ذلك مع أبنائي، عندما أعود إلى البيت بعد عناء يوم عمل طويل، أشعر وكأن رأسي مثل بالون ممتلئ بالهواء يوشك على الانفجار لأسباب بسيطة، وأحياناً بغير أسباب، أجدني أصرخ في أطفالي وأحياناً أضربهم". تعاني سوزان الإحساس بالذنب لأنّها تعي جيِّداً حجم الخطأ الذي ترتكبه في حق أطفالها. تقول: "في كل مرة، وبعد أن تهدأ ثورتي أعاتب نفسي لأني أعرف أن أياً من أطفالي الثلاثة لم يرتكب ذنباً يستحق من أجله العقاب، بل أنا التي أخطأت، بعدم قدرتي على التمييز بين أطفالي وبين ضغوط العمل التي تقف وراء إحساسي بالإجهاد والضيق".   - سماح: اعتراف آخر ممهور بإقرار بالذنب وتأنيب الضمير، يدلي به المهندس عبدالله ناصر (متزوج منذ 6 سنوات)، حيث يقول: "لا أدري كيف تختلط عليّ الأمور لدرجة أعجز معها عن التمييز بين المسؤول الحقيقي عن غضبي وانفعالي، وبين أشخاص آخرين أبرياء لا ذنب لهم". ويتابع اعترافه موضحاً: "زوجتي غالباً وأطفالي أحياناً، هم الضحايا المحتملون الذين أستهدفهم بشحنات غضب وانفعال لم تكن لتصيبهم لو أنني أكثر قدرة على السيطرة على مشاعر الغضب". ويضيف مفسراً: " عندما أكون في حالة ضيق أو غضب، أختار أولئك الأشخاص الذين أثق بأنهم سيتحملونني ويصفحون عني، ولن يبادلوني انفعالاً بانفعال". ويقول: "لعل هذا تحديداً ما يجعلني أشعر بندم شديد بعد أن أعود إلى رشدي لأبدأ رحلة من الاعتذار والأسف والوعود، التي أعجز عن الوفاء بها، بعدم معاودة الكرة مجدداً".   - عصبية: وفي موقف لافت، تحمّل خبيرة التجميل ملاك هنود نفسها مسؤولية انتهاء حياتها الزوجية بالطلاق، تقول: "لا أستطيع كتم ما تنفجر تلك المشاعر لتصيب وتجرح أشخاصاً أبرياء، وقد أثر ذلك سلباً في حياتي الزوجية، حتى انتهت بالانفصال" وإذ تلقي جانباً من اللوم على طبيعة عملها، تقول: "أتعرض في عملي لمواقف كثيرة مع الزبائن تثير غضبي وحنقي، فهذه زبونة لا تعجبها التسريحة التي اختارتها، وأخرى تلومني لأنّها لم تحسن اختيار لون صبغة الشعر التي تناسب بشرتها". وتضيف: "لأنّ الزبون دائماً على حق، أضطر إلى أن أكظم غيظي وأعتذر عن أخطاء لم أرتكبها، لأعود في نهاية اليوم إلى منزلي محملة بشحنة من الغضب تفوق قدرتي على الاحتمال، فأفتعل خلافاً أو شجاراً، غالباً مع ابني، ومن البديهي أنّ الانفعال الذي يصدر عني حينها يفوق بكثير موضوع الشجار".   - استفزاز: من ناحيتها، تكشف الموجهة التربوية شيخة الحبسي جانباً مما يدور في كواليس المشهد، تقول: "صحيح أنّ الغضب هو عبارة عن انفعال جامح قد تغيب تحت وطأته القدرة على التمييز بين مصدر الغضب وشخص بريء، لكن، على الأقل، يبقى هناك حد أدنى من الوعي يحول دون انفجار بركان الغضب في وجه شخص بريء". وفي ما يتعلق بأولئك الأشخاص الذين يصلحون لاستهدافهم بإسقاط مشاعر الغضب عليهم، تقول الحبسي: "إن إسقاط الغضب يعتمد على تحديد نوعية الشخص الذي أمامي وتصنيفه، فإذا كان من الأشخاص المهمين، وعلاقتي به جيِّدة، أكتم غيظي حتى لا أخسره. والعكس صحيح"، لافتة إلى أن "ثمّة أشياء يفعلها الإنسان وقت الغضب يكون غير مدرك لها فيندم عليها". وتؤكد أن "فشة الخلق" هي أحد أسوأ تلك الأشياء على الإطلاق".   - لابدّ من التنفيس: من منا لم يتعرض ولو مرة واحدة لموقف يثير أعصابه أثناء العمل؟ حتماً لا أحد. تعقيباً على ذلك، تؤكد الموجهة التربوية صبيحة الظاهري: "إن فشة الخلق، أو إسقاط الانفعال والغضب على شخص بريء في العمل، يختلف عنه في البيت لناحية العواقب المحتملة". وتوضح ذلك بقولها: "لو ترك الإنسان العنان لتمرير وإسقاط انفعالات غضبه أثناء وجوده في العمل، فإنّه يجعل نفسه عرضة لأن يخسر وظيفته أو أحد زملائه، وفي أحسن الأحوال سوف تهتز صورته أمام زملائه". وإذ تعود لتؤكد أنه "لابدّ من التنفيس" تقول: "عندما أعود إلى البيت أفش خلقي في أي من أخواتي أو إخوتي، وأنا على يقين بأن ذلك لن ينعكس بالسلب على علاقتنا الأخوية، وأننا بعد فترة سنعود إلى هدوئنا وتستعيد قلوبنا صفاءها وكأن شيئاً لم يكن".   - البريء بذنب المذنب: لكن، يبدو أنّ التفكير في نتائج هذا النوع من الانفعال قد تكون مستحيلة، إذ تقول الطالبة في كلية الطب أهازيج كمال: "أفش خلقي من حيث لا أدري في أي شخص قد يكون بريئاً وليس له ذنب، بحيث يمكن أرفع صوتي في وجهه، أو أرد عليه بكلمات قاسية". وتضيف: "إنما، عندما أراجع نفسي، أحاول أن أصلح ما أفسدته أثناء الانفعال حتى لا أخسر هذا الشخص". وتكشف أهازيج أنها تفضل "معاتبة" الشخص الذي أغضبها إذا كانت تكن له مشاعر الاحترام والتقدير حتى تفرغ شحنة الغضب التي تكون بداخلها، أو تتمالك نفسها حتى لا تأخذ البريء بذنب المذنب.   - خسرت صديقتي: بدورها، تقول علياء البرديسي (معلمة) "أحاول وأنا غاضبة تجنب الطرف الذي أغضبني وأترك المكان. كما أحرص قدر الإمكان على ألا أصحب توتري معي إلى البيت أو أن أعكسه على أولادي، لأنّهم ببساطة لا ذنب لهم". وتضيف: "زوجي يتأثر إلى حد ما، وعندما أنفعل لشيء ما، يعرف أن هذا شيء عارض وليس من طبيعتي". وتصف علياء الإنسان أثناء الغضب بأنّه يبدو "وكأنّ الشيطان يتلبسه". وتقول: "إذا حدث وأسقطت غضبي على شخص ما، وإن كان ذلك أمراً نادر الحدوث، أعود لأحاور نفسي عندما أستعيد حالة الصفاء، وأتساءل عن سبب ثورتي وغضبي. وأندم على كل كلمة صدرت عني وأعتذر إلى هذا الشخص الذي أخطأت في حقه وظلمته وهو بريء وأحاول أن أسترضيه". وتضيف: "لكن، ليس في كل مرة تسلم الجرة". وتقول في هذا السياق: "قبل عشر سنوات، أخطأت في حق صديقة عمري، حدث ذلك عندما أرادت أن تسدي إليّ النصيحة ولم أفهم مقصدها وفششت خلقي فيها، كنت أعتقد أنها سوف تتحملني ولكن رد فعلها لم يكن متوقعاً، فهي لم تحتمل انفعالي وقطعت علاقتها بي فوراً وخسرتها".   - مراجعة ومحاسبة: أمّا آلاء مصطفى (ابنة علياء)، فتقول: "إنّ الغضب أحياناً يكون وسيلة للدفاع عن النفس. وتضيف: "إن مراجعة النفس ومحاسبتها من خلال الحوار، تعمل على استعادة الإنسان لنفسه وانضباط سلوكه وتصرفاته التي لا تليق، وهذا ما يعرف بتأنيب الضمير".   - عواقب الأمور: "يبحث الإنسان دائماً عن أساليب يخفف بها من توتره، وغالباً ما يختار لذلك أشخاصاً مقربين يتوقع أنهم سوف يتحملون غضبه". هذا ما يقوله عبدالباقي حسين (محاسب). ويضيف: "من هذا المنطق، من المتوقع أنّ الزوجة تمثل هدفاً مناسباً لنوبات غضب زوجها". ويقول: "لقد وقعت في هذا الخطأ ذات مرة، حيث عدت إلى البيت بعد يوم عمل طويل ومزعج، لأن خلافاً وقع بيني وبين أحد زملائي. وعندما وصلت إلى البيت، ووجدت أن زوجتي لم تنته من تحضير الطعام، وإذا بي أنفجر في وجهها صارخاً". ويتابع: "لا أعرف كيف حدث ذلك، فالأمر لم يكن يستحق، ولكن عقلي كأنه توقف عن التفكير وفقدت القدرة على النظر إلى حقيقة الأمور".   - عقوبة غير مبررة: "معظم ضحايا فشة الخلق هم من الأطفال". هذا ما يراه الخبير التربوي الدكتور ماهر حطاب، الذي يشير إلى أن "بعض الأهل يبادرون إلى إسقاط انفعالاتهم على الأطفال، وهم يبررون ذلك غالباً بأنّه نتاج العصبية والتوتر والضغوط وغيرها. وجميعها أعذار غير مقبولة ولا تصح بأي حال من الأحوال". ويتابع د. حطاب قائلاً: "نحن نزرع في الطفل صفات التخاذل وعدم المواجهة إذا وجد نفسه يتعرض للضرب والعقاب لأقل خطأ. وحينها، قد يحدث الأب نفسه قائلاً: "لقد فششت خلقي في الولد وهو لا يستحق كل هذا العقاب". ويشير د. حطاب إلى أنّ "المشكلة تكمن في أنّ الطفل، عندما يرى أنه تلقى عقوبة غير مبررة من أجل خطأ بسيط أو فعل مارسه من قبل ولم يعاقب، فإنّه سيعجز عن فهم ما حدث، وسيعاني عدم وجود معايير واضحة لتصنيف الخطأ وشكل العقاب. ولذلك، ربما لن يستطيع في المستقبل أن يحدد ما إذا كان هذا السلوك يستحق عليه العقاب أم لا. وينتج عن ذلك إحساسه بالتوتر وعجزه عن تقييم الأمور، عدا عن قتل روح المبادرة والجرأة لديه بسبب الخوف الدائم من العقاب". وينصح د. حطاب بمراعاة مشاعر الأطفال والحرص على سلامتهم النفسية، لأنّها سبيلهم إلى تكوين شخصيات سوية"، محذراً "من الاستهانة بالتأثيرات النفسية السلبية التي تصيب الأطفال لأنّ الحجم الحقيقي لأضرارها ربما لا يتكشف إلى بعد سنوات طويلة".   - الطلاق السريع: أمّا على الصعيد الأسري، "وحتى تستمر الحياة الزوجية هادئةً يسودها الود والاحترام المتبادل"، ينصح الاستشاري الأسري خليفة المحرزي "بضرورة أن يفصل الزوجان بين المتاعب والضغوط الخارجية، والإبقاء عليها بعيداً عن البيت والزوجة والأبناء". ومن واقع خبرته، يوضح الحرزي أن "حالات طلاق عديدة تقع خلال الساعات الـ5 الأولى التي تعقب وصول الزوج إلى البيت عائداً من عمله، فهو يعد محملاً بمتاعب وهموم يوم عمل طويل، وربما يفتل أي خلاف مع زوجته فيرمي عليها يمين الطلاق". ويشير خليفة المحرزي إلى أن "حالات طلاق كثيرة كانت عبارة عن ردود أفعال مبالغ فيها تجاه مواقف بسيطة في الحياة الزوجية، كان يمكن أن تمر بسلام لو أنّ الزوج نجح في السيطرة على غضبه وانفعاله". ويقول: "لقد كشفت دراسات أجريت مؤخراً حول الأسباب التي تقف وراء زيادة عدد حالات الطلاق بين أوساط الشباب، أن 43.5% من هذه الحالات تتم نتيجة التوتر".   - شرخ في العلاقات: "فشة الخلق" "نوعان" من وجهة نظر الطبيب النفسي الدكتور هيثم شبايك: "النوع الأوّل، يصدر عن شخص مدرك لتصرفاته أثناء قيامه بإسقاط غضبه على الشخص الذي أمامه، ويعي تماماً كل العواقب والخسائر المحتملة التي سوف تترتب على ذلك السلوك. أما النوع الثاني من "فشة الخلق"، فيصدر عن إنسان غير مدرك لتصرفاته نتيجة وقوعه تحت ضغط نفسي شديد، فهو ينفس عن غضبه حيثما كان، وعلى أي شخص من دون احتساب للتبعات ومراعاة حجم المشكلة التي يمكن أن تترتب على ذلك، سواء بالنسبة إلى نفسه أم الآخرين". ويوضح د. شبايك "أن تصرفات الإنسان في هذه اللحظة، تكون غير مسؤولة، لأنّها تصدر عنه من دون وعي. لذا، فهي تعتبر بمثابة حالة من "الجنون المؤقت"، لأن هدفه الوحيد في تلك اللحظات هو التخلص من الضغط الهائل الذي يعانيه. وبمجرد حدوث ذلك فإنّه يشعر بندم شديد ويحاول جاهداً أن يصلح ما أفسد". ويوضح الدكتور شبايك "أن إسقاط أو تمرير الغضب على أشخاص أبرياء، هو سلوك سلبي ينم عن ضعف في الشخصية، وعدم القدرة على التحكم في الانفعالات". ويقول: "كلما تمكن الإنسان من كبح جماح نفسه، كانت نفسيته أكثر استقراراً". ويضيف: "هناك تفاوت بين الأشخاص في مدى الاستجابة لانفعال وشعور الغضب من حيث سرعة الاستجابة وشهدتها، ويعود هذا التفاوت إلى عوامل نفسية واجتماعية وعضوية، مثل قلة النوم والإرهاق والإصابة ببعض الأمراض، مثل السكري والضغط وأمراض القلب. كما أثبتت الأبحاث أنّ الرجل عموماً أسرع غضباً، في حين تمتاز المرأة بقدرة على التحمل وكتمان مشاعر الغضب والتحكم فيها". ويختم قائلاً: "في الأحوال كافة، لا يمكن اعتبار الغضب والانفعال سلوكاً مناسباً لتسوية الأمور بين الأشخاص الأسوياء".

ارسال التعليق

Top