• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قراءة في مفهوم الإبداع وتسمياته

د. عزت السيد أحمد

قراءة في مفهوم الإبداع وتسمياته
   أعتقد أنّ اللازم لا مجرد الوقوف عند معنى الإبداع أو مفهومه وحسب، ولكن الاتِّفاق على هذا المفهوم؛ ذلك أنّ تركه دون تحديد واتفاقٍ على هذا التحديد يجعله عُرضة للميول والأهواء، ويوسِّع دائرته حتى تكاد تكون حاوية لما طاب وخاب، ولمن أخطأ وأصاب، ولما انطوى تحت معطف الإبداع بحقِّ ولما كان هرطقةً وشعوذةً ولهواً. من حيث المبدأ فإنّ الإبداع بحد ذاته مفهومٌ إشكاليٌّ معقَّدٌ يصعب الوقوف على كل جوانبه وأبعاده، ولذلك من العسير – بمعنى من المعاني – حصره ضمن كلمات قليلة أو كثيرة تدّعي أنها تُعرِّفُ الإبداع أو تحدده منطقياً بسياج جامع مانع. ومن أهم المشكلات التي تعترضنا في هذا السبيل هي استواء اصطلاح الإبداع – من حيث الاستخدام – مع اصطلاحات أخرى تستخدم للدلالة على ما يدل عليه الإبداع؛ كالخلق والابتكار والاكتشاف والاختراع والإنشاء وغيرها. ورغم أنّ مشكلة التداخل الدلالي لهذه الاصطلاحات قد حُلَّت منذ زمن ليس بالقريب أبداً فإنّ اللبس مازال قائماً من حيث شيوعُ استخدامها عوضاً عن بعضها بعضاً بشكل عامٍّ من جهة أولى، واستخدام الإبداع ليحلّ مكانها جميعاً من جهة ثانية، الأمر الذي يوقعُ في جملة من الإرباكات نحنُ بغنى عنها في الأصل، ولكنها تنمُّ عن مدى إشكالية الموقف وتعقيده. نبدأ أوّلاً بتعريف الإبداع في إطاره العام لأنّه الأكثر شمولية من جهة، ولأنّ معظم المفكِّرين تناولوا الإبداع ضمن هذا الإطار الشمولي، وفي البداية نجدنا أمام إشكالية أخرى من إشكاليات تعريف الإبداع، ذلك أنّه كما في قول الكسندرو روشكا AL-Rosca: "من الصعب أن ننتظر إيجاد تعريف محدد ومتَّفق عليه في الوقت الحاضر، خصوصاً أنّ بعض التعريفات التي جاءت تُعلِّق أهمية على هذا البعد – كون الإبداع ظاهرة معقَّدة الأبعاد – وبعضها يؤكد على بعد آخر، فتارةً يعرَّف الإبداع كاستعداد أو قدرة على إنتاج شيء ما جديد، وذي قيمة، وتارة أخرى لا يُرى في الإبداع استعداداً أو قدرة بل عملية يتحقق النتاج من خلالها، ومرّةً ثالثة يُرى في الإبداع حلٌّ جديدٌ لمشكلة ما، أمّا معظم الباحثين فيرون أنّ الإبداع هو تحقيق إنتاج جديد، وذي قيمة من أجل المجتمع". وتأسيساً على ذبك بنى روشكا تعريفه للإبداع، مع الانتباه إلى تركيزه على طبيعة الأثر المنتج بإلحافه على ضرورة تضمُّنه قيمةً وفائدةً فرديةً أو جمعية، وإيلائه الفائدة الجمعية القيمة الأكبر، فقال: "يمكن (عدُّ) الإبداع وفق تعريف (مبرمج) الوحدة المتكاملة لمجموعة العوامل الذاتية والموضوعية التي تقود إلى تحقيق إنتاج جديد وأصيل ذي قيمة من قبل الفرد أو الجماعة (وسنعدُّ) وفق سياق بحثنا أن الإبداع حصراً هو النشاط أو العملية التي تقود إلى إنتاج يتصفُ بالجدّة والأصالة، والقيمة من أجل المجتمع، أما الإبداع بمعناه العام (الواسع) فهو إيجاد حلول جديدة للأفكار والمشكلات والمناهج". ولكن روشكا وسَّع دائرة الإبداع كثيراً حتى غدت مطاطةً يمكن أن نحشر فيها من شئنا بقليل من الشد. فهو يقول: "إنّ الشكل الأساسي لعلاقة الإنسان الفعالة بالعالم الخارجي هو النشاط، بينما الشكل الأساسي للنشاط الإنساني هو العمل في مجالاته المتعددة: في عمل العامل، والفنان، والعالم، والسياسي، والمفكِّر، والمهندس... إلخ، وفي هذه المجالات من النشاط يظهر الإبداع ويتجلّى". وهو محقٌّ في مبالغته إذا أخذنا عقائديته (Ideology) بعين الاعتبار، هذه العقائدية التي أرادت أن تفتح مجالات العطاء البشري بأيِّ صورةٍ ممكنة، حتى بالمبالغات اللفظية والإيحائية التي تحفز على النشاط طالما أن كل تجديدٍ في أي ميدان من الميادين يُسمّى إبداعاً، فيتساوى بذلك عامل المصنع من الشاعر مع الفنّان في مرسم الطبيعة. وعلى هذا الأساس بنى روشكا وصفاً للإبداع لا يخلو أيضاً من انفتاح دلالي لا مبرِّر له، فقال: "الإبداع شكلٌ راقٍ للنشاط الإنساني". ولذلك نسمحُ لأنفسنا بإغلاق الدائرة الدلالية المفتوحة لهذه الوصف بقولنا: "الإبداع هو الجانب الخلّاق من النشاط الإنساني". أما جيلفورد (J.P. Guilford) فقد عرَّف الإبداع بقوله: "الإبداع، بمعناه الضيِّق، يشير إلى القدرات التي تكون مميّزة للأشخاص المبدعين؛ إنّ القدرات الإبداعية تحدِّدُ ما إذا كان الفرد يملك القدرة على إظهار السلوك الإبداعي إلى درجة ملحوظة، ويتوقَّفُ إظهار الفرد المالك للقدرات الإبداعية على نتائج إبداعية أو عدم إظهاره مثل هذه النتائج بالفعل، يتوقَّف على صفاته الإثارية والطبيعية... إنّ مشكلة عالم النفس هي الشخصية الإبداعية". ويبدو من هذا التعريف إلحاح جيلفورد على فطرية القدرات الإبداعية التي تظهر عند المرء بالاستثارة الخارجية أو بطبيعة الشخص المبدع الذي يعمل على إظهارها، دون نسيان التأكيد على تعقُّد المشكلة الإبداعية وخصوصيَّتها التي تجعلها المشكلة الرئيسة في علم النفس. أمّا المعجم الفلسفي المختصر قد عرف الإبداع مساوياً إيّاه مع الخالق بأنّه "نشاطٌ هادفٌ" يؤدي إلى اكتشاف: (خلق، اختراع) شيء جديد، لم يكن معروفاً من قبل، أو استيعاب الثروة الثقافية المتوفِّرة استيعاباً فعّالاً، يستجيب لمتطلّبات العصر – ويتابع المعجم: إنّ الشرط الضروري للإبداع هو اهتمام الشخصية العميق بعصرها، والقدرة على استشفاف مشكلاتها الملحة في سياق الحالات والأوضاع الملموسة؛ (الاجتماعية والمعرفية والمهنية والحياتية والعملية). إنّ الفعل الإبداعي، الموجَّه لحلّ مهمّات مطروحة موضوعياً وقيِّمة اجتماعياً، إنما يتحقَّق، في الوقت ذاته، في صورة عملية تحقيق للذات، تستجيب للمتطلّبات الداخلية العميقة؛ (الرِّسالة). وفي مجرى الإبداع يجري عادةً حشد لإمكانيات داخلية؛ (للخيال، للذاكرة)، لم يكن وجودها يخطر ببال المرء، ولذا فإنّه بنتيجة الفعل الإبداعي يعرف شيئاً جديداً ليس فقط عن العالم الخارجي، بل وعن ذاته أيضاً، وغالباً ما يأتي الإبداع أشبه بولادة المرء من جديد، بكلِّ ما يرافق ذلك من أوجاع أو أفراحٍ؛ (الوحي الإبداعي)". رغم أنّ في هذا التعريف أكثر من إشراقة إلا أنّه لم يسلم من الزلل والوقوع في فخِّ التَّبهير العقائدي الراني بحسن القصد إلى إعطاء الثقافة هالة من الأهمية، بمساواتها بالإبداع، وإن كان تفسير الفعالية والاستجابة لمتطلّبات العصر من هذا المنظور العقائدي سينحو منحىً موجَّهاً عقائدياً. ويتبع ذلك اهتمام المبدع بمشكلات العصر والتوجُّه لحلِّ المهمّات المطروحة انطلاقاً من نظرية الالتزام، وهي مسألةٌ فيها خلافٌ قد لا يكون قابلاً للحل. ولكنّنا من جهة أخرى نجد مفكِّراً مثل ماكينون (Mackinnon) يعتذرُ عن تحديد الإبداع بإطار واحد انطلاقاً من "أنّ الإبداع ظاهرةٌ متعدِّدةُ الوجوه أكثر من اعتبارها مفهوماً نظرياً محدَّد التعريف". ولو عدنا إلى التراث العربي لوجدنا تعريفات للإبداع لا تقلُّ أبداً عن هذه التعريفات من حيث الدِّقة المفهومية والدلالية، فالأصل اللغوي للإبداع كما حدّده ابن فارس يشيرُ إلى "ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثالٍ سابقٍ. ومن ذلك قولهم: أبدعتُ الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدأته لا عن سابق مثال". أما ابن منظور فيقول: "بَدَعَ الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه: أنشأه وبدأه". وفي الإطار اللغوي ذاته كان أبو البقاء الكفوي أكثر دقة وأشد ضبطاً لهذا الاصطلاح، فقال: "الإبداع؛ لغةً، عبارةٌ عن عدم النظير. وفي الاصطلاح: هو إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود.. وهو أعمُّ من الخلق بدليل: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (البقرة/ 117)، و(خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (البقرة/ 164)، ولم يقل بديع الإنسان. وقيل الإبداعُ إيجادُ الأيس عن الليس أو الوجود عن كتم العدم. وقال بعضهم: الإبداع: إيجاد شيء غير مسبوق بمادّة ولازمان كالعقول، فيقابل التكوين لكونه مسبوقاً بالمادَّة". ووصل من ذلك إلى القول: "الإبداع هو اختراعُ الشيء دفعةً". ولو انتقلنا إلى الجانب الآخر من التُّراث وهو ما أدلى به المفكِّرون لوجدنا مثالاً أبا عثمان الجاحظ يرى أنّ الإبداع واحدٌ من الطبائع التي جُبِلَ الإنسان عليها. وهو بهذا المعنى أقرب ما يكون إلى القول بالموهبة، وفي مثل ذلك يقول لمن يريد الإبداع: "إنّك لا تعدمُ الإجابة والمواتاة إذا كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصِّناعة على عرق.. لأنّ النفوس لا تجودُ بمكنوناته مع الرغبة، ولا تسمحُ بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبّة". وبهذا المعنى تقريباً ذهب أبو حيّان التوحيدي إلى أنّ الإبداع موهبةٌ خاصّةٌ لا تؤتى إلا لقلّة من الناس، مؤكِّداً على اختلاف الإبداع عن أيِّ عملٍ آخر من حيث شروط الإبداع وحقيقته. ومثل هذين الفيلسوفين كان العلامة ابنُ خلدون الذي تحدَّث كثيراً في الإبداع؛ طبيعةً وظروفاً وشروطاً.. ولكن دون أن يستخدم أيضاً لفظة الإبداع، فاستخدم لفظة الملكة بمعنى الموهبة، رائياً أنّها صفةٌ راسخةٌ تحصل على استعمال الفعل وتكراره مرّةً بعد أخرى حتى ترسخَ صورته. ليكون بهذا التعريف قريباً جدّاً من افتراضنا بأنّ الملكة الإبداعية مشاعٌ عند عموم الناس، والخبرةُ والمران أحد عوامل تنشيطها وتهيئتها للإبداع. هذا المفهوم العامُّ للإبداع؛ الفكري والفني والعلمي والسلوكي والمهني.. وعلى الرُّغم من أنّنا لا نمانع من إدراج هذه المفاهيم كلِّها تحت إطار مفهومنا على الإبداع الذي سنحاول رسم معالم الطريق إليه فإنّنا لا نرتاح كثيراً إلى هذه الشمولية في مفهوم الإبداع، ذلك أنّ ثمّة اصطلاحات أخرى مشابهةٌ تُستخدَم بمعنى الإبداع، والإبداع يحلُّ في بعض الأحيان مكانها في الاستخدام، فإضافةً إلى الخلق والاكتشاف والاختراع نجدُ الفَطْرُ، والبَرْء، والصُّنع، والإيجاد، والإحداث والتكوين، والجَعْلُ، والابتكار، وربّما الفعل أيضاً. ولذلك من المستحسن أن نجلو الآن حدود الاصطلاحات المقارنة للإبداع ونقف عند الفوارق بينها، ولنختم أخيراً بتعريف الإبداع. الاكتشاف: افترق الاكتشاف (Discouvery) عن الإبداع (Creation) بأنّه "أُطلق على المعرفة الجديدة بأشياء كان لها وجودٌ من قبل؛ سواءٌ كان هذا الوجود مادياً أو كان نتيجة تترتَّبُ على معلومات سبق وجودها؛ مثل اكتشاف كريستوف كولومبوس (C. Columbus) لجزر الهند الغربية، وبول لانجر هانز (P.L Hans) لهرمون الأنسولين الذي تُفرزه بعض أجزاء البنكرياس، عام 1869م، واكتشاف سير الكسندر فلمنغ (A. Fleming) للبنسلين عام 1928م". والاكتشاف بهذا المعنى نتيجةُ فكر إبداعي وعقلية مبدعة، ولذلك فهو ضربٌ من الإبداع ولكن له ميدانه الخاص وإطاره المحدَّد. على أنّه قد يتَّفق أن يكتشف امرؤٌ أمراً أو شيئاً جديداً دون أن يتَّسم بعقليَّة إبداعية لأن اكتشافه يتمُّ بمحض المصادفة أو حسن الحظِّ. ومشكلةُ العقلية المبدعة في هذا الإطار أنّ الكشوف العلمية الآن أصبحت من اختصاص الحسابات الإلكترونية والتِّقانات المتطوِّرة. أمّا الكشوف الفكرية والفنِّية، وهي التي نحصرُ الإبداع في إطارها؛ فتظلُّ وظيفة الإنسان المبدع، ولا أعتقد أنّ غير الإنسان المبدع قادرٌ على مثل هذه الوظيفة، فمهما بلغت البرمجيّات الحاسبية من قوّةٍ لن تستطيع قرض قصيدة واحدة، ولا سبك قصّة أو رواية أو مسرحيّة. الاختراع: أمّا الاختراع (Invention) فقد عرَّفه الكفوي بأنّه: "إحداثُ الشيء لاعن شيء". بمعنى "إيجاد أشياء جديدة لم تكن موجودة من قبل". كما يقول جميل صليبا، ويمتاز الاختراع عن الإبداع وعن الاكتشاف بأنّه "إنتاجٌ إبداعيٌّ للفرد يتمثل في تأليف أو مركَّبٍ جديدٍ من الأفكار يتمثل غالباً في شيء له وجودٌ ماديٌ، أو في إدماج جديد لوسائل، أو مبادئ، أو عناصر، من أجل تحقيق غاية معيّنة.. ومن أمثلة ذلك اختراعُ غراهام بل (G. Bel) (للهاتف – Telephone) واختراع إديسون للمصباح الكهربائي، واختراع جيمس واط (J.Watt) للآلة البخارية". وبذلك أصبح الفرق واضحاً بين الاكتشاف والاختراع والإبداع، ولا ننسى هنا أن نشير إلى أنّ الاختراع أيضاً نتيجةٌ للعقل المبدع، والتفكير الإبداعي. يبقى الإنشاءُ والابتكارُ اللذان يدلان على معنى الإبداع بمدلوله الشمولي، حتى نجدُ من يجادل في أحقّيّة أحدهما بالحلول محل الإبداع. الإنشاء: يُشبه الإنشاء (Composition) الإبداع من حيث الإيجادُ عن غير مثالٍ مسبق، وفي إطار هذا المعنى جاء في القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ) (المؤمنون/ 78). وقوله عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) (الأنعام/ 98). وفي السورة ذاتها أيضاً قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ) (الأنعام/ 141). وكذلك قوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود/ 61). وكثيرٌ من المفكِّرين والفلاسفة استخدموا الإنشاء بمعنى الإبداع، فقد عرَّف أبو البقاء الكفوي الإنشاء بقوله: "الإنشاءُ: الإيجاد والإحداث"، وفي المكان ذاته قال: "الإنشاءُ إخراج الشيء بالقوُّة إلى الفعل". وفي مكان آخر عرفه بأنّه: "إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان". ولا يفترق هذا التعريف عن تعريف الإبداع عند الكفوي ذاته فقد ذكر في مكان آخر تعريفاً للإبداع جاء فيه: "الإبداع، لغةً، عبارةٌ عن عدم النظير. وفي الاصطلاح: هو إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود". وذكر تعريف الإنشاء ذاته بعد أسطر. وفي رسالته النيروزية يُعرِّفُ أبو علي ابنُ سينا واجبَ الوجود بأنّه "مبدعُ المُبدَعات ومنشئُ الكلِّ". ويقول ابنُ عربي: "ثمّ أنشأ سبحانه الحقائق عدد أسماء حقِّه". ومثل هذا الاتجاه نجده في الديانة المصرية القديمة، وفي الزرادشتيّة، والمعنى ذاته هو الذي نقصده من الإنشاء عندما نقول: "أنشأ مذهباً فلسفياً، أو أنشأ قصيدةً رائعة، أو أنشأ نظرية فكريةً أو غير ذلك". ولكن اصطلاح الإبداع هو الذي درج وانتشر دون الإنشاء، لذيوع استخدام هذا الاصطلاح الأخير (الإنشاء – Composition) في مساحاتٍ دلالية أخرى، فكثُر استخدامه في الهندسات والرياضيات، وطغى استخدامه في الأدب واللغة بوصفه مقابلاً للخبر. الخلق: يبقى الاصطلاح الأكثر اقتراناً بالإبداع وهو الخلق، ومعظم لغات العالم لا تُميِّز بين الاصطلاحين من حيث لهما مفردةٌ واحدةٌ للدلالة عليهما، أمّا اللغة العربية فتميِّزُ دلالةً ولفظاً، لالخلقُ في الأصل: التقدير، ومنه قول زهيرُ بن أبي سلمى: ولأنتَ تَفري ما خَلَقتَ **** وبعضُ القوم يخلقُ ثمّ لا يُفري ولم يبتعد القرآن الكريم عن هذا الاستخدام إذا استخدم الله تعالى الإبداع للإيجاد من عدم، أو الإيجاد دفعة واحدة كما قال قدماء فقهاء اللغة العربية، ومن ذلك قول تعالى الذي يتكرر غير مرة: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ)، أما الخلق فقد جاء في القرآن الكريم بصيغ متعددة كلها تدور في فلك دلالي واحد هو الإيجاد من شيء مسبق الوجود، أو الإيجاد عن وجود كما قال قدامى فقهاء اللغة العربية، ومن ذلك قوله تعالى: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) (الرحمن/ 14-15). وكذلك قوله تعالى: (خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر/ 26). ولكن الله تعالى استخدم في الخلق في حالات جدِّ قليلة بمعنى الإبداع، أو الإيجاد من عدم مثل قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ) (يس/ 81). وقد ورد في كلِّيات الكفوي أنّ الخلق: "تقديرٌ وإيجادٌ، وقد يقال للتقدير من غير إيجاد". وفي مكان آخر يقول إنّه "إحداثُ أمرٍ يُراعى فيه التقدير حسب إرادته". ويتابع صاحبُ الكليات بقوله: "(وفي الأنوار) الخلقُ إيجادُ الشيء على تقدير، أي مشتملاً على تعيين قدرٍ كان ذلك التعيينُ قبل ذلك الإيجاد مشتملاً على استواء الموجب للمعيّن في القدر.. وليس الخلقُ الذي هو الإبداع إلا لله تعالى". وربما لذلك مال التراث العربي إلى خصِّ الله بالخلق الذي هو بمعنى الإبداع، وترك الإبداع للإنسان بما تضمّن الإبداع من معانٍ وتطوُّرات دلالية لاحقة، ولاسيما "عدم تصوّر أن في قدرة الإنسان الإبداع من عدم – ولذلك – اتَّفق معظم المفكِّرين على أنّ الإبداع هو إنتاج شيءٍ ما على أن يكون جديداً في صياغته وإن كانت عناصره موجودةً من قبل، كإبداع عمل من الأعمال العلمية أو الفنية أو الأدبية". الإيجاد: ذهب الكفوي إلى أنّ الإيجاد هو "إعطاء الوجود مطلقاً". والوجود أنواع، والأصل في الوجود الإمكان، والوجود الممكن في أدبيات الفلسفة هو الوجود بالقوّة. ويقابله الوجود بالفعل، أي الوجود الواقعي تبعاً لطبيعة الموجود وكيفية وجوده. ومن الأمثلة على ذلك أنّ التمثال قبل وجوده الواقعي هو وجود بالقوة؛ تمثال موسى لمايكل أنجلو موجود بالقوّة في الحجر، أيِّ حجر. وعندما نحته أنجلو صار وجوداً بالفعل، أي موجوداً وجوداً واقعيا. والحركة التي تمّ بها نقل هذا التمثال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل هي الإيجاد. وكذلك الأمر في إيجاد النار في الخشب أو غيره مما توجد فيه النار بالقوّة، وكذلك نقل كلِّ موجود بالقوة إلى وجود بالفعل هو إيجاده. ولكن عندما يكون الأمر في الفن يسمى الإيجاد إبداعاً أو خلقاً فنيّاً. البرء: البَرْءُ فيما يرى الكفوي هو: "إحداثُ الشيء على الوجه الموافق للمصلحة". وجاء في اللسان أنّ البارئ: "هو الذي خلق الخلق لاعن مثالٍ"، ويتابع ابن منظور قائلاً: "لهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلّما تستعمل في غير الحيوان". ولكن ابن سيده يرى رأياً آخر وإن كان لا يبتعد كثيراً عن السياق العام لهذا الاصطلاح، فهو يقول: "برأ اللهُ الخلقَ ويَبْرُؤهم براءاً وبروءاً: خلقهم. ويكون ذلك في الجوهر والأعراض". التكوين: يرى الكفوي أنّ التكوين هو "ما يكون بتغيير وتدريج غالباً"... وعندما يعرفه جميل صليبا يقع في فخ الاصطلاحات فيرى أنّه "الإحداث، والتصيير، والتخليق، والاختراع، والصنع، والتصوير..". وكلها اصطلاحات أخرى متمايزة كما مرّ معنا، وعندما يتابع التعريف يقول: "تكوين الشيء هو الفعل الذي أحدث به الشيء حتى وصل إلى حالته الحاضرة، أو هو مجموعة الصور التي تعاقبت على الشيء من جهة علاقتها بالشروط المؤثّرة في نموه. ومنه تكوين الموجودات، وتكوين الوظائف..". الذي يعنينا أكثر تعريف صليبا هو ما تابع به قائلاً: "يشترط في التكوين عند الفلاسفة أن يكون مسبوقاً بمادّة، خلافاً للإبداع الذي يشترط فيه انتفاء المادّة". الجعل: يرى أبو البقاء الكفوي أنّ "الجعل إذا تعدّى إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير، وإذا تعدّى إلى مفعولٍ واحدٍ يكون بمعنى الخلق والإيجاد. ولا فرق على عُرف أهل الحكمة بين الجعل الإبداعي والجعل الاختراعي في اقتضائه المجعول وهو الماهيّة من حيثُ هي والمجعول إليه وهو الوجود، وإن كان بينهما فرق، من حيث إنّ الأوّل إيجاد الأيس عن مطلق الليس، أي أعمُّ من أن يكون مقيِّداً بما ذكر أو غير مقيَّد به". واعتماداً على ذلك كان بعض المعتزلة يستخدمون الجعل للقرآن هروباً من استخدام كلمة الخلق التي كانت تثير إشكالاً، وكانت من أصول الخلاف مع إجماع المسلمين حينها، كونهم يقولون بأنّ القرآن مخلوق لا منزل. الفَطْر: الفَطْرُ بوصفه اصطلاحاً مرادفاً للإبداع هو فيما ذهب إليه الكفوي "يشبهُ أن يكون معناه الإحداثُ دفعةً كالإبداع". وينقل الكفوي عن الجوهري قوله: "الفطرُ: الشقُ، يقال: فَطَرته فانفَطَر، فالفَطْرُ الابتداءُ والاختراع". ومن ذلك وصف الله تعالى ذاته بأنّه: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (الزمر/ 46)، وكذلك قوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم/ 30). ومن ذلك رأى الفلاسفة أنّ "الفطرة هي الجِبِلَّة التي يكون عليها كلُّ موجود في أوّل خلقه". الفطر على ذلك هو جزء من عملية الإبداع أو الخلق أو ربما الاختراع، ولكنه الجزء الذي لا يقبل التبديل أو التغيير، أي يمكن أن يكون للمخلوق أكثر من جزء مادي أو معنوي منها ما هو قابل للتبديل والتعديل والتغيير، ومنها ما لا يقبل ذلك أو لا يمكن عليه وهذا هو الجزء الذي يكون بالفطر ويسمى فطرة أو مفطوراً. الصنع: يعرِّفُ الكفوي الصُّنعُ بأنّه "إيجاد الصورة في المادة". فالخشب مثلاً كرسيٌّ بالقوة، وعملية تحويله من القوة إلى الفعل هي الصنع أو الصناعة، وتمام تحويله هو الإيجاد. ولذلك كانت تستوي عند القدماء صناعة الفن مع الصناعة المهنية التي تنتج أدوات الاستخدام والعمل وغيرها. فكان المعري مثلاً يقولون "صناعة الشعر"، و"صنعة الشعر"، وكذلك الأمر في النثر، ومن ذلك كان كتاب أبي هلال العسكري: "كتاب الصناعتين" ويقصد بهما صناعة الشعر وصناعة النثر. وربما يعود أصل هذا الخلط أو التعميم في استخدام هذه الكلمة إلى اليونان الذين استخدموا هذه الكلمة بالتعميم ذاته، فكلمة الصانع تساوي في اليونانية Demiourgos وهي مركبة في الأصل من كلمتين هما: Demios التي تعني الجمهور، وكلمة Ergon التي تعني العمل، وصارت كل التركيب يعني: العمل للجمهور. بهذا المعنى فإنّ الصنع يساوي أو يكافئ الإبداع أو الخلق، ولذلك لا غرابة في أنّ نجد أفلاطون وقد وصف الله بأنّه الصانع، فقال في كتاب القوانين: "هناك أشياء ينبغي على الإنسان ألا يجهلها، منها أنّ له صانعاً، وأنّ صانعه يعلم أفعاله". ومع ذلك فقد ميَّز أفلاطون في كتاب تيماوس "بين الصانع الأعلى، أي الإله الذي خلق نفس العالم، وبين الثواني التي خلقها بنفسه وفوَّض إليها خلق بقية الموجودات". الذي يبدو هنا هو أنّ التطور الدلالي أخذ منحاه باتجاه خصَّ المهن باختلاف أنواعها بمفرده الصناعة، وتتميز صنعة الفن بمفرده جديدة كان للغة العربية فضل تخصيصها، فكانت مفردة الإبداع أو الخلق الفني، وإن تماوت استخدام الخلق لصالح تكريس اصطلاح الإبداع. بعد هذا التحديد والتمييز بين تسميات الإبداع وخصائص كلٍّ منها بات من النافل القول إنّ الاستغناء عن هذا التحديد يجعلُ مفهوم الإبداع مبتوراً غير واضح المعالم، صار يمكننا التوقّف عند مفهوم الإبداع الذي أظنّه قد بات واضحاً، واتضح مقصودنا منه. وعلى الرغم من أنّنا لا نُمانع – كما أسلفنا – في استخدام اصطلاح الإبداع مكان معظم الاصطلاحات السابقة، ونعدُّ كلامنا اللاحق لاحقاً لكلِّ هذه الاصطلاحات، فإنّنا لا نستطيع إغفال خصوصياتها واتجاهاتها الدلالية وافتراقاتها عن الإبداع. لن نختلف عن أيٍّ من التعريفات السابقة في أنّ الإبداع ابتكارٌ للجديد الذي لم يسبق له مثيلٌ أو نظيرٌ، أو على أنّه في أدنى حالاته نوعٌ من التجديد في القديم بطريقة أو بأخرى. وسنصرُّ على ضرورة اتسام الإبداع بالقيمة. ولكننا سنخصُّ الإبداع بالخلق الفني والجمالي؛ فالإبداع هو الخلق الفني، والفنّ بطبيعته صورٌ جمالية، متباينة الطبائع تبعاً لمادة الفن التي قد تكون شعراً أو نثراً أو قصاً، والقصُّ ينشعبُ إلى: قصّة ورواية مسرحية، وقد يكون رسماً وللرّسم ضروب وأنواعٌ وصنوفٌ، أو نحتاً أو عمارةً أو موسيقى. وطالما أنّ الأمر كذلك صار من الواجب علينا الانتقال إلى بسط خصائص النتائج الإبداعي، أو الشروط الواجب توافرها في العمل المنتج حتى يستحقَّ أن يسمّى إبداعاً، فليس كل ما ينتج على أنّه إبداع يجوز أن يسمى إبداعاً.   * باحث وأستاذ جامعي سوري 

ارسال التعليق

Top