• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف يكون العبد شكوراً؟

كيف يكون العبد شكوراً؟
◄عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: "كان رسول الله (ص) عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول الله لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا عائشة! ألا أكون عبداً شكوراً؟ قال: وكان رسول الله (ص) يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله – سبحانه وتعالى – (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2).   حقيقة الشكر: الشكر هو عبارة عن تقدير نعمة المنعم، وتظهر آثار هذا التقدير في القلب بصورة الخضوع والخشوع والمحبة والخشية وأمثالها، وعلى اللسان بصورة الثناء والمدح والحمد، وفي الأفعال والأعمال بصورة الطاعة واستعمال الجوارح في رضا المنعم. يقول المحقق الطوسي "قدس سره": "الشكر أشرف الأعمال وأفضلها، واعلم أنّ الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية وله أركان ثلاثة: الأوّل: معرفة المنعم وصفاته اللائقة به، ومعرفة النعمة من حيث إنها نعمة ولا تتم تلك المعرفة إلا بأنّ يعرف أنّ النعم كلها جليها وخفيها من الله سبحانه وأنّه المنعم الحقيقي وأنّ الأوساط كلهم منقادون لحكمه مسخرون لأمره. الثاني: الحال التي هي ثمرة تلك المعرفة، وهي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم، من حيث إنها هدية دالة على عناية المنعم بك وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدنيا إلا بما يوجب القرب منه. الثالث: العمل الذي هو ثمرة تلك الحال فإن تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه، وهذا العمل يتعلق بالقلب واللسان والجوارح. أما عمل القلب فالقصد إلى تعظيمه وتحميده وتمجيده، والتفكر في صنائعه وأفعاله وآثار لطفه، والعزم على إيصال الخير والإحسان إلى كافة خلقه، وأما عمل اللسان فإظهار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، وأما عمل الجوارح فاستعمال نعمه الظاهرة والباطنة في طاعته وعبادته، والتوقي من الاستعانة بها في معصيته ومخالفته كاستعمال العين في مطالعة مصنوعاته، وتلاوة كتابه، وتذكر العلوم المأثورة من الأنبياء والأوصياء – عليهم السلام "وكذا سائر الجوارح".   كيف يكون الشكر؟ إنّ شًكر نعم الحق المتعالي سبحانه، الظاهرية منها والباطنية، من المسؤوليات اللازمة للعبودية، فعلى كل شخص أن يشكر ربه سبحانه. وعلينا أن نعرف أن شًكر النعم يكون بحسب مقدرتنا المتيسرة وهي محدودة، فلا أحد من المخلوقين يستطيع أن يؤدي حق شكره تعالى. والسبب في ذلك أن كمال الشكر يتبع كمال التعرف على المنعم وإحسانه، وحيث أن أحداً لم يعرفه حق معرفته، لم يستطع أحد النهوض بحق شكره. إنّ منتهى ما يصل إليه الإنسان من الشكر هو أن يعرف عجزه عن النهوض بحق شكره تعالى، كما أن غاية العبودية في معرفة الإنسان بعجزه عن القيام بحق العبودية له تعالى. ومن هذا المنطلق اعترف الرسول الأكرم (ص) بالعجز، مع أن شخصاً لم يشكر ربه ولم يعبده بمثل شكر ذلك الوجود المقدس وعبوديته. وبعد أن عرفنا عجزنا، فما هو المتيسر من الشكر المطلوب؟ يكون العبد شكوراً، إذا علم ارتباط الخلق بالحق، وعلم انبساط رحمة الحق عليه من أوّل ظهوره إلى ختامه، علم بداية الوجود ونهايته على ما هو عليه. فما دامت حقيقة سريان ألوهية الحق لم تنتقش في قلب العبد بعد ولم يؤمن بأنّه لا مؤثر في الوجود إلا الله، ولا تزال غبرة الشرك والشك عالقة في قلبه، لا يستطيع أن يؤدي شكر الحق المتعالي بالشكل المطلوب. ومثل هذه المعرفة لا تحصل إلا للخُلَّصِ من أولياء الله الذين كان أشرفهم وأفضلهم خاتم الأنبياء (ص)، كما يقول الحق المتعالي: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ/ 13). إنّ الذي يعتقد أنّ المخلوقات تتأثّر بصورة مستقلة، ولا يُرجع النعم إلى ولي النعم ومصدرها، يكون كافراً بنعم الحق المتعالي، إنّه قد نحت أصناماً وجعل لكل واحدٍ منها دوراً مؤثراً. قد ينسب الأعمال إلى نفسه وقد يتحدث عن فعالية طبائع عالم الكون، ويجرد الحق عن التصرف ويقول بأن يد الله مغلولة: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (المائدة/ 64).   مراتب الشكر: إنّ شُكر العباد للمنعم تعالى، يختلف مستوياته ومراتبه بين فرد وآخر، وهناك عوامل تؤثر في اختلاف المراتب، منها: -        ما ذكرناه فيما سبق من أن شكر المنعم تابع لمعرفته، فكلما ازداد الإنسان معرفة بالمنعم ازدادت مرتبة شكره له. فمقدار المعرفة يؤثر في مستوى الشكر ودرجته. -        الشكر هو الثناء على النعم، وهو تابع لطبيعة النعمة، فالنعم الظاهرية تختلف مرتبة شكرها عن النعم الباطنية. ومرتبة شكر النعم التي من نوع العلوم والمعارف تختلف عن مرتبة شكر النعم التي تعتبر فيضاً إلهياً متجلياً للإنسان، وهكذا كلما كانت النعم أعمق كلما اختلفت طبيعة الشكر. وإذا عرفنا أن هذه النعم بجميع مراتبها غير متوفرة سوى عند القليل من العباد، يتضح أنّ النهوض بأداء الشكر على جميع المستويات وبأعلى المراتب غير متوفر سوى للقليل من العباد المخلصين الذين وَصلوا إلى الكمالات الظاهرية والباطنية...   مقامات الشكر: الشكر يُعتبر عادة من المقامات العامة، ويذكر في سياقه كدليل عليه ضرورة مكافأة المنعم على إنعامه، ولكن الحقيقة أن أولياء الله خصوصاً الكامل منهم لهم شأن آخر في موضوع الشكر، فللشكر درجات ومقامات، وذكروا في الدرجة العالية منه وهي درجة مشاهدة العبد لجمال المنعم والتأمل فيه ثلاث مقامات: الأوّل: أن يشاهد المنعم عبوديةً فيستعظم نعمته، بمعنى أنّه عندما يشاهد هذه النعمة يشاهدها مشاهدة العبد الذليل لمولاه، ويستغرق في آداب الحضور ولا يرى لنفسه اعتباراً، فيستعظم النعمة ويجد نفسه غير مؤهل لها. الثاني: أن يشاهده حباً فيستحلي منه الشدة، بمعنى أنّه يشاهده مشاهدة الصديق لصديقه، فيستغرق في جمال هذا المحبوب، ويرى جميع أفعاله محبوبة يستمتع بها حتى وإن كانت شاقة ومجهدة. الثالث: أن يشهده متفرداً دون تعينات الأسماء، بمعنى أنّه يغفل عن نفسه وعن غيره، ولا يكون عنده مشهوداً إلا ذات الحق، من دون أن يرى نعمةً أو يشاهد شدة. إنّ جميع المقامات هي من السبل العامة في بداية الأمر، ولكنها في النهاية تتخصص لتصبح للخلّص بل للكاملين.   فضيلة الشكر في الروايات: فلنتم الكلام بذكر بعض أحاديث الشكر: عن أبي عبدالله (ع): "قال رسول الله (ص): الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر لصائم المحتسب، والمعافى الشاكر له من أجر كأجر المبتلى الصابر. والمعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع". وعنه (ع): "ثلاث لا يضر معهن شيء: الدعاء عند الكرب، والاستغفار على الذنوب، والشكر عند النعمة". وعنه (ع): "إنّ الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء فيوجب الله له بها الجنة. ثمّ قال: إنّه ليأخذ الإناء فيضعه على فيه فيسمي ثمّ يشرب، فينحّيه وهو يشتهيه فيحمد الله، ثمّ يعود فيشرب ثم ينحيه فيحمد الله، ثمّ يعود فيشرب، ثمّ ينحيه فيحمد الله، فيوجب الله عزّ وجلّ بها له الجنة". وحمد الله يساوي الشكر، وقد ورد في كثير من الروايات أن من قال "الحمد لله" فقد شكر الله. كما روي عن الصادق (ع): "شكر كل نعمة وإن عظمت أن تحمد الله عزّ وجلّ عليها". عن حماد بن عثمان قال: "خرج أبو عبدالله (ع) من المسجد وقد ضاعت دابته فقال: لئن ردها الله علي لأشكرن الله حق شكره. قال: فما لبث أن أُتي بها، فقال: الحمد لله. فقال له قائل: جعلت فداك أليس قلت: لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبدالله (ع): "ألم تسمعني قلت: الحمد لله". يفهم من هذا الحديث أن حمد الله سبحانه من أفضل وسائل الشكر باللسان. إن من آثار الشكر، زيادة النعمة ووفرها، كما صرح بذلك الكتاب الكريم: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7). فعن الإمام الصادق (ع): "من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، يقول الله عزّ وجلّ: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ).►   المصدر: كتاب الأخلاق (من الأربعين حديثاً)

ارسال التعليق

Top