• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مكانة العفة والحياء

مركز نون للتأليف والترجمة

مكانة العفة والحياء
◄لا شكّ أنّ الإنسان ذو بعدين مادي وروحي، وأنّ لكلٍّ منهما طريقة وأسلوباً يعمل الإنسان على تربيته وتنميته، وبهما تتقوّم إنسانية الإنسان، كما وتتفاوت نسبةً لطريقة الإشباع، وعملية بناء الذات، وتزكية وتهذيب النفس، وبالأخلاق الحسنة يتقوّى إيمان الإنسان، وتقوى إرادته وتزيد حصانته لنفسه، وتزيد مقدرته على كسب القيم والكمالات؛ ولهذا فإنّ تنمية الأخلاق في النفس الإنسانية لها أهمية بالغة في بنائها.

إذن، تتكوّن شخصية الإنسان ممّا يمتلكه من سمات وصفات أخلاقية. ولكلِّ إنسان "تميّزه عن غيره، ويُقال فلان ذو شخصية قويّة: ذو صفات متميّزة وإرادة وكيان مستقلّ". فكيان كلّ إنسان إنّما يتمثّل بما يمتلكه من صفات، ويُعرف كلّ إنسان بصفاته التي تُكوِّن شخصيته.

أمّا تعريفها من حيث المصطلح، فقد أشار علم النفس إلى أنّها: "نمط سلوكيّ مركّب، ثابت ودائم إلى حدٍّ كبير، يُميّز الفرد عن غيره من الناس، ويتكوّن من تنظيم فريد لمجموعة من الوظائف والسمات والأجهزة المتفاعلة معاً، والتي تضمّ القدرات العقلية، والوجدان أو الانفعال، والنزوع أو الإرادة، وتركيب الجسم، والوظائف الفيزيولوجية والتي تُحدِّد طريقة الفرد الخاصة في الاستجابة وأسلوبه الفريد في التوافق".

وهنا يبرز دور الأخلاق من خلال دعوة الإنسان إلى تكوين الملكات الراسخة في النفس، فلكي يتّصف الفعل الإنساني بالفعل الأخلاقي لابدّ من أن يتوفّر فيه شرطان:

1-  أن تكون النيّة لله تعالى.

2-  أن يكون صادراً عن إرادة الإنسان.

فالملكات منها الطالح ومنها الصالح، ولهذا على الإنسان أن يُفكّر فيها جيداً ويُدقِّق بها من أجل اجتثاث الأولى (الرذيلة) والقضاء عليها، وتقوية جذور الثانية (الفضيلة) للاستزادة منها. ويُطلق على هذه العملية بالتخلية والتحلية، وكلّ ذلك يكون وفقاً لشاكلته: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا) (الإسراء/ 84). فإن كانت شاكلته وملكاته وباطنه سيّئاً فإنّه لن يخرج إلّا نباتاً خبيثاً نكداً، وإذا كانت ملكاته طاهرة وطيّبة فإنّ نباته يخرج طيباً وطاهراً كما عبّر تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (الأعراف/ 58).

وفيما يلي رسم يُبيّن قوى النفس وحدّ الوسط والإفراط والتفريط فيها:

القوى

التفريط

الاعتدال

الإفراط

العاقلة/ الفكرية

البله

الحكمة

الجربزة أوالسفه[1]

الشهويّة

الخمود

العفّة

الشره

الغضبيّة

الجبن

الشجاعة

التهوّر

العدالة

الانظلام

العدالة

الظلم

 

فيصدر عن القوى أربع فضائل تُسمّى بأُمّهات وأصول لأخلاق الفاضلة، ويتفرّع عنها العديد من الفضائل الأخلاقية، ويصدر عن كلّ واحدة من هذه الأُمّهات رذيلتان فيُصبح المجموع ثمانية أصول للرذائل، ويتفرّع عن كلّ واحدة مجموعة رذائل أخرى.

"فحدّ الاعتدال في القوّة الشهوية – وهي استعمالها على ما ينبغي كمّاً وكيفاً – يُسمّى عفّة، والجانبان الخمود والشره، وحدّ الاعتدال في القوّة الغضبية هو الشجاعة والجانبان التهوّر والجبن، وحدّ الاعتدال في القوّة الفكرية يُسمّى حكمة، والجانبان هما الجربزة والبلادة. وتحصل في النفس، نتيجة اجتماع هذه الملكات، ملكة رابعة هي كالمزاج وهي التي تُسمّى عدالة، وهي إعطاء كلّ ذي حقّ من القوى حقّه ووضعه في موضعه الذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام".

إذن، تُمثِّل العفّة الأساس لمجموعة من الفضائل التي تتفرّع عنها، والتي لها دور أساس في بناء شخصية الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقية الإنسانية الفاضلة.

 

مرتكزات بناء الشخصية:

(الإيمان والعقل والحياء)

تتقوّم شخصية الإنسان بعناصر ثلاثة: الإيمان والعقل والحياء. ويمثّل العقل القوام الأساس الذي عليه ترتكز سائر العناصر، وقد أشارت الروايات إلى هذا الموضوع.

فقد روى الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ (ع) قال: "هبط جبرائيل على آدم (ع) قال له: يا آدم إني أُمرت أن أُخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: إنّي اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنّا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال فشأنكما وعرج".

إذن، بالعقل يُكتسب الدين والحياء وبه يُطاع الله تعالى، فعن الرسول (ص) أنّه قال: "ألا، وإنّ أعقل الناس عبد عرف ربه فأطاعه، وعرف عدوّه فعصاه، وعرف إقامته فأصلحها، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها". كما أنّه السبيل لكلّ خير، ولا يُدرك الخير إلّا به. وقد أكّد رسول الله (ص) ذلك بقوله: "الخير كلّه بالعقل ولا دين لمن لا عقل له". والحياء صفة تعمل على بناء إنسانية الإنسان ذكراً كان أم أنثى، وقد وردت روايات عديدة تصف الرسول والأئمة (عليهم السلام) بأنّهم كانوا أشدّ الناس حياء.

 

العلاقة بين الإيمان والحياء:

أكّدت الروايات على وجود علاقة بين الإيمان والحياء، وأنّ الحياء هو أساس له، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله: "لا إيمان لمن لا حياء له"، وأيضاً عن الرسول (ص): "الحياء هو الدين كلّه". وكلما زاد إيمان الإنسان كلّما ازداد حياءً، وكذا العكس كلّما نقص حياؤه فهو دليل على نقص إيمانه، وقد أشار الإمام عليّ (ع) إلى هذه الحقيقة: "كثرة حياء الرجل دليل على إيمانه".

تُبيّن الرواية الواردة عن الإمام الرضا (ع): "الحياء من الإيمان"، أنّ من يملك حياءً يملك ديناً وإيماناً، ومن لا حياء له لا دين له. كما أنّه إذا نقص الحياء فإنّ الإيمان ينقص بمقداره، والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء. ويُشير الرسول (ص) إلى كون الحياء والإيمان مقرونين في "قرن واحد فإذا سُلب أحدهما تبعه الآخر"، بمعنى أنّه من لم يكفّه الحياء عن القبيح فيما بينه وبين الناس، فلا يكفّه عن القبيح فيما بينه وبين ربّه تعالى، ومن لم يستحي من الله عزّ وجلّ وجاهره بالقبيح فلا دين له.

 

العلاقة بين العقل والحياء:

بما أنّ الحياء هو ترك القبيح، والقبيح هو مذموم عقلاً ومنهيٌّ عنه شرعاً، فإنّ هذا يوحي إلى وجود علاقة بين الحياء والعقل، إذ كلّما ازداد حياء الإنسان ازداد عقله، والعكس صحيح أيضاً، فكلّما نقص من حيائه نقص من عقله بهذا المقدار، ومن لا حياء له فلا عقل له. جاء عن الإمام عليّ (ع) قوله: "أعقل الناس أحياهم" وهو كذلك مفتاح كلّ خير، وسبب إلى كلّ جميل، وكلّ ذلك من العقل.

إذن، العلاقة بين العقل والحياء واضحة، لأنّ العقل يدعو إلى الطاعة والخير والحياء، وأنّ الحياء هو خُلُق حسن، وأنّ مَن يتّصف به يُعدّ مالكاً له. وقد عُدّ حُسن الخلق دليلاً على العقل، فقد ورد عن الرسول (ص): "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً". وأيضاً عن الإمام عليّ (ع): "أكملكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً".

فالعلاقة إذن ثلاثيّة، إذ إنّ كلّ واحد منها يؤثِّر ويتأثر بالآخر ويُكمله، كما إنّ نقصانه أو ضعفه يؤدّي إلى نفي أو نقص الآخر، فالعقل سبب لزيادة الحياء والإيمان، والإيمان سبب للحياء، والحياء مجلبة للدِّين.

 

العلاقة بين العقل والإيمان:

كما أنّ العقل يُعتبر القوام الأساس للإنسان، وبناء عليه تُلحظ فيه سائر الصفات والأخلاقيات، كذلك فإنّ الإيمان والدِّين الذي هو عبارة عن مجموعة تكاليف وسلوكيات، لا يكتمل ولا يستقيم إلّا بالعقل. فمن لا عقل له حتماً لا دين له، كما ورد عن الرسول (ص): "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له". بل جعلت كميّة العبادة ومقدارها حسب عقل المرء، فعنه (ص): "لكلّ شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربّه". وقد وصفت الروايات العاقل: بأنّه "لا يُفارقه الحياء".

وهو الذي يتجنّب ما يُسخط الله تعالى ويُبعده عن ساحة رضاه، وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): "العاقل من تورّع عن الذنوب وتنزّه عن العيوب".

فالعقل أحد مرتكزات الإيمان وكماله، فعن المعصوم (ع): "ثلاث من كنّ فيه كمل إيمانه: العقل والحلم والعلم".

 

العفة ومكانتها في بناء الشخصيّة:

 بما أنّ العفة تُمثّل إحدى أُمّهات الفضائل الأخلاقية الأربع الناتجة عن اعتدالٍ في قوى النفس، وأنّها جميعاً تُساهم في بناء إنسانية الإنسان من خلال اكتساب الملكات الفاضلة، فالعفّة تُساهم مساهمة فعّالة في بناء شخصية الإنسان من خلال ما يتفرّع عنها من صفات أخلاقية، وقد عدّها العلامة الطباطبائي إلى ثماني عشرة فضيلة، وكلّ مجموعة من هذه الفضائل تعمل على تهذيب جانب من شخصية المرء وتربيته، بحيث يؤدي افتقاد بعضها إلى خلل واضح فيها.

وبما أنّ العفّة تصدر عن القوّة الشهوية ولها حالتا إفراط وتفريط وهما الشره والخمود، فإنّه يصعب انقيادها للقوّة العاقلة فلا تأتمر بأوامر العقل ونواهيه، وإنّما بإمكان القوّة الغضبيّة قهرها وزجرها. فكان للصفات الأخلاقية الصادرة عنها، فضائل كانت أم رذائل، دور مهمّ وخطير في بناء أو هدم شخصيّة الإنسان، فهو سرعان ما يقع فريسة لملذّاته وشهواته ويستجيب للإغراءات الدنيوية. فإذا تبع شهوته كما جاء في الرواية أصبح أخسّ من الحيوان، والقرآن الكريم شبّه متّبعي الشهوات بالأنعام: (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179).

ولهذا عُدّت مجاهدة النفس عن الصفات الرذيلة وتحويلها إلى ملكات حسنة راسخة في النفس الجهادَ الأكبر. وهو أمر يحتاج إلى معرفة ومِران وممارسة، لا أثناء تحصيل الملكات فحسب، بل بعدها من خلال المواظبة على حفظها ومراقبتها من التزلزل والتبدُّل. وهذه الملكات الأربع الصادرة عن قوى النفس، وما يتفرّع عنها من ملكات، تستدعيها الطبيعة الفردية المجهّزة بأدواتها: "وهي كلّها حسنة لأنّ معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد".

وقد ذكر علماء الأخلاق الفضائل المتفرِّعة عن العفّة وأوصلوها إلى ستٍّ وعشرين فضيلة، وممّا ذُكر من فضائل العفّة: "الحياء، والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والمساعدة، والسخط، والظرف".

 

معاني هذه الفضائل:

1-     السخاء: هو وسط بين التبذير والتقتير، وهو سهولة الإنفاق وتجنُّب اكتساب الشيء من غير وجه ومبرّر.

2-     حسن التقدير: هو اعتدال في النفقات احترازاً عن طرفي التقتير والتبذير.

3-     الدماثة: حسن هيئة النفس الشهوانية في نحو انجذابها واشتياقها إلى اللّذات والمشتهيات.

4-     الانتظام: مناسبة الشيء للشيء الآخر.

5-     حسن الهيئة: محبّة الزينة الواجبة التي تميل إليها النفس.

6-     القناعة: حسن تدبير المعاش من غير خداع ولا طمع.

7-     الهدوء: سكون النفس ممّا تناله من اللّذات الجميلة.

8-     الورع: تزيين النفس بالأعمال الصالحة الفاضلة طلباً لكمال النفس وتقرّباً إلى الله من دون رياء.

9-     الطلاقة: المزاح بالأدب من غير فحش وافتراء.

10-الظرف: أن يعرف الإنسان طبقات الجلساء ويحفظ أوقات الأنس ويُعطي كلاماً لمن هو أهله من المباسطة في الوقت معه.

11-المسامحة: ترك الخلاف والإنكار على المعاشرين في الأمور الاعتيادية إيثاراً للحفاظ على لذّة المخالطة والعشرة.

12-التسخّط: عدم الاغتمام بالخيرات الواصلة إلى مَن لم يستحقّها وبالشرور التي تلحق مَن لا يستحقّها. قد أضاف العلامة الطباطبائي صفات أخرى وهي: الدعة، الوقار، الحرّية، المسالمة، حسن الكرم، الإيثار، المسامحة، النبل، المواساة.

وأما الحياء فرغم أنّه متفرِّع عن العفّة إلّا أنّه أصل لتسع فضائل، وجاء عن الرسول الأكرم (ص): "أما الحياء فيتشعّب منه اللّين، والرأفة، والمراقبة لله في السر والعلانية، والسلامة، واجتناب الشر، والبشاشة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته.

وأمّا الرذائل المندرجة تحت حدّي العفّة الإفراطي والتفريطي، وهما الشره وخمود الشهوة، فهي: "الوقاحة، التخنُّث، والتبذير والتقتير، والرياء، والهتكة، والكزازة، والمجانة، والعبث والتحاشي، والشكاسة، والملق، والحسد، والشماتة".

 

معاني الرذائل:

-         الوقاحة: هي لجاج النفس في تعاطي القبيح من غير احتراز من الذمّ.

-         التخنُّث: حال يعتري النفس من إفراط الحياء يقبض النفس عن الانبساط قولاً وفعلاً.

-         التبذير: إفناء المال فيما لا يجب وفي الوقت الذي لا يجب وأكثر ممّا يجب.

-         التقتير: الامتناع عن إنفاق ما يجب، وسببه البخل والشحّ واللؤم.

-         الرياء: التشبُّه بذوي الأعمال الفاضلة طلباً للسمعة والمفاخرة.

-         الهتكة: الإعراض عن تزيين النفس بالأعمال الفاضلة والمجاهرة بأضدادها.

-         الكزازة: الإفراط في الجدّ.

-         المجانة: الإفراط في الهزل.

-         العبث: الإفراط في العبث.

-         التحاشي: إفراط في التبرُّم بالجليس.

-         الشكاسة: مخالفة المعاشرين في شرائط الأنس.

-         الملق: التحبُّب إلى المعاشرين مع التغافل عمّا يلحقه من عار الاستخفاف.

-         الحسد: الاغتمام بالخير الواصل إلى المستحقّ الذي يعرفه الحاسد.

-         الشماتة: الفرح بالشرّ الواصل إلى غير المستحقّ ممّن يعرفه الشامت.

إذن، تُمثّل العفّة إحدى الفضائل الأربع والتي لها دور أساس في بناء شخصيّة الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقيّة الإنسانية الفاضلة.►

 

المصدر: كتاب العفّة والحياء/ سلسلة ريحانة


[1]- السفه: ويعنون به استعمال القوّة العقلية فيما لا ينبغي وكما لا ينبي، وسمّاه القوم الجربزة.

ارسال التعليق

Top