• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

منهاج المعرفة في القرآن الكريم

د. وجيه قانصو

منهاج المعرفة في القرآن الكريم
  مقدمة.. تشكل المناخات الاجتماعية والثقافية والظروف الزمانية والمكانية المتنوّعة بمجموعها البيئة التي تتولّد فيها معارف وأفكار مختلفة ونماذج سلوك وعادات متباينة، حيث يتشكل في كل مجتمع نظام مفهومي خاص تحدّد فيه قيمه، وترتب الأولويات، وتولد رؤية خاصة حول مظاهر الكون والحياة. ولا ينحصر الاختلاف بين المجتمعات بل يتعداها إلى الخلاف بين الأفراد، فتدخل العناصر الذاتية للفرد – من عوامل نفسية ومؤثرات بيئية – لتفرض نفسها على أداة الإنتاج الفكري والتحليل العلمي. ويتكون من ذلك شخصيات تتماثل من جهة وتتمايز من جهة أخرى، فيأخذ كل فرد موقعه وحركته وعلاقاته وفق ما يحمل من رؤية وفهم. ولسنا هنا لتبرير أو تعليل مظاهر الاختلاف، التي نراها طبيعية وفق التنوّع البيئي وتولّد نظم مختلفة من حيث المضمون والبنية، بل نودّ معالجة حركة الفكر بين الناس وتناقل الرؤى والمفاهيم والمناهج بين المجتمعات، وتحديد المقياس أو واسطة النقل التي تمكّن صاحب فكرة من نقلها إلى الآخرين، وصاحب رؤية ونظام من تبليغهما للناس، ولإمكان نقل نمط حياتي من بيئة معينة إلى بيئة أخرى، ولتكون التجارب البشرية في الماضي والحاضر قابلة للاقتباس أو النقد والرفض، فالمهم تشكيل قناة اتصال، وتركيب "جهاز" معرفي "للبث والالتقاط، وتحديد "الموجة" الناقلة للمعلومة من وإلى المحاور، والمطلوب تحديد القاسم المشترك بين الناس، الذي يمكّن للفكرة أن تتحرك وتستقرّ وتلتقي مع سياقٍ في مكان آخر من الأفكار لتركّب نتاجاً جديداً من المعرفة والفهم. إنّ التاريخ الإنساني يؤكد السياق الموحّد لحركة الإنسان رغم تنوّع تجلّياته وتفاوت ظروفه، فتبرز حالات التلاقح الفكري بين الأمم، والسريان للأفكار والعادات بين الشعوب، والتوارث للمناهج والتصوّرات بين الأجيال، والاقتباس لنماذج السلوك والعادات والنظم الاجتماعية. وهذا يؤكد أنّ التباين المنظور تقف وراءه ظاهرة موحّدة وأصل مشترك تُبنى عليه الفكرة، ويُركّب على أساسه للانتقال من جو ومناخ معيّن إلى آخر، بعد انسلاخه عن خصوصياته. إنّ قيمة الفكرة لا تقررها الظروف أو البيئة، رغم أنها تولّدت من رحمها، بل هي من مشخّصاتها، لأنّ البيئة والظروف تشكّل جزء موضوع القضية التي يقع عليها الحكم. ولا يمكن لموضوع أن يثبت حكمه بتعبير المناطقة، فكما أنّه لا يمكن لزيد مثلاً أن يثبت ذكاءه بوجوده أو بكونه حيواناً ناطقاً، لأن كونه إنساناً أو موجوداً لا يثبت ذكاءه، كذلك فإنّ الموضوع المتلبّس بظرف أو مناخ معين، لا يمكنه أن يثبت ما له من حكم أو صفة. ولا يتم ذلك إلا بآلة وطريقة خارجة عن ذات الموضوع ومجردة عن جملة الملابسات والمشخّصات الخارجية للموضوع ليمكن تحديد مدى تطابق الحكم مع الواقع أو الأمر نفسه. إنّ النظم المعرفية التي تكوّنت في الدائرة الذاتية للمناخ الخاص، وتستمد مشروعيتها من هذه الدائرة، تؤدي إلى توالد كيانات متوازية لا مجال للتداخل بين مفرداتها أو التركيب بين صورها، وتغدو كل فكرة أسيرة المناخ الخاص لا يمكنها أن تخرج من دائرته. عند ذلك تنتفي مرجعية الفكر، وضابط المعرفة، ومحدّد الصواب والخطأ، وتحصل حالة الاختلال الفكري والتأرجح الحضاري، ويتعرض البنيان الفكري للتآكل من داخله، لجمود حركته واهتزاز أسسه. فبدل التبادل المعرفي يتحوّل التخاطب إلى صدام وصراع لعدم وجود الأرضية المشتركة التي يُلتقى عليها. إنّ التأكيد على الأصل المشترك – وهو الإنسان المدرك المفكر – وعلى الآلة أو الضابطة الجامعة لنظم العلم، هو الضامن للحركة العلمية والمعرفية في التصاعد، لتتضاءل نسبة الخطأ في إصابة الواقع، ويمكن على ضوئه قياس المفاهيم والرؤى. وهو الذي يبرّر التحاور والتواصل بين الأفراد من جهة، والمجتمعات من جهة أخرى، رغم التباين في المناخات والأجواء الثقافية والتاريخية. وهو يسمح بقراءة ونقد أو اقتباس الأفكار والمناهج المتكوّنة في مناخ ثقافي معيّن من آخرين تكوّنت ثقافتهم وتبلور فكرهم في مناخ آخر. بل يمكن القول إنّ المناخ نفسه والبيئة التي تحكم الأفكار والتصوّرات، معانٍ قابلة للإدراك والتحليل، بل وحتى الاقتباس والتداول في مناخ آخر. وهذا يؤكد أنّ كل ما يقع في دائرة الادراك الإنساني والنشاط الفكري خاضع لنظام أو جهاز مستقل عن الموضوع الذي يجري عليه الحكم والظرف أو المناخ الذي يشخّص الموضوع ويحدده. هذا الجهاز يتساوى حضوره بين الناس، وعليه تدور صوابية الفكرة وخطأها، ومنه تتولد وتنتج المعرفة. لن ندخل هنا في مضمون الفكر والإدراك، بل سنعمد إلى تحديد الآلة والمقياس المشترك الذي يشكل التيار والمجرى الناقل للمعرفة والفكر في كيانات المجتمع وقناعات الفرد. فكما أن لكل علم أصوله وثوابته التي يرتكز عليها في بناء صرحه وربط مفرداته، فإنّ للتفكير والتخاطب المعرفي طرقه وأصوله وقواعده لا يمكن القفز فوقها ولا يمكن تحصيل معرفة أو إدراك وفهم ما يقوله الآخرون بدونها، تماماً كجهاز البث واللقط الاذاعي الذي يتطلب التعامل على موجة محددة، وضمن طاقة معينة، مع أجهزة (Filter) لتصفية المؤثرات الخارجية، فيتم عندها التقاط الموجة، وتحويلها إلى صوت أو صورة، وإلا غدت الصور والأصوات عبارة عن موجات سابحة في الفضاء سرعان ما تتلاشى تدريجياً بتناقص طاقتها وقدرتها على الاستمرار والتمدد.   - مناهج المعرفة: سنتعرض في كلامنا للمرجعية والضابط لحركة الفكر في ذهن الفرد ليتمكن من الربط بين أفكاره، ومن التخاطب والتواصل مع الأفراد لتتواصل أفكارهم وتتكامل معارفهم. وقد برزت على مر التاريخ اتجاهات عديدة لنظم المعرفة، يمكن تناول اتجاهين أساسيين تتفرع عنهما باقي المناهج والنظم: 1- الاتجاه الأوّل: يتمثل باعتماد العقل أساساً لقيمة المعرفة، ومرجعاً لتداول الفكر. والمقصود بالعقل اعتماد جملة العلوم الفطرية والبديهية الضرورية (التي لا تثبت بالبرهان ولا بالتجربة كقاعدة استحالة اجتماع النقيضين) ذات الدلالة والحجية الذاتية والتي تشكل الأساس لكل البناءات العلمية. فلا يمكن تحصيل معرفة أو علم إلا بانطباق هذه الأوّليات ومراعاتها. هذا من جهة المضمون الذي يحتوي مادة الفكر، ويقصد بالقعل من جهة أخرى جملة الضوابط والقواعد التي يمكن على أساسها الربط بين مسألتين لانتاج مسألة جديدة. وهذا يشكل آلة لنتاج المعرفة وحركة للفكر من المعلوم إلى المجهول، وهو ما يعبر عنه بالمنطق والعلوم الرياضية. وفي هذا الإطار نستطيع اعتبار التجربة الحسّية وما ينتج عنها من معارف من نتاج العقل. فالعلم التجريبي يعتمد في جوهره على عملية الاستقراء بانتقال الذهن من الجزء إلى المعنى الجامع للأجزاء وفق أصول منطقية معينة. وليس للحسّ دور في المعرفة إلا نقل الصورة المحسوسة بإحدى الحواس، لتكون النتيجة والحكم آخر الأمل للعقل الجرد عن الحسّ، فيتصرف في الصورة نوع تصرّف ويحكم عليها بمطابقتها للواقع وعدمه أو بمقارنتها مع صور أخرى. 2- الاتجاه الثاني: الذي يرى محدودية للعقل في تحصيل معارف عالية، لأنّ الإنسان عاجز عن الإحاطة بملابسات الأمور وظروفها. فلابدّ من اعتماد مصدر أرقى من البرهان والاستدلال والمقايسة العقلية، وذلك عن طريق الاتصال بمصادر معرفية ونظم كونية أكمل وأرقى بحيث يتسنّى للعارف أن يرى الأشياء على حقيقتها الواقعية ويحصل معاينة وحضور لذات المعلوم عند العالم دون حاجة للاستعانة بالجمل والعبارات والألفاظ التي تبقى عاجزة عن التعبير أو إيصال حقيقة الشيء للعالِ، بل كل ما يمكنه الاستدلال والبرهان واللفظ هو الإشارة إلى ظواهر الشيء وملابساته الخارجية دون الوصول إلى حقيقته وكنهه. هذه المعرفة تحصل بالاتصال والتعرّف على النظام الماورائي أو الغيبي، والترقي في مدارجه بقدر الاستعدادات الروحية والنفسية الممكنة، والاتصال يتم بالرياضات الروحية والمجاهدة النفسية، فتتخلى النفس عن نقصها، وترفع غفلتها، وتتظهر من دنس المادة والشهوة، عندها تتكشف أمام العارف الحقائق، وتُرْفَع الحجب والغشاوة، ويزول الجهل، وتحصل المعاينة والمشاهدة. وقد تتفاوت مستويات المعرفة باختلاف استعداد النفس ومستوى طهارتها، لقبول ما يلقى إليها من معارف، أو يفاض عليها من علوم. وكلما ازدادت شفافيتها، وتنزهت عن ملابسات المادة، أمكنها أن تتصل بعالم أرقى وأكمل وتتعرّف على حقيقة الوجود بشكل أشدّ وأكمل. والمعرفة التي يحصّلها العارف لا يمكن أن تنتقل إلى الآخرين بطرق البرهان والاستدلال المنطقي، لأنّ طرق تحصيلها كانت مزيجاً من معاناة نفسية، وإحساس معنوي ذاتي، لا يمكن نقلها إلى الآخرين إلا بأن يعيش الطرف الآخر التجربة نفسها والطريق ذاته. ولذا لا يمكن إرشاد السائل بطرق الوصول وأنواع الرياضات النفسية، فليس للسائل إلا الاتّباع والطاعة. هذان الاتجاهان سلكا مسلكَين متباعدَين على الأغلب في التاريخ، وأثار كل اتجاه إشكالات على الآخر، وظلّ الأمر كذلك رغم وجود مدارس معرفية تجمع بينهما، وفلاسفة حاولوا رفع التعارض وتأسيس المصالحة. فنجد بعضاً من أصحاب الاتجاه العرفاني وأهل المكاشفة يطرحون قضية عدم التداخل بين النظامَين، فلا يمكن لمسألة في أحد النظامَين أن تثبت أو تنفي الآخر، وذلك لأن موضوع نشاط العقل مغاير ومختلف عن موضوع المعرفة الكشفية أو الملهمة، فقضايا العقل على الغالب تتناول الأمور المحسوسة والظواهر المحيطة بالإنسان، وما كانت مواده كذلك كيف له أن يرتقي بالحكم على موضوعات أرقى وأكمل، وفاقد الشيء لا يعطيه. ثمّ إنّ العقل يولّد معارفه من قضايا معلومة سابقاً، فيستعين بها ليجري مقايسة معينة، وتركيباً مضبوطاً، فينتج قضية جديدة. وهذا بخلاف المعرفة الكشوفية التي لا تحتاج إلى استدلال أو إعمال فكر، بل طريقها تحصيل الاستعداد والقابلية والسعة للاتصال بمصدر العلم لتحصيل معرفة أرقى وأكمل مما سبقها، بخلاف القضية العقلية التي تبقى محكومة بطبيعتها ومصداقيتها ومقدماتها. كما قالوا. ونجد بعض من ينتسب إلى عالم المعقول يربطون ظهور طرق المعرفة العرفانية والكشوفية بمراحل التآكل للبنيان المعرفي للمجتمع، وبحالات السقوط الحضاري ورواج الخرافة والسحر والتنجيم، حيث يحاول أرباب هذه الصناعات استبعاد العقل عن مجال القناعات، وتداول الأفكار، وتأخذ طرق هذه الصناعات طريقها إلى قلوب وعقول الناس، ويتم على أساس ذلك اعتماد نظام معرفي يعتبر الماوراء ونظام الغيب وسبل الالهام والوحي والمنامات وغيرها طريقاً لقيمة الفكر، ومرجعاً لطرق المعرفة، عندها يتأسس نظام اللامعقول فيملأ دائرة الكر، ويثبّت أركانه في ساحة المعرفة، وتبنى على ذلك طرق حياة وسلوك، تؤدي إلى خلل في حركة الحياة، واضطراب في نظام المجتمع، وقلقٍ في ذات الفرد، عندها يحصل السقوط وتعمّ الفوضى، كما ادّعوا. إنّ ادعاءات الطرفين، ليست نابعة من نقاش مخلص، ودافع لبلوغ الحقيقة، بل هي كما يحكي التاريخ انعكاس لصراع سياسي بين أطراف وظّفت الفكر والمعرفة في صراعها كطريقة أيديولوجية لنقض أو هزم الطرف الآخر، وحين يدخل الصراع السياسي في الدائرة المعرفية، فإن كل شيء قابل لأن يحمل نقيضه أو تتغير ماهيته لتخدم حركة الصراع الدائر. وقد تكون الادعاءات ناشئة من خلط في فهم العلاقة بين نظامَى المعرفة كما سيتضح. فلنحاول القاء الضوء على المنهج القرآني في طرق المعرفة، وطرحه لمرجعية الفكر وأسلوب تداول المعلومات.   - المنهاج القرآني: لا ريب أنّ الحياة الإنسانية حياة فكرية. ومن لوازم ابتناء الحياة على الفكر أنّ الفكر كلما كان أصحّ وأتمّ، كلما كانت الحياة أقوم. وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز – بطرق مختلفة وأساليب متنوعة – بالدعوة إلى الفكر الصحيح، وترويج العلم كقوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ...) (الزمر/ 9)، وقوله تعالى: (.. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...) (المجادلة/ 11). ويتعرض القرآن الكريم بمنطقه لجميع شؤون الحياة، من غير أن تتقيد بقيد أو تشترط بشرط. ومن الواضح أنّه يحثّ حثّاً بالغاً على تعاطي العلم، ورفض الجهل في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والحيوان والنبات والإنسان من أجزاء عالمنا، وما وراءه من الملائكة والشياطين واللوح والقلم ليكون ذريعة إلى الله سبحانه، وما يتعلق بسعادة الحياة الإنسانية. والقرآن الكريم مع ذلك يذكّر أن ما يهدي إليه هو الطريق الأقوم والصراط المستقيم البيّن الذي لا اختلاف فيه ولا تخلّف، أي لا يناقض الحق المطلوب، ولا يناقض بعض أجزائه بعضاً. قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) (الإسراء/ 9). وقال تعالى: (.. قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة/ 15-16). ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذي يدعو إليه، إلا أنّه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية وإدراكهم المركوز في نفوسهم. ولو تتبعت آيات القرآن لوجدت ما يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل، أو توحي إلى النبي (ص) الحجة والدليل لاثبات حق أو إبطال باطل، وتحكي الحجة عن الأنبياء والرسل. قال تعالى: (.. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ...) (المائدة/ 17). وقال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...) (إبراهيم/ 10). وقال تعالى: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا...) (طه/ 72). ولم يأمر الله سبحانه عباده في كتابه أن يؤمنوا به أو بشيء مما هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمى وهم لا يشعرون. وقد علّل سبحانه الشرائع والأحكام التي جعلها لهم بأمور تصلح للاستدلال والاحتجاج. قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت/ 45). وقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (المائدة/ 6). هذا الفكر الصحيح الذي أحال عليه القرآن الكريم، ولم يعيّنه ولم يعتبره أساساً لما يدعو إليه من حق أو نفع وينهى عنه من باطل أو ضرر، إنما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة مما لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ولا يختلف فيه اثنان. ثمّ نجد أنّ القرآن يستعمل الصناعات المنطقية من برهان وجدل وموعظة، ويدعو الأُمّة التي يهديها إلى أن يتبعوه في ذلكن فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيات الخارجية في باب العمل، ويستدلوا بالمسلّمات في غير ذلك أو بما يعتبر به. هذه المعارف البديهية المركوزة في النفس لا يرتاب فيها إنسان ذ فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية، لاختلاط في الفهم أو لعدم تعقل هذه الأمور الضرورية. ولو راجعنا جميع الشبهات التي أثيرت على بديهيات العقل أو طريقة النتاج المنطقي لوجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم وآرائهم على مثل القواعد المقرّرة في المنطق والرياضيات. وهذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم بصحة الأصول والقواعد العقلية، مسلّمون لها، ويستعملونها في محاوراتهم وبناءاتهم العلمية. ومن جهة ثانية، يؤكد القرآن الكريم على وجود عالم ما وراء الحس، له نظام خاص، يتداخل بطريقة ما مع عالمنا المشهود، ولهذا العالم الماورائي طبيعة مختلفة عما نشهده في عالمنا المحكوم بالمادة. فالاختلاف لا بنحو التعارض والتزاحم، بل بنحو طولي، وبمثابة نظام علل تترتب فيه أجزاء الوجود كله، لترجع آخر الأمر إلى تقدير واحد ونظام واحد وحركة متناسقة بتدبير حكيم خبير. قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر/ 4-5). وقال تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج/ 4). وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر/ 21). إضافة إلى ارتباط عالمنا في نظامه وحركته بالعالم العلوي أو الماورائي، أثبت القرآن الكريم إمكان الاتصال بذلك العالم والتعرّف على نظامه من خلال الكشف أو الإراءة أو الوحي وغير ذلك. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام/ 75). وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (الجن/ 26-27). وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص/ 7). وما أثبته القرآن الكريم للاتصال الماورائي وإمكانات الكشف أو المعرفة الغيبية ليس بنحو الفوضى ونقض العقل وطرق الاستدلال، بل لهذا الطريق سبله وأصوله وقواعده، بيّنها القرآن الكريم في مواضع متعددة. حيث لا تتم معرفة بدون مراعاتها، وجاءت بطبيعتها موافقة لمنهج وطرق العقل السليم. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة/ 24)، حيث علّق الهداية على الصبر. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69)، حيث أنّ الجهاد في الله المصاحب للإخلاص له يستتبع الهداية إلى سبيل الله. وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام/ 122). وفي الحديث: "من أخلص لله أربعين يوماً وليلة أجرى الحكمة على قلبه وأنطق بها لسانه...". فهنا حقيقة قرآنية لا مجال لانكارها، وهو أن دخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهية وتقرّبه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتحان له باباً إلى ملكوت السماوات والأرض، يشاهد منه ما خفي على غيره من آيات الله الكبرى وأنوار جبروته التي لا تطفأ. وفي الحديث عن النبي (ص): "لولا تكثير في كلامكم، وتمريج في قلوبكم، لرأيتم ما أرى، ولسمعتم ما أسمع". وعن الصادق (ع): "لولا أنّ الشياطين بحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض". وقال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر/ 99)، حيث فرّع اليقين على العبادة. وكذا قوله تعالى: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29). ولا ينافي ثبوت هذه الحقيقة ما قدّمناه من أنّ القرآن الكريم يؤيد طريق التفكّر الفطري الذي فطر عليه الإنسان وبنى عليه بنية الحياة الإنسانية. فإن هذا طريق غير فكري، وموهبة إلهية يختص بها من يشاء من عباده والعاقبة لمتقين، فلا تنحصر المعرفة بطرق الاستدلال أو البرهان المعهودة. ثمّ إن ما ادّعي من تنافي أنظمة المعرفة، وعدم انطباق قواعد العقل والبديهيات الفطرية على العلوم والمعارف الماورائية ليس في محله. فالبديهيات منطبقة في كل ميدان لتحصيل العلم، وبدونها لا يمكن اثبات أو نفي معرفة، وكذلك فإنّ القضايا المتحصّلة بالعالم العلوي تبقى في دائرة استخدام العقل يستعملها كمقدمات لتحصيل علوم ومعارف وأحكام جديدة. وحتى المعجزة التي دلّ القرآن الكريم على ثبوتها من الأنبياء والأولياء الصالحين، وأكّد تحققها (بمعنى الأمر الخارق للعادة الدالّ على تصرّف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل) هذه المعجزة تثبت أموراً وحوادث وإن أنكرتها العادة واستبعدتها، إلا أنها ليست أموراً مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يُبْطلُ قولنا: "الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه". وقولنا: "الواحد ليس نصف الاثنين"، وأمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات، فلو كانت المعجزات ممتنعة بالذات، لم يقبلها عقل عاقل، ولم يستدل بها على شيء، ولم ينسبها أحد إلى أحد. بل إنّ المعجزة جاءت في طريق البرهان، والاستدلال العقلي لحجية دعوى النبي أو الرسول، عن طريق التأكيد أن ما جاء به ليس من نظام مشهود محسوس بل من عالم وراء الطبيعة. وليس اثباتنا لنظام العقل أو امكان المعرفة الكشوفية، تأييداً للمذاهب العقلية والعرفانية أو الصوفية المتعددة. فإن في كثير منها الشطط في آرائها، والزلل والانحراف في مسلكها. بل نريد التأكيد على إمكان تحصيل هذه المعارف، وأن هفوات وسقطات وانحراف المنتسبين إلى مذهب أو فنٍّ ما لا يحمل على عاتق الفن والصناعة، بل يحمل على قصور الباحثين في بحثهم. إنّ القضية المحصّلة بطريق الاستدلال والبرهان من معارف سابقة، أو بطريق الالهام والمكاشفة الناتجة عن رياضات روحية ومعاينة أو مشاهدة ذاتية، خاضعة بطبيعتها لحكم العقل، وله أن يتصرف بها نوع تصرف، فيركّب منها مع قضايا أخرى معارف جديدة. وتبقى كل القضايا تحت حكم البديهيات الفطرية والضرورات النظرية، سواءً أكانت القضية متعلقة بعالمنا المشاهَد أو العالم الماورائي. كما أنّ العوالم المتعددة في الوجود بالرغم من اختلاف خصائصها وتنوّع وظائفها، إلا أنها في نهاية أمرها خاضعة لنظام واحد – وحركة واحدة – تترابط فيه الأجزاء المختلفة، بحيث تعبّر عن نظام طولي مترتب. كذلك فإنّ النظام المعرفي – الذي على أساسه تحصّل المعرفة وتنتج العلوم – له نظام العقل وطرقه، وله حضوره في كل العوالم وهو شاهد على كل الحقائق الواقعة موضوع إدراك ومعرفة للإنسان، سواء كانت بطريق الاستدلال أو بطريق المكاشفة والعرفان. إنّ إعجاز العقل والثلث في قدرته على الحكم على معرفة معيّنة، هو شك في هذه المعرفة نفسها، وإعجاز لثبوت أي حقيقة يمكن أن نعرفها أو ندركها بأي طريق أتت، وفي أي عالم كانت.   - ثمرة البحث: مما تقدم يتبين لنا الأمور التالية: 1- إنّ سيرة الأنبياء والرسل (ع) جرت في احتجاجهم واقناعهم على مراعاة بديهيات العقل والمرتكزات الفطرية وأساليب البرهان والاستدلال المنطقية السليمة. وشملت هذه السيرة حقائق العالم المشاهَد والعالَم الماورائي. رغم أنّ للأنبياء والرسل (ع) طرق اتصالهم الحاصلة بالمكاشفة والرؤية العينية للأشياء، وكانوا (ع) مستغنين في تحصيل أكثر معارفهم عن أساليب التفكير والتحصيل العلمي المتداول بين الناس، ومع ذلك اعتمدوا في تبليغ رسالاتهم على العقل. 2- إنّ المعجزة المثبتة للأنبياء والرسل والصالحين ليست لنقض ضرورة العقل، بل في سياق برهاني للاستدلال على صحة الرسالة والدعوى، فهي بالتالي لإقرار طرق العقل في إثبات الحقائق. 3- العرفان والعلوم الكشوفية بالرغم من اختلاف طرق تحصيلها عن الطرق الاستدلالية المعهودة بين الناس، إلا أنها تقع مادة للإدراك والتحليل العقلي، فيجري العقل فيها نوعاً من التصرف، ولابدّ في اثباتها للآخرين من مراعاة طرق التحليل والبرهان المنطقي، وإلا كانت حجة على صاحبها وثابتة له فقط. 4- العقل هو المشترك بين كل الناس. وعليه يدور مدار إثبات واستنتاج الحقائق، رغم تنوّع مواد الاستدلال، فمنها ما يحكي ويكشف نظام العالم المحسوس، ومنها ما يحكي نظام عالَم ماوراء الطبيعة، وهي جميعها مواد قابلة لأن يركّب بينها أو يفكّك بين أجزائها بطريق العقل ليحمل الآخرين على التسليم بما يراد اثباته والاقرار بما يُدّعى. 5- العوالم المختلفة مادية كانت أم غيرها، منسجمة مترتبة ترتّب الأسباب والعلل، لا تناقض أو تباين في نظامها أو حركتها، والطريق الوحيد نظامه هو بديهيات العقل، وقواعد الاستدلال والبرهان المنطقي، التي تبقى حاضرة شاهدة وحجمة في كل مراحل التحصيل والادراك.   - مصادر البحث: 1- الميزان في تفسير القرآن للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الأجزاء 1، 2، 5، 6. 2- نهاية الحكمة، للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي أيضاً. 3- سلسلة كتب الشهيد مرتضى مطهري.

ارسال التعليق

Top