• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وقاية المجتمع من الترف

أحمد الملّا

وقاية المجتمع من الترف

◄غالباً ما ينتشر الترف – كمشكلة اجتماعية حضارية – في مجتمع لا تسوده المبادئ والقيم، فيرى المال صنماً والحياة هدفاً فيقف أمام الدنيا ذليلاً خاضعاً لا يستطيع مواجهتها ولا تحديها، فتنعكس على حياته بالهزائم النفسية والاجتماعية، والحياة ليست دائماً كما يريدها الإنسان فتارة تكون لك وتارة تكون عليك كما في الحديث:

"الدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإن كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر".

فإذا اعتاد الإنسان الحياة المترفة أي حياة اللامبالاة بالمبادئ والقيم.. حياة الانغماس الكلي في الدنيا، فإنّه يفقد السيطرة على نفسه.. ولا يستطيع مقاومة الأيام العصيبة في الحياة فيكون مسلوب الإرادة، ضعيف الشخصية، وهذا ما يريده الاستكبار منا انّه يريد أن يخلق فينا أسراً ضعيفةً وأناساً عاجزين يملون المشاكل ويرضخون للانحراف ويميلون إلى الراحة والسكون الزائف. انّ رسالة السماء تدعونا لبناء الصرح الرسالي المؤمن والقادر على مواجهة التحديات وصدها بكل عزم، والصمود أمام الموجبات المادية والأهواء الدنيوية عبر بناء تلك الشخصية الرصينة في أوساط الأسرة المتدينة القادرة على تجاوز المشاكل وبناء الشخصية الرسالية في الوسط المترف، يقول الإمام أمير المؤنين عليّ (ع):

"إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعان على نفسه واستشعر الخوف.. وباشر روح اليقين واستلان ما استوعره المترفون".

فلمواجهة الحياة المترفة ومقاومتها لابدّ من الآتي:

 

أوّلاً: تحصين الأسرة:

إنّ الأسرة هي المنبع الطبيعي والفطري في تغذية وبناء الشخصية. والتعامل مع الواقع الخارجي، فإذا لم تستطع الأسرة بناء أسس التعامل مع الحياة القائمة على الاعتدال والاستقرار والأمن وانارة الطريق المظلم للفرد فلابدّ أن تنتج أفراداً يطغى جانب من حياتهم على الجوانب الأخرى.

عندما نرى الإنسان قد طغى وأسرف وتمرد على الواقع يجب أن لا ننظر إليه كمشكلة آنية أفرزتها الظروف الحالية. اننا يجب أن نعالج جذور المشكلة والتي من أبرزها علاج بناء الأسرة.. لكي نوقف النزيف أوّلاً ثمّ نعالج الجرح.. كيفية تحصين الأسرة؟

كثير من الأسر اليوم ينصب اهتمامها على الأكل والملبس والماديات، بينما تهمل الأبناء دون رعاية ودون الاهتمام الكافي في بناء شخصية الطفل والاقتراب منه وتغذيته بالفضائل والخصال الحميدة منذ صباه، وهذا لا يتم إلا عندما نعطي الابن الأهمية الأولى في حياتهم لكي يحس بأن له كياناً ووجوداً يحترم نفسه ويقدر شخصيته، فيجب اشعار الأبناء بدفء الانتماء الأسري.. كما علمنا الإمام عليّ (ع) حين خاطب الإمام الحسين (ع): "بل وجدتك عليّ حتى كان شيئاً لو أصابك أصابني وكان الموت لو أتاك أتاني فعنايتي في أمرك ما يعنيني في أمر نفسي". عندما يحس الطفل بهذا القرب والانتماء يكون مهيأ لتقبل التوجيه والنصح.. ان عناية الأسرة بابنائها وخلق أجواء من الحنان والاهتمام المتبادل والاتزان في الحق والعطف لا يفسح المجال لثورة الابن على الواقع الذي يعيشه، فيتمرد على الأسرة ثمّ المجتمع فيطغى ويسرف في الافساد والترف. كان رسول (ص) يحمل سبطيه الحسن والحسين – عليهما السلام – على كتفيه ويقول:

"هذان ريحانتي في الدنيا، من أحبني فليحبهما".

كما انّ البحوث التربوية الحديثة أثبتت أن رجال العلم والأخيار الصالحين إنما يأتون من أسر يسودها الود والمحبة وكما أنّ الأشرار والمنبوذين والمفسدين يأتون من الأسر المنحلة والمفككة ومن الذين لا يعيرون أبناءهم أي اهتمام. فالأسرة القائمة على روح الاعتدال في المعيشة والاحترام المتبادل وإشباع الغرائز الاجتماعية في الإنسان لا يسودها الطغيان والترف، ولا يجب أن تقف الأسرة عن دورها الرئيسي عندما تهيىء القواعد الأولى في التربية والبناء وتترك أبناءها في سن الرشد ليعرفوا الزمان والواقع دون مراقبة وتوجيه. فكثير من الأسر تهمل أبناءها عندما يصلون إلى السنين الاولى من الحياة الاجتماعية.. انّ هذا الأمر يجعل الفرد ينخرط في وسط مترف أو مفسد أو منحرف فعندما لا يستطيع الخروج مما يعانيه من مشاكل يطغى ويتمرد على المنزل، كما تشير الاحصائيات الواردة من الغرب وخاصة أمريكا عن تفاقم جرائم الأبناء لآباءهم وحتى قتلهم.. ففي الآونة الأخيرة ونتيجة اهمال الآباء لأبنائهم أخذ الشاب ينحرف عن حياة الأسرة ويحس بالنقص والفشل نتيجة الحياة المترفة وعدم وجود الموجه المرشد فينتقم من والديه. إذن لابدّ من استمرار التوجيه والنصح والرقابة حتى لا ينفلت الابن عن مؤسسة الأسرة فيتخبط لنيل السعادة وينحرف في وادي الرذيلة والترف فهو لا يستطيع أن يميز الخير من الشر. فحينما يرتكب القبيح ويرى غض البصر أو التجاهل من الوالدين يتمادى في الطغيان حتى يقع فريسة الترف.. ومن المؤسف أن هذا الاهمال في رقابة الأبناء أدى إلى التسيب والانحلال حتى أصبح التهور والشذوذ طابعاً لهم في كثير من سلوكهم وطغت ظاهرة الترف على حياتهم.

 

ثانياً: التربية الإيمانية:

إنّ الهوى والغرائز الشهوانية في الإنسان هي من أقوى وأخطر الغرائز الكامنة في الإنسان وهي بداية طريق المآسي والمشاكل.. فالميول المكبوتة عندما لا ترى استجابة صحيحة ورشيدة لهدايتها تتفجر في الإنسان عقداً وانحرافات عظيمة تتجه بالإنسان نحو الترف.

"مثل الدنيا كمثل الحية: لين سمها، قاتل سمها".

إنّ أساس الانحراف وطغيان الإنسان يأتي من تعلق قلب الإنسان بالدنيا كما يقول الرسول (ص).

"حب الدنيا رأس كلّ خطيئة".

إذن لكي نقف سداً أمام مغريات الدنيا ولكي نوقف نزيف الترف في حياتنا لابدّ أن تكون البنية الأساسية للأسرة قائمة على الإيمان والتقوى والاعراض عن التعلق بالدنيا.

 

ثالثاً: الانفاق والإحسان:

انّ الترف كظاهرة اجتماعية عندما تطغى على شخصية الإنسان تفقده الإحساس باخوانه في الدين والخلق وتنمي في الإنسان الأنانية والفردية في العيش الرغيد.. فلكي نتغلب على هذه الحالة الشاذة السلبية لابدّ لنا من مقاومة الرؤية الأنانية فينا عن طريق الانفاق والإحساس. فيقول الله تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل/ 90).

الانفاق والإحسان ليس بمعنى إعطاء ما يزيد عن حاجتنا بل اعطاء ما نحب ونرغب، لأنّ الإنسان متعلق بالدنيا فإذا أراد التجرد منها يجب أن تكون لديه إرادة التخلص من التعلق فيها عبر الانفاق والله تعالى يقول:

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92).

فذلك يبني في الإنسان روح تحسس آلام الآخرين والعطف عليهم ومساواتهم فيعيش آلامهم ومصائبهم.. لقد كان النبيّ سليمان ملكاً على الخلائق كلها يعرف سرهم ولغتهم.. وكان مع كل هذه الثروات والجاه، يفرش الطعام لآلاف الناس ليأكلوا على مائدته بينما كان هو يأكل خبز الشعير مع التمر وذلك من كد يمينه وليس من خزائن الدولة. هناك حقيقة وسنة من سنن الحياة إذا استوعبها الإنسان فلا يقتر ولا يسرف إنما إذا لم يعيها فإن مصيره الحياة المترفة.. وهي انّ الإنسان بذاته لا يملك ملكاً ذاتياً فهو يولد عرياناً ويذهب من هذه الدنيا عرياناً. والأمانة التي بيده اما هو مفارقها أو هي مفارقته. فلا تبقى وتخلد معه كما لم تخلد وتبقى مع غيره من السلاطين والملوك.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (الرّوم/ 9).

فلكي يتغلب الإنسان على الترف يجب أن يواجه ويتحدى ضغط الترف بالعطاء والانفاق على المساكين والمحتاجين والعاملين، وان يبحث عنهم لكي يطهر نفسه من التعلق بالدنيا وزينتها وهذا لا يعني البذل والسخاء في الدنيا انما لله وفي الله. فكلما كان عطاء الإنسان في سبيل الله كان تقربه إلى الله وتباعده عن الدنيا، وزينتها وان أكثر الناس قرباً من الله هو أكثر الناس بذلاً وسخاءً فكما يقول الرسول (ص):

"ما جعل الله أولياءه إلا على السخاء وحسن الخلق".

صحيح أنّ الإحسان والانفاق يدفع الإنسان إلى نكران الذات ونبذ الحياة المترفة انما في الوقت نفسه يجب أن لا يكون ذلك منة على الله والمؤمنين فلا يدعوه ذلك إلى التفاخر والعجب بنفسه فيتعالى عن بني خلقه حتى يدعوه ذلك إلى الكبرياء والتفضل على الناس. فعن الرسول (ص) قال:

"انّ العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".

فلا يقول كما قال صاحب الجنتين في سورة الكهف:

(أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف/ 34).

فهذا ليس فقط يفسد العمل انما ينمي روح التعالي والانفة وبالتالي الترف في الحياة.

 

رابعاً: الشكر:

أنّ الذي يطغى ويترف في الحياة كلّ اعتقاده بأنّ هذا من كد يمينه وعرق جبينه وبالتالي هو حر في التصرف فيما يملك كما يهوى ويرغب. بينما لو تبصر قليلاً في الوسائل التي أتت له بالمال من عقل وصحة وقوة. لاكتشف أن كلها من نعم الله علينا فنحن لم نولد وبيدنا صكوك الملايين والظروف المادية المتوفرة كي نسرف ونترف في صرفها. بل هي أمانات وعهود وابتلاء لنا كيف نستطيع التصرف فيها. الله سبحانه وتعالى يقول:

(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن/ 15).

هذا اختبار واستدراج في كيفية التعامل مع الثروة أو المنصب أو القوة..

إذا آمنا بحقيقة هذه النعم من الله وبالتالي نشكر الله على هذه الخيرات ونبذلها لكي نكسب رضوان الله والآخرة نجحنا وإلا سوف تكون نقمة علينا وتجرنا المعاصي إلى حياة البذخ والترف.

يقول الإمام عليّ (ع):

"إذا اتتكم أطراف النعم فلا تردوها بقلة الشكر".

ويقول الباري عزّ وجلّ:

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم/ 7).

هناك علاقة طردية بين الشكر والنعم. بمقدار ما يشكر الإنسان تدوم وتزداد النعم (وبالشكر تدوم النعم).

وتارة يكون الشكر قلبياً بأن يؤمن الإنسان ان كل النعم والخيرات التي بيده هي من عند الله، فالإنسان يولد عرياناً ويموت هكذا فالله هو الرزاق والمنعم والمحسن.. وما النعم التي بيدنا إلا أمانات، سوف نحاسب عليها بكل دقة.

(وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل/ 114).

كما قال داود (ع):

"وشكري لك نعمة منك توجب الشكر".

وتارة يكون الشكر باللغة كما يقول الحكماء: الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم. بان نتذكر وننبه أنفسنا بنعم الله تعالى وتشكره بألسنتنا وما مستحباب الأكل والشرب من الابتداء بالبسملة والانتهاء بالحمد إلا تذكرة دائمة لنا بالشكر.

"ثبتوا النعم بالشكر".

انّ الشكر اللفظي إنما يعزز الشكر القلبي وينميه، فكما يقول الإمام عليّ (ع):

"إذا قصرت يدك عن المكافأة فأطل لسانك بالشكر".

فالذي يديم الشكر على نعم الله لا يغفل عن ذكر الله والإحساس بالنقص والعجز أمامه وبالتالي لا يفخر ولا يغتر بالأموال التي بين يديه فلا يترف..

"وتمام الشكر قول الرجل الحمد لله رب العالمين".

كما جاء عن الإمام الصادق (ع): وتارة يكون الشكر شكراً عملياً. كان الرسول (ص) قد أرهق نفسه في الصلاة والعبادة والقيام وفي إحدى الليالي قالت له عائشة: يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى.

(طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2).

بالشكر العملي يتصاعد الإنسان إلى نكران الذات بالعطاء والانفاق في سبيله كما في الحديث الشريف.

"أفضل الشكر الانعام بها"

فالنعم ليست بيد الإنسان لكي يحافظ عليها انما هي بيد الله يعطيها لمن يشاء وينزعها ممن يشاء وعندما يكون الإنسان موقناً بأن كل ما لديه من الله فلا يتردد لحظة في الشكر والعطاء والانفاق.. وعندما يعمر الإنسان حياته بالشكر القلبي واللفظي والعملي، يعيش في ظل النعم الإلهية ويكون شاكراً في كلّ حال. ما ينزع حب المال والتعلق بالدنيا من قلبه وسلوكه فلا يقدس الثروة ولا يعبد المنصب ويشفق على الفقراء، كما يجب أن تعرف بأنّ التوفيق للشكر كذلك من نعم الله التي تستحق ان يشكر الله عليها لذا ورد:

"إنّ الله أوحى إلى موسى (ع) يا موسى اشكرني حق شكري، فقال يا رب كيف أشكرك حق شكرك، وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به عليّ؟ فقال يا موسى الآن شكرتني حيث علمت أن ذلك مني".►

 

المصدر: كتاب سرّ النجاح في شخصيتك

ارسال التعليق

Top