• ٣٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٥ | ١٠ رجب ١٤٤٧ هـ
البلاغ

دع فوضاك تخبرك من أنت

دع فوضاك تخبرك من أنت

تخيل معي مكتباً، ليس بالضرورة ذلك المكتب اللامع في إعلان تسويقيّ، بل مكتباً حقيقياً يعكس حياة صاحبه اليومية.

كومة من الأوراق المتراكمة في زاوية، أقلام مبعثرة بلا نظام، كتاب مفتوح على صفحة التمس العقل عندها قدرًا من الراحة، أكواب قهوة فارغة هنا وهناك، وربما بعض الأشياء الشخصية التي لا تبدو مرتبطةً بالعمل على الإطلاق. للناظر العابر، قد يبدو هذا مجرد مشهد للفوضى أو الإهمال.

لكنّ للعين التي تتجاوز السطح لترى العمق، هذا المكتب ليس مجرد سطح خشبيّ مغطّى بالأشياء، بل هو لوحة تجريدية تشكّلها فوضى محسوسة، تحكي بصمت قصةً عن صاحب المكان. تخبر عن أولوياته (أو غيابها)، عن مستوى التوتر الذي يعيشه، عن المهام التي يؤجّلها، وعن طبيعة تدفق أفكاره التي قد تكون أشبه بتلك الكومة من الأوراق غير المنظمة. هذا المكتب ليس مجرد مكان للعمل، بل هو مرآة تعكس جانبًا من نفس صاحبه، لغة يتحدّث بها اللاوعي عن حالة الذات الداخلية.

ظاهرة الفوضى لا تقتصر على المكاتب فحسب، بل تتجلّى في مساحات مختلفة من حياتنا، من أدراج المطبخ المكدّسة، إلى خزائن الملابس التي تنفجر بالأغراض غير المرتبة، إلى جداول أعمالنا المتشابكة التي تفتقر للتنظيم، وحتى في تدفق أفكارنا المضطرب الذي يعاني من تشتّت مستمر. ننظر إلى هذه الفوضى غالبًا على أنّها مشكلة خارجية بحاجة إلى حلول عملية وسريعة (ترتيب، تنظيف، تنظيم)، ولكنّنا نغفل عن كونها مؤشرًا عميقًا لحالات نفسية كامنة في أعماقنا.

الفوضى في حياتنا هي أشبه بـمؤشر نفسيّ صامت، لغة غير لفظية تتحدّث عن ذواتنا بطرق قد لا ندركها بشكل واعٍ. فما الذي تخبرنا به فوضانا عنّا؟

قد تكون الفوضى مؤشرًا على الإرهاق أو الضغط النفسي، فعندما نشعر بأنّ ماكينة الحياة تفوق طاقتنا على التحكّم بها، قد ينعكس ذلك في عدم قدرتنا على التحكّم في بيئتنا المحيطة المباشرة. تراكم الأشياء والمهام المعطّلة في مساحاتنا قد يكون تجسيدًا مرئيًا لشعور داخليّ بالارتباك وعدم القدرة على المواجهة.

قد تكون دليلًا على تجنّب بعض المهام أو المشاعر. كومة الأوراق تلك على المكتب قد تحتوي على فواتير متأخرة أو مشاريع مرهقة يتمّ تجنّب التعامل معها. الفوضى هنا ليستْ مشكلةً بحدّ ذاتها، بل هي نتيجة لتأجيل المعاملة مع ما يمثّل ضغطًا نفسيًا.

قد تشير إلى صعوبة التخلّي عن الماضي أو عدم القدرة على التعامل مع التغيير. الاحتفاظ بأشياء قديمة لم تعدْ تستخدم، تراكم الهدايا والتذكارات بلا مكان مناسب لها، قد يعكس صعوبةً في المضيّ قدمًا أو تمسّكًا مبالغًا فيه بما مضى.

في بعض الأحيان، قد تكون الفوضى تعبيرًا عن حالة من عدم اليقين أو الشعور بفقدان السيطرة في جانب معين من جوانب الحياة. عندما تكون الأمور غير واضحة في العمل أو العلاقات الشخصية، قد ينعكس هذا الشعور بعدم اليقين على البيئة المحيطة بنا.

بل إنّ بعض أشكال الفوضى قد ترتبط بـالإبداع والتفكير غير الخطي. هناك من يجدون في بيئة مشبعة بالأدوات والمواد المتفرّقة حولهم محفّزًا للإبداع، حيث يجدون روابط غير متوقعة بين الأشياء. لكنْ حتى في هذه الحالة، غالبًا ما يكون هناك نظام داخليّ للفنان أو المبدع لا يراه الآخرون.

 

الفوضى لغة صامتة

إذن، فوضانا ليستْ مجرد شكل خارجيّ مزعج للعين، بل هي لغة صامتة تتحدّث عن عالمنا الداخلي. ولكن كيف يمكننا الاستفادة من هذه الفوضى كأداة للتنمية الذاتية بدلًا من مجرد الشعور بالذنب أو الإحباط بسببها؟

الخطوة الأولى: هي الاستماع لما تقوله فوضانا دون إصدار أحكام سلبية. انظرْ إلى المساحات غير المنظمة في بيتك أو مكتبك بعين المراقب الفضولي، لا بعين الناقد القاسي. اسألْ نفسك: ما الذي تتراكم فيه الأشياء أكثر من غيره؟ ما نوع الأشياء التي تسبّب الفوضى؟ متى بدأتْ هذه الفوضى بالظهور؟ هل ترتبط بوقت معين أو حدث معين في حياتك؟ هذه الأسئلة البسيطة يمكن أن تقودك إلى تحليل أنماط سلوكك وعاداتك غير الواعية، وإلى فهم المشاعر والأفكار التي تحرّك هذه الأنماط. مثلًا، إذا لاحظت أنّ كومة الأوراق على المكتب تتزايد كلّما شعرت بالإرهاق من عمل معين، فقد يكون ذلك مؤشرًا على حاجتك لتطوير استراتيجيات أفضل للتعامل مع ضغط العمل بدلًا من تأجيله.

ثانياً: يمكن لعملية تنظيم الفوضى الخارجية أن تصبح ممارسةً لتنظيم الفوضى الداخلية. البدء في ترتيب مساحة صغيرة في بيتك (درج واحد، رف واحد، زاوية صغيرة) يمكن أن يكون خطوةً أولى نحو استعادة شعور السيطرة. عملية فرز الأشياء، تحديد ما هو مهم وما يمكن التخلّي عنّه، إيجاد مكان مناسب لكلّ شيء، كلّ ذلك يشبه إلى حدّ كبير عملية تنظيم الأفكار والمشاعر المبعثرة في ذهنك. عندما تنظّم مساحة عملك، قد تشعر بوضوح أكبر في ذهنك وقدرة أعلى على التركيز. عندما تتخلّى عن أشياء لم تعدْ بحاجة إليها، قد تشعر بتحرّر نفسيّ من ثقل الماضي. تنظيم البيئة المحيطة بنا ليس مجرد ترتيب مادي، بل هو غالبًا ما يكون بدايةً لعملية ترتيب نفسيّ داخلي.

ثالثاً: استخدم الفوضى كـفرصة للتساؤل عن أولوياتك الحقيقية. غالباً ما تتراكم الأشياء غير المهمة أو التي لا تخدم أهدافك في حياتك ومساحاتك. انظرْ إلى فوضاك واسألْ نفسك: هل هذه الأشياء تعكس حقًا ما أعتبره مهمًا في حياتي؟ هل تقضى طاقتي ووقتي في أمور لا تخدم رؤيتي لذاتي ولحياتي؟ الفوضى يمكن أن تكون تذكيراً صارخًا بأنّ هناك عدم اتساق بين ما نقول إنّه مهم بالنسبة لنا وبين كيفية عيشنا لواقعنا اليومي.

رابعاً: لا تخلطْ بين الفوضى كحالة مؤقتة وبين الإهمال المزمن. كلّنا نمرّ بأوقات تكون فيها حياتنا أقلّ تنظيمًا بسبب ظروف خارجة عن إرادتنا (مرض، ضغط عمل استثنائي، ظرف عائلي). هذه الفوضى المؤقتة طبيعية ولا يجب أن تسبّب الشعور بالذنب. المشكلة تكمن في الفوضى المزمنة التي تصبح نمط حياة، وتؤثر سلبًا على جودة الحياة والرفاهية النفسية. الاستماع لفوضاك يمكّنك من التمييز بين الحالتين والتعامل مع كلّ منهما بالشكل المناسب.

بين جدران بيوتنا، التي غالبًا ما تكون مساحةً مشتركةً لعدة أجيال، قد تتجلى الفوضى بأشكال مختلفة وتعكس ديناميكيات أسريةً معقدة. فوضى في غرفة الأطفال قد تعكس حاجتهم لمساحة للعب والتعبير الحرّ، أو قلة تنظيم لديهم بحاجة إلى توجيه. فوضى في مساحات مشتركة قد تعكس غياب المسؤولية المشتركة في الحفاظ على النظام. وفوضى في ركن معين قد تعكس تجنّب التعامل مع قضايا عائلية غير محلولة. الاستماع لفوضى البيت المشتركة يتطلب حوارًا بين أفراد الأسرة لفهم الأسباب الكامنة وإيجاد حلول جماعية تعكس احتياجات الجميع وقيمهم.

 

بيوتنا امتداد لنا

في الختام، إنّ بيوتنا ومساحاتنا ليستْ مجرد أوعية نضع فيها أجسادنا وأشياءنا، إنّها امتداد لنا، انعكاس صادق لحالتنا الداخلية. وفوضانا، على الرغم من أنّها قد تسبّب الانزعاج، هي فرصة فريدة لنتوقّف ونستمع. لنتوقّف عن الركض في دوامة الحياة، وننظر حولنا بصدق وشفافية. ما الذي تقوله تلك الكومة من الأوراق لي؟ ما الذي تشير إليه تلك الخزانة المبعثرة؟ ما هي المشاعر التي أهرب منها والتي تتجسّد في هذه الفوضى؟

دع فوضاك تتحدث، ليس لتوبّخك أو تجعلك تشعر بالخجل، بل لتضيء لك دروبًا جديدةً نحو فهم نفسك بشكل أعمق. استمعْ لهذه اللغة الصامتة بعناية، وحاولْ فكّ رموزها. ففي كلّ قطعة ترتّبها، وفي كلّ شيء تتخلّى عنّه، وفي كلّ زاوية تنظّمها في عالمك الخارجي، أنت في الواقع ترتّب زاويةً في عالمك الداخلي، تتخلّى عن ثقل لم تكنْ تدرك وجوده، وتضيء مساحةً في روحك لم تكنْ تراها من قبل. إنّها رحلة نحو الذات تبدأ أحياناً من أكثر الأماكن فوضويةً في حياتنا وبيوتنا.

 

ارسال التعليق

Top