• ٣٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٥ | ١٠ رجب ١٤٤٧ هـ
البلاغ

المشي.. فعل ثقافي وأداة للإبداع ووسيلة للتنفيس

المشي.. فعل ثقافي وأداة للإبداع ووسيلة للتنفيس

يُعد المشي أكثر من مجرد نشاط بدني؛ إنّه ممارسة ذهنية وفكرية ارتبطت منذ القدم بالبحث عن المعنى والإلهام. ولطالما اتخذ الأدباء والفلاسفة المشي وسيلةً للتأمل، وأداةً للإبداع، حتى صار جزءاً من عملية الكتابة ذاتها.

يمكن القول إنّ علاقة الأدباء بالمشي هي علاقة إبداعية وروحية في آن واحد. فالمشي بالنسبة لهم ليس مجرد وسيلة انتقال، بل هو فعل ثقافي وفكري يفتح أمام الكاتب أبواب الخيال والتأمل. لذلك لا عجب أن نجد في تاريخ الأدب والفلسفة نصوصاً ولدت على الطرقات والجبال والشوارع، وكأن الكتابة نفسها ليست سوى عملية مشي على الورق.

  إن المشي ليس مجرد فعل جسدي أو نشاط صحي، بل هو تجربة وجودية ارتبطت بالإنسان منذ القدم، وامتزجت بالفكر والأدب والفلسفة. كثير من الأدباء والكتاب وجدوا في المشي وسيلة لإطلاق العنان للتفكير، والتأمل في الطبيعة، والبحث عن الإلهام. ولهذا يمكن القول إن المشي يمثل ورشة ذهنية للأديب، تحفزه على الكتابة وتمنحه القدرة على التواصل مع ذاته ومع العالم من حوله.

 

المشي في الفلسفة والأدب العالمي

كان أرسطو يلقي دروسه أثناء تجواله في أروقة مدرسته وهو ما أعطى المدرسة اسمها «المشائية»، ومن درسوا فيها يُعرفون بـالمشّائين، واعتبر جان جاك روسو أن المشي في الطبيعة هو الشرط الأساس لتحرير الفكر من قيود المدن، وكان يرى أن العقل يعمل بأفضل صورة عندما تتحرك القدمان، وقد كتب روسو في أحلام يقظة متجول وحيد: «لم أستطع أن أتأمل وأفكر حقاً إلّا وأنا في الطريق، فكل خطوة تفتح أمامي فكرة».

واعتبر فريدريش نيتشه أن «كل الأفكار العظيمة وُلدت أثناء المشي»، وكان يمشي لساعات طويلة في جبال سويسرا، وأغلب أفكاره الفلسفية الكبرى تبلورت في تلك اللحظات، واعتبر نيتشه أن الحركة شرطًا لصفاء العقل، إذ رأى أن الفيلسوف الذي يجلس طويلًا على كرسيه يخاطر بأن يفقد قوة الفكر الحي.

وفي كتابه الذي حمل عنوان «المشي»، يقول هنري ديفيد ثورو، الذي جعل من السير في الطبيعة فلسفة للحياة الحرة والبسيطة، واعتبر المشي وسيلة للتحرر من قيود المجتمع الصناعي. وترى فيرجينيا وولف أن المشي في شوارع لندن يفتح أبواب الخيال، وتصف المشي «كطريقة لاقتناص اللحظة اليومية»، كما ترى أنه يتيح للكاتب اكتشاف التفاصيل اليومية التي تغذي الأدب. ومن لندن أيضًا كان تشارلز ديكنز يمشي ليلاً في شوارع لندن لمسافات طويلة، وغالبًا ما خرجت شخصياته من هذه الملاحظات الحية.

 

 المشي في الأدب العربي

ارتبط المشي في التراث العربي بالترحال والبحث عن المعرفة. فـالرحالة مثل ابن بطوطة وابن جبير حولا المشي والسفر إلى نصوص أدبية وتاريخية خالدة، وفي رحلات الحج والرحلات العلمية، كما دوّن الجغرافيون والسفراء، مثل أحمد بن فضلان سيرهم الطويلة، فحوّلوا الحركة إلى أدب رحلات ومرجع تاريخي لا ينضب، والمتنبي ربط بين المسير والصبر والكرامة في أشعاره، حين جعل السفر رمزًا للتجربة الإنسانية.

والمشي على الأقدام في اللغة العربية هو: الانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ سَيْراً. ومشَى الشَّخْصُ: سار، انتقل على قدميه من مكان إلى آخر بإرادته، ذهب ومضى. ومشَّتِ الأمُّ ولدَها: درّبته على السَّير. وتمشَّى الشَّخْصُ وغيرُه: مشَى في مُهْلة، جال ابتغاء النُّزهة، تنزّه سيراً على الأقدام. ومُشَاة: جمع مَاشِي. والمُشَاةُ من الجيش: مَن يسيرون على أَقدامهم. ورَجُلٌ مَشَّاءٌ: كَثِيرُ الْمَشْيِ.

وقال كعب بن زهير:

يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم

ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ

 

وقال أبو تمام:

قذعتُمُ فمشيتمْ مشية ًأمماً

كذاكَ يحسنُ مشيُ الخيل في اللجمِ

 

وقال صفي الدين الحلي:

مشَوا كمشي القَطا، حتى إذا حمَلوا

ثِقلَ القُيودِ مَشوا مشيَ العَصافيرِ

 

وقال جميل بثينة:

وأمشي، وتمشي في البلادِ، كأننا

أسِيران، للأعداءِ، مُرتَهَنانِ

 

وقال مجنون ليلى:

منعَّمة الأطراف هيف بطونها

كواعب تمشي مشية الخيل في الوحلِ

 

وقال أحمد شوقي:

مشى مشيةَ الليثِ، لا في السلاح

ولا في الدُّروع، ولا في الجُنَن

 

بينما قال المتنبي:

فهيَ تمشي مَشْيَ العَرُوسِ اختِيالاً

وَتَثَنّى عَلى الزّمَانِ دَلالا

 

وقالت ولادة بنت المستكفي:

أنا واللَه أصلح للمعالي

وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها

أما الفائز بجائزة نوبل 1988 نجيب محفوظ، فقد كان يقول: «المشي هو نافذتي إلى الناس»، فقط اعتاد المشي يومياً في أحياء القاهرة القديمة، ومن هذه الجولات استمد شخصياته ومشاهده الروائية. وعند كتابة كل عمل جديد، يحس صاحب «الطريق» أنّه كاتب مبتدئ، إلى أن أصبحت عملية الكتابة نفسها شيئًا يمارسه دون التفكير فيه، كالمشي مثلًا، فالإنسان لا يفكر بشكل واعٍ أثناء المشي في عملية وضع قدم أمام الأخرى، وإنما هو يمشي بشكل تلقائي، وبلا تفكير. وكان يطلق على نفسه أنه «من المشَّائين»، فعندما أرادت ابنته أن تتعلم قيادة السيارات، ذهب معها وتعلَّم مثلها، لكنه لم يستوعب قواعد القيادة، لأنه يفضل المشي دائمًا، ويقول «أنا من المشَّائين».

أمّا الشاعر محمود درويش فقد وصف المشي في المنافي كفعل وجودي للتشبث بالحياة، إذ يتحول الطريق إلى «بيت مؤقت» للشاعر، ويضيف في نصوصه عن المنفى، يربط بين المشي والبحث عن وطن، فيقول: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الطرقات ما يستحق المشي»، وجعل الروائي الليبي إبراهيم الكوني من المشي في الصحراء فعلاً روحياً، فالصحراء عنده فضاء روحي لا يكتشف إلّا بالخطوات المتأنية.

وعلى الرغم من أن المشي يرتبط غالباً بالمكان، فإن الشاعر ربطه هنا بالزمان حيث يمشي داخل الشهور، وليس داخل شوارع أو أماكن معينة، إن المشي هنا ليس مجرد وسيلة انتقال في المكان، ولكنه انتقال في الزمان، وإذا دققنا في المعنى فإن المشي يرتبط بالمكان والزمان معاً، (بالزمكان) فانتقال الرجْلِ من خطوة إلى أخرى، هو انتقال في الزمان والمكان معاً، مما يؤشِّر على أن المشي فعل حقيقي لا يضاهيه فعلٌ مماثل لعضو آخر من أعضاء الجسد.

ظهر من استقراء النصوص والتجارب أن المشي ليس مجرد وسيلة انتقال، بل هو فعل ثقافي وفلسفي وأدبي، ووسيلة للتنفيس، إنّه جسر بين الجسد والروح، وبين الواقع والخيال. لذلك، فإنّ كثيراً من النصوص العظيمة ما هي إلّا خطوات مكتوبة على الورق، ولعل الكاتب الذي يمشي إنما يعيد كتابة الطريق بلغة أخرى والحركة المستمرة تفتح المجال لتدفق الخيال، وتساعد الكاتب على حل عقد النصوص.

في الختام، فقد أظهرت أبحاث علم النفس المعرفي (جامعة ستانفورد 2014) أن المشي يزيد من الإبداع التباعدي بنسبة 60 % مقارنة بالجلوس. ولعل هذا يفسر لماذا ارتبطت لدى الأدباء عادة الكتابة بعد المشي.

ارسال التعليق

Top