ما بين فريق «التفاؤل التكنولوجي» المؤمن بقدرة التطور التكنولوجي - كالذكاء الاصطناعي - على تعزيز التواصل، والتعامل مع تحديات الحياة الأسرية، وفريق «رهاب التكنولوجيا» الخائف من فقدان السيطرة البشرية على النظم ذاتية التشغيل، وفقدان الوظائف، وانفلات الأخلاق كتلك المتعلقة بخرق الخصوصية.
يقف فريق ثالث موقفاً وسطاً ينادي بالاستفادة من الإيجابيات وتجنب السلبيات، كما هي الحال في دعوات تعزيز معرفة الذكاء الاصطناعي داخل الأسر، وتوفير تدريب لأولياء الأمور لفك رموز لغة الرطانة التكنولوجية ومساعدة أطفالهم في التعليم والتعلم، ومواصلة البحث لاستكشاف تأثير التعرض المستمر لهذا الذكاء عبر مراحل نمو الأطفال، بحيث لا تقتصر المنفعة على ذوي الثقافة الرقمية المتقدمة.
تناولت دراسة حديثة حول الذكاء الاصطناعي في نظام الأسرة - آثاره الإيجابية والسلبية المحتملة على التربية، والتواصل، وديناميكيات الأسرة - الذكاء الاصطناعي باعتباره أنظمة ذكية تقوم على بيانات ضخمة قادرة على تحليل محيطها لأداء مهام محددة. ومن بينها ما يظهر بأشكال مختلفة في الحياة العائلية، كمقترحات المحتوى الإلكتروني - كما في نتفليكس ويوتيوب - ومقترحات الشراء الإلكتروني- مثل أمازون- إضافة إلى المساعدين الأذكياء، مثل تشات جي بي تي من أوبن إيه آي، وسيري من أبل وأليكسا من أمزون.
واشارت الدراسة، المنشورة بالمجلة الأوربية للصحة العقلية، إلى قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي - فرع من فروع الذكاء الاصطناعي - على إنشاء محتوى جديد - نصوص، أو صور، أو موسيقى، أو أشكال أخرى - بتحديد الأنماط الموجودة في مجموعات البيانات المتوفرة وإعادة إنتاجها. وباستخدام تقنيات التعلم العميق يتم توليد مخرجات تبدو شبيهة بما يقوم به الإنسان. فيتفاعل الوسطاء الافتراضيون - كروبوتات الدردشة - ويفسرون الطلبات، ويؤدون مهام كاسترجاع المعلومات أو التحكم بالأجهزة. وباستخدام التعلم الآلي، يحسنون استجاباتهم على نحو مستمر، مثلما نبدأ في كتابة كلمة على الهاتف الذكي فيكملها لنا، وربما يقترح الكلمة التالية، بعد أن تعلمها منا أو مما هو متاح من كم البيانات.
التواصل والتماسك داخل الأسرة
ووفقاً للدراسة، يستطيع الذكاء الاصطناعي تعزيز التواصل داخل منظومة الأسرة عبر وسائل متنوعة، ويحلل أنماط التواصل وتحديد مشكلات - كسوء التواصل أو مسببات النزاعات - وبمساعدة منصات معتمدة يتم التدريب على التواصل الفعال المهم لبناء الأسرة، وتقديم استراتيجيات لحل المشكلات، إضافة إلى لعب دور الوساطة بصورة فورية لمخاطبة تلك المشكلات. فعلى سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يبحث عن أنماط التواصل البناء ويدعمها؛ والعمل على تحسين التواصل غير اللفظي عبر أدوات تحلل لغة الجسد، والتعبيرات العاطفية، ويعرض مقترحات وملاحظات لأفراد الأسرة لتحسين تفاعلاتهم الشخصية. والمهم هنا الانتباه إلى ضرورة الموازنة بين استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم التواصل، والتواصل الإنساني الحقيقي والمتعاطف.
هذا، ويمكن أن يعزز الذكاء الاصطناعي تماسك الأسرة عبر أنشطة مشتركة تعظم الشعور الجماعي بالذات للعائلة - هوية الأسرة - وذلك باقتراح أنشطة عائلية، وتحليل جداول أفراد الأسرة وتفضيلاتهم، والتوصية بأنشطة وعطلات تقوي الروابط الأسرية؛ وبتتبع دورة حياة الأسرة، قد يقترح أنشطة وممارسات جديدة وهادفة وجذابة في ضوء اهتمامات الأسرة وقيمها. كما بإمكانه - الذكاء الاصطناعي - المساهمة في عملية السرد وبناء المعنى في إطار العائلات، حيث التركيز على القصص والمعاني المبتدعة حول حياة العائلة وعلاقاتها؛ فيساعد هذا الذكاء على إنشاء السرديات وبلورتها باستخدام معلومات متعلقة بالأسلاف - حكايات وأحداث من تاريخ العائلة- كما يمكن أن يدمج الأسماء والأماكن والمناسبات الفريدة للعائلة ضمن عملية اجتماعية عميقة وتفاعلية، نراها في تجميع صور الأشخاص أو الأحداث في فيديوهات تعرض على شاشاتنا فتسعدنا.
الدعم الوالدي ونمو الأطفال
يساهم الذكاء الاصطناعي في إحداث نقلة نوعية في تقديم الدعم لأولياء الأمور وتنمية مهاراتهم، لتغيير عاداتهم وسلوكياتهم نحو الأفضل. ويمكن أن يكون ذلك عبر الأجهزة الذكية، التي تعظم من فرص التعلم وتلقي الخدمات، بل وتتيح لأولياء الأمور طلب المساعدة الفورية في المواقف العائلية العصيبة. وبطبيعة الحال لابد من تحذيرات تتعلق بالخصوصية والأمن، نظرًا لإمكانية تعرض هذه الأجهزة للاختراق وتهديدات الأمن السيبراني الأخرى؛ مثل إساءة استخدام معلومات حساسة؛ أو تقديم نصائح واقتراح قرارات مضللة، نتيجة لعدم دقة البيانات أو تحيزها.
وتعد الدراسة المذكورة بعض نظم الذكاء الاصطناعي، مثل متحدثي الصوت الذكية - أليكسا وسيري - عناصر فاعلة اجتماعيًا وتلعب دورًا وسيطًا في بناء العلاقات الأسرية. وقد اعتمدت ملايين الأسر هذه التكنولوجيا «الخفية» ودمجتها في خلفية الحياة اليومية. وقد تساعد هذه التكنولوجيا العائلات بالفعل على إدارة أنشطتها اليومية من خلال التذكير بالمواعيد والمهمات، وتشغيل الموسيقى، وتوفير تحديثات الطقس، والإجابة على الأسئلة. وتتمتع هذه الأنظمة التكنولوجية بالقدرة على تنفيذ المهام نيابة عن أفراد الأسرة. وقد تساعد في المهام الوالدية التقليدية كقراءة قصص قبل النوم أو مساعدة الأطفال في سن المدرسة في أداء واجباتهم المدرسية. ولكن عندما تتواجد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في حياة الطفل بشكل كبير لدرجة تولي دور الوالد، تثار أسئلة حول تأثيرها على نموه النفسي والمعرفي.
يؤثر الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية على نمو الأطفال الاجتماعي والمعرفي دون شك. وقد يؤدي التطرف في استخدامها إلى تراجع التفاعلات الشخصية بين الأطفال وأولياء أمورهم. ونظرًا لأهمية هذه التفاعلات الشخصية لتنمية المهارات الاجتماعية ومهارات حل المشكلات والإدراك والتعاطف لدى الأطفال، يؤثر الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية سلبيًا. فالأطفال يستخدمون هذه الأجهزة بشكل أساسي لإجراء محادثات والتعبير عن مشاعرهم، وينسبون إليها هوية بشرية، في محاولة لاعتبارهم أشخاصاً. ويميل الأطفال الصغار ما بين الخامسة والسابعة من العمر إلى الارتباط عاطفياً بهذه الأجهزة.
ولقدرة الأدوات الذكية على تقديم إجابات سريعة وبسيطة، فإن الأطفال الذين يستخدمونها بكثرة تقل لديهم فرص تنمية التفكير النقدي، ويقل مدى انتباههم. كما يؤثر الاعتماد المكثف على الأدوات الذكية على مهارات الأطفال اللغوية. وعلى الرغم من مساعدة هذه الأدوات في تعلم اللغة، إلّا أن استخدامها المتطرف يحد من تعرض الأطفال للتفاعل اللغوي البشري الدقيق والغني، فيؤثر ذلك على مفرداتهم ومهاراتهم وتفاعلهم الاجتماعي، ولا سيما إذا هم اعتمدوا عليها في اتخاذ القرارات اليومية، أو إكمال واجباتهم المدرسية، فالأطفال الذين يتفاعلون مع الأدوات الذكية أكثر من تفاعلهم مع البشر لا تقوى لديهم مهارات الحديث.
محاذير ومخاوف
استكشفت دراسات آثاراً إيجابية لبعض التطبيقات المعنية بمراقبة الأطفال ومتابعتهم، حيث قللت الحاجة إلى الفحوص الجسدية المتكررة، بفضل تسهيل نقل معلومات مثل تلك المتصلة بأنماط النوم، والحركة، وعلامات الضيق، ومعدل ضربات القلب أو التنفس، لكنها حذرت من آثار ضارة على صحة الوالدين النفسية، إذ يمكن أن تزيد مراقبة أطفالهم من مستويات القلق لديهم. وأوصت بتحقيق التوازن بين فوائد استخدام التكنولوجيا وسلبياته لصالح نمو الطفل وصحة الوالدين النفسية العقلية.
وكشفت دراسة آسيوية عن تراجع العمق العاطفي للتواصل بين الآباء والأبناء، حيث تستبدل التفاعلات الشخصية باستجابات آلية، وتحول دور الوالدين في التربية من كونهما مرجعًا رئيسيًا إلى كونهما ميسرين لاستخدام التكنولوجيا. مثلما حدث تحول في احترام الأطفال لآبائهم وأمهاتهم، بعد أن عزز الذكاء الاصطناعي استقلاليتهم في البحث عن المعلومات، الأمر الذي دفعهم للتشكيك في قرارات الكبار؛ وتفوق تبني بعض الأطفال لما تقوله المصادر الرقمية على ما يقوله الوالدان.
هذا، ويمكن لوجود الذكاء الاصطناعي في الأسرة أن يعيد تشكيل تحديد الأدوار وتوزيع المسؤوليات، ويثير مخاوف أخلاقية، حيث يمكن للأجهزة الآلية، كمساعدي المنزل الذكي، أو نظم الأمن القائمة على الذكاء الاصطناعي، أن تراقب الأنشطة الخاصة في الأسرة، التي قد تشمل أمورًا حساسة. فعندما يكتشف نظام الأمن أفعالًا غير قانونية، كالعنف المنزلي، تثار تساؤلات حول استخدام البيانات؛ فمع قدرة الذكاء الاصطناعي على إخطار السلطات تلقائيًا مما يحد من حوادث العنف المنزلي، يتطلب الأمر وضع مبادئ أخلاقية توجيهية ولوائح رسمية تتعلق بإمكانية استخدام المعلومات من أجل حماية الأفراد ومراعاة احترام الخصوصية. وهكذا، تثار تساؤلات مثل: هل ينبغي للذكاء الاصطناعي إبلاغ الوالدين بسلوك الطفل غير المرغوب فيه؟ أو الإبلاغ عن سلوك غير لائق من جانب أحد الزوجين؟
توصيات
في ضوء ترجيح دراسات انتشار ظاهرة «الأشخاص» الافتراضيين، كمنتجات أو خدمات تعرضها الشركات لتخفيف الأعباء وتحسين نوعية الحياة، يوصي المهتمون بالبحث وبالاطلاع على أحدث التوجهات في مجال التكنولوجيا، وآثار توظيفها على الأسرة، ورفع مستوى الوعي بمنافع ومخاطر الذكاء الاصطناعي، وتقديم التوجيه الأسري العملي، وتزويد الأطفال وأسرهم بمهارات تقييم التكنولوجيا والمحتوى الرقمي المعتمد على الذكاء الاصطناعي واتخاذ القرارات بشأن ذلك بصورة نقدية. كما يوصى بالتعاون بين مطوري التكنولوجيا، وواضعي السياسات، والمعلمين، وأولياء الأمور لتشجيع تطوير وتطبيق تكنولوجيا وممارسات الذكاء الاصطناعي الأخلاقية، وبأسعار معقولة، ومتاحة، مع مراعاة الشفافية، والإنصاف، والمساءلة، والتنوع، والاحتياجات التنموية للأسر والأطفال ورفاهيتهم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق