• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ابن خلدون والعرب

عبد العزيز الدوّري

ابن خلدون والعرب

لن نبدأ ملاحظاتنا بالقول بأنّ ابن خلدون نتاج عصره، فهو لم يكن كذلك، ولكنه ابن الحضارة العربية الإسلامية بمعناها الواسع، تمثلت عبقريته جوانب تلك الحضارة وفحصت خبرات مجتمعاتها لتبدع نظرية وآراء في التاريخ والاجتماع.
وابن خلدون عربي من أسرة يمانية أصيلة، يدرك أنّ لأجداده حضارة عريقة تسبق الإسلام، وهو مع عمق إيمانه بالإسلام، ينظر إلى الأجيال العربية نظرة مؤرخ يستعرض فعاليات بشر بسموها وبساطتها، ويتابع تدرجها في مراتب التمدن.
وقد تعرض ابن خلدون وآراؤه إلى كثير من سوء الفهم نتيجة اقتباس فقرات منه دون النظر إلى تفكيره ككل متماسك. وهذا موقف محفوف بالمخاطر بالنسبة لمؤرخ وضع نظرة كلية إلى المجتمعات البشرية.
ولا شك أنّ الخبرات الشخصية لها أثرها في تفكير المؤرخ. وقد شهد ابن خلدون آثار بني هلال في تونس، كما تعرض شخصياً لتعدي الأعراب حتى أصيب نتيجة ذلك بمرض عضال لازمة طيلة حياته، وهو وجع المفاصل. ولكننا نظلم ابن خلدون أن نسبناه إلى الهوى في آرائه التاريخية.
ولابن خلدون مصطلحاته، أو استعمالاته الخاصة لبعض المصطلحات لتؤدي معانيه التي يريدها وهي ليست دائماً المعاني اللغوية المألوفة. لهذا يلزمنا إن أردنا دراسة مقدمته، أن نفهم مبدئياً تعابيره ومصطلحاته لنفهم آراءه ونظراته.
ولعل أول هذه التعابير، وأكثرها تعقيداً كلمة عرب، فابن خلدون يستعمل الكلمة استعمالات مختلفة لا تمكن من إعطائها معنى واحداً، فهو يستعملها أولاً وبكثرة لتشير إلى البدو والقبائل الرحالة. يقول في تاريخه: «وهذا معنى العرب، وحقيقتهم إنّه الجيل الذي معاشهم في كسب الإبل والقيام عليها وارتياد المراعي، وانتجاع المياه والنتاج والتوليد وغير ذلك من مصالحها، والفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار ودفئها، وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء. وتكونت على ذلك طباعهم فلا بد لهم منها ظعنوا أو أقاموا وهو معنى العروبية».
فهو يحدد وضع البدو ويعبر عن أسلوب معيشة وطباعاً تلائم طريقة الحياة. ويقول في المقدمة "ومثل العرب الجائلين في القفار".
ويعطي أمثلة من الصلة بين البداوة والسلوك والمواقف، فيقول: «إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع، وهؤلاء مثل العرب وزناتة.. وهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه ولا بلد يجنحون إليه». ويقول عن غاراتهم: «العرب لا يتغلبون إلا على البسائط، وذلك لطبيعة التوحش فيهم.. أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر». ويقول عن نظرة العرب السياسية في هذه المرحلة البدوية: «العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك لأنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالاً في القفر».
ويذهب ابن خلدون أحياناً إلى استعمال كلمة عرب اسم صفة يضاد كلمة حضر. فحين يصف حالة العرب عند ظهور الإسلام يقول: «والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين». ويقول أيضاً عن الحالة بعد الفتح: «الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً، فقيل: لحملة القرآن يومئذ قراء، إشارة إلى هذا». ويبدو أنّ ابن خلدون يُغَلِّب تعبير العرب بمعنى البدو عند الحديث عن وضعهم الحضاري في هذه المرحلة. فهو يقول: «العرب أبعد الناس عن الصنائع لأنّهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري». ومن هذا القبيل قوله المعروف: «العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، لأنّهم أمة وحشية»، «وهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم، ولا يرون لها قيمة، ولا قسطاً من الأجر والثمن». وهو حديث يتصل بحالة العرب الحضارية عند الفتح. ويبدو رأيه أكثر وضوحاً حين يتحدث عن ثقافة العرب آنئذ، إذ يقول: «أما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها.. إلا أنّهم لم يشعروا بما سواه لأنّهم حينئذ لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة. وكانت البداوة أغلب عليهم». وأنت ترى أنّه يطلق صفة البداوة عليهم.
ويستعمل ابن خلدون كلمة عرب أحياناً ليقصد بها الحضر من العرب وحدهم. فهو في حديثه عن الاهتمام بالنسب يقول: «اطراح العرب أمر النسب كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح، ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الأنساب وفقدت ثمرتها من العصبية، وبقي ذلك في البدو كما كان». وواضح هنا أنّه يقصد الحضر من العرب كما يشير إلى بدو العرب بعدئذ.
وهو يستعمل كلمة عرب أحياناً لتشمل البدو والمستقرين من العرب في القرى والأمصار. فهو يتحدث عن «المتوحشين من العرب أهل البدو». ويتحدث عن تونس ويقول: «تغلب بدو العرب والهلاليين عليها وخربوها». ويقول في عرض كلامه عن النسب: «الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم، قريش وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم.. لما كانوا أهل شظف.. أما العرب الذين كانوا بالتلال وفي معادن الخصب من حمير وكهلان فاختلطت أنسابهم». وهكذا نجد ابن خلدون يتحدث عن «بدو العرب» و"المتوحشين من العرب أهل البدو" و"المتوحشين في القفر من العرب" ليميزهم عن العرب القارين، فيلجأ للوصف والتخصيص ليتضح مقصده كما يتضح بجلاء شمول لفظة العرب للصنفين المذكورين.
وهذه الاستعمالات توجب التدقيق الخاص في أقواله لنعرف أي مجموعة من العرب يريد ابن خلدون في حديثه.
ويهمنا أن نعرف السبب أو الرابطة التي تميز العرب بنظر ابن خلدون. وهنا نجد ابن خلدون يشير إلى النسب أحياناً كأساس، فيذكر مثلاً: «محمد النبي العربي الأمي». ويكثر من الحديث عن النسب عند العرب كما مر بنا. وحين يرد التهم عن العباسة يقول: «إذ كيف.. تدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم». وحين يتحدث عن العرب المستعربة يقول: «ولنذكر أهل هذا النسب ما بين إسماعيل ونوح عليه السلام، وما كان لإسماعيل (ص) من الولد. ونختم هذه الطبقة الأولى بذكرهم وإن كانوا عجماً في لغاتهم، إلا أنّهم أهون الخليقة في أنسابهم».
ولكنه يرجع ليتخذ من اللغة أولاً، ثم السمات والشعائر (أي طرق العيش) أساساً أهم وأبقى لتحديد مفهوم العرب، فهو يرجع اسم العرب إلى اللغة ويقول: «ثم إنّ العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، ولذا سموا بهذا الاسم، فإنّه مشتق من الإبانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه». وحين يتحدث عن عروبة إسماعيل يقول: «وتخلف إسماعيل مع أمه هاجر بالحجر قرباناً لله، ومرت به رفقة من جرهم في تلك المنازل فخالطوها، ونشأ إسماعيل بينهم وربي في أحيائهم وتعلم لغتهم العربية بعد أن كان أبوه أعجمياً». فهو يرى في تعرب إسماعيل باللغة والسمات أساس عروبته كما أوضح الجاحظ قبله.
ويذهب ابن خلدون إلى تدعيم اللغة بالسمات (الخصائص) وبالشعائر ويجعلها الأساس الأول في تمييز العرب. فهو يقول عن العرب المستعربة: «إنما سمي أهل هذه الطبقة بهذا الاسم لأنّ السمات والشعائر لما انتقلت إليهم من قبلهم اعتبروا فيها الصيرورة بمعنى أنهم صاروا إلى حال لم يكن عليها أهل نسبهم وهي اللغة العربية التي تكلموا بها». فقد جعل من اللغة والسمات والشعائر مقومات أولية للدخول في جملة العرب.
ويرى ابن خلدون أنّ هذه الصيرورة، أو التعريب، تأخذ وقتاً طويلاً ولكنها مهمة، بل لعله يراها أرسخ من النسب، لأنّ الأنساب تتعرض للاختلاط، أو للجهل والخفاء، فهو يقول: «وربما تكون هذه السمات والشعائر في أصل نسب آخر فيدعون باسم العرب، إلا أنّهم في الغالب يكونون أقرب إلى الأولين من غيرهم. وهذا الانتقال لا يكون إلا في أزمنة متطاولة وأحقاب متداولة. ولذلك يعرض في الأنساب ما يعرض في الجهل والخفاء» «التاريخ». بل ويذهب ابن خلدون أبعد من ذلك أحياناً ويرى النسب وهمياً، فحين يتحدث عن تأييد الموالي وعن عصبيتهم لأهل الدولة يقول: «لأنّ أمر النسب وإن كان طبيعياً فإنما هو وهمي».
وإذا كان النسب الصريح موجوداً في البدو فقط، بينما يختلط النسب في الحواضر كما ويتعرض للجهل والوهم، فإن رابطة اللغة والسمات والشعائر كما يظهر هي الأساس في الحاضرة. ويبدو لي أنّ ابن خلدون يستعمل تعبير «الأمة العربية» و«الملة العربية» بضوء هذه المفاهيم ليميز المجموعة البشرية التي تربطها ثقافية عامة بدل الرابط الدينية التي اختص بها مفهوم الكلمتين من قبل.
ويهمنا الأن، بعد أن لاحظنا مفهوم ابن خلدون للعرب وللروابط التي تربطهم، أن ننظر إلى رأيه في دورهم الحضاري. وهذا يوجب علينا الإشارة مبدئياً إلى مفهوم ابن خلدون لكلمتي حضارة وعمران بإيجاز.
أرى أنّ ابن خلدون يستعمل كلمة حضارة بمعنى civilization وكلمة عمران بمفهوم culture، ولذا فهو يشير إلى العمران البدوي Bedwin culture والعماران الحضري City culture فهو يقول: «من العمران ما يكون بدوياً وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال، ومنه ما يكون حضرياً وهو الذي يكون بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها».
وابن خلدون يؤكد على  الجانب الفني والمادي في الحضارة يقابله التوحش والأمية في البداوة، ويؤكد على الترف والكماليات والرقة لدى الحضر مقابل الاقتصار على الضروريات والخشونة لدى البدو والأعراب.
فهو يعرف الحضارة بقوله: «هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه كالصنائع المهنية للمطابخ أو الملابس أو الفرش أو الآنية لسائر أحوال المنزل». ويقول في مكان آخر: «الحضارة إنما هي تفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه في المطابخ والملابس والمباني والفرش وسائر عوائد المنزل وأهدافه».
وابن خلدون يعتبر التجارة والصنائع مميزات الحضارة ويدخل العلوم بأصنافها في مجموع الصنائع. وأما ميزات البداوة فهي تربية الحيوان ورعيه والفلاحة لحد ما.
لذا فالبداوة مرحلة طبيعية تسبق الحضارة، وتنتهي بها وهذا الانتقال يكون بالتمدن «ولذا نجد التمدن غاية البدوي».
وابن خلدون يرى أنّ الحضارة نتاج الجهود البشرية، يورثه شعب لآخر، ويأخذه البدو عن الحضر، وللأمة دورها في الاخذ والإضافة، وهذا شأن العرب في المجهود الحضاري.
وهو يشعرنا أنّ العرب عند ظهور الإسلام، كانوا في مرحلة عمران بدوي، ويقول: «جاء الله بالإسلام وملك العرب» وكانوا لذلك العهد في طور البداوة، وحين يتحدث عن أثر المجتمعات الحضرية في الدول الفاتحة يقول: «ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح وملكوا فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبنائهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة»، وحين يذكر نقوش السكة والتدقيق فيها يقول: «ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب». وحين يتحدث عن «الفساطيط والسياج» يذكر حالة العرب عند الفتح ويقول: «وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر والصوف، ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم».
وواضح من هذه النصوص أنّ العرب آنئذ لم يكن لهم عراقة في فن أو حضارة ولكنهم سرعان ما قطعوا أشواطاً بعيدة.
ولكننا حين ندقق في المقدمة، نرى أنّ ابن خلدون يقصد بهؤلاء عرب الشمال أو مضر. فهو نفسه يذكر بملك العرب في القديم وبدورهم الحضاري ويقول: «يجهل الكثير منهم أنّه قد كان لهم ملك من القديم.. وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليفة ما كان لأجيالهم من الملك. ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك، ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس». وواضح أنّه يميز دولة مضر ويقصد بها الدولة الإسلامية، وهو يتحدث مرة عن حضارة اليمن ويقول: «رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرب فيها منذ عهود العمالقة والتبابعة آلافاً من السنين. وأعقبهم الملك لمضر». كما يتحدث عن حضارة العرب الأولى قائلاً: «العرب الأول من عهد عاد وثمود والعمالقة والتبابعة طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عدداً وأبقى على الأيام أثراً». بل إن ابن خلدون ينص على مواطن الحضارات العربية، ويؤكد على رسوخ الحضارة فيها ويقول: «أما اليمن والبحرين وعمان والجزيرة، وإن ملكوا العرب إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرة منهم واختطوا أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية من الحضارة والترف مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء، فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفرت الصنائع ورسخت، فلم تبل ببلى الدولة».
وهكذا يتضح أنّ ابن خلدون يتحدث عن مضر التي سارت في الفتوح بالإسلام ويرى أنّها في مرحلة بدوية، في حين أنّ عرب اليمن والخليج العربي لهم حضارات عريقة. ولن ننسى أنّ ابن خلدون يماني الأصل وأنّه توفرت لديه معلومات لا بأس بها عن دول اليمن.
وإذا كانت الدولة العربية التي تكونب بالإسلام مضرية، كما أشار ابن خلدون أكثر من مرة، وإذا كان الدور الأساسي للعرب الشماليين فإنّ ابن خلدون يركز حتى في وصفه لهذا الجيل من العرب حديثاً عن البدو. ومن الغريب أن يتهم ابن خلدون بالشعوبية هنا، أو بالسير في اتجاههم، في حين أنّه حاول أن يوضح وضعهم فهو يشهد لهم بصفاء اللغة وجودتها ويري أنّها: «أعرق في العروبة» من لغة الحضر، وهو يعجب بفصاحتهم وأنّهم «لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان». ويثني على قابلياتهم الأدبية في الشعر، ويبين إن كان لهم طب بسيط يستند إلى التجارب الشخصية.
وهو يؤكد على اهتمامهم بالأنساب وعلى صراحة أنسابهم بالمقابلة للعجم والحضر عامة.
وابن خلدون يرى أنّهم لا يرتبطون بموطن أو بتربة لحالة الترحل، وهم في هذا الدور تفشو فيهم الأمية. وبعيدون عن أمر التعليم والتأليف والتروية، لأنّ الكتابة والعلم من الصنائع الحضرية.
ويرى أنّهم يتصفون بالشجاعة وبعد الهمة والأمانة، يصعب انقيادهم لتنافسهم في أمر الرياسة، ولديهم عصبية قوية محدودة هي عصبية النسب والدم، ولذا يتعذر قيام رئاسة عامة بينهم، وهم لذلك «أبعد الأمم عن سياسة الملك».
كان العرب في حالة عصبية ضيقة وفرقة. وهذا لا يمكن من اجتماع كلمة أو تكوين ملك، ولكنهم مادة طيبة بعد ذلك، إذ يقول: «وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المصافاة المتهيء لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى، وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات»، ويرى ابن خلدون أنّ الإسلام جاء بعصبية جديدة شاملة، أو برابطة الدين، فوحدهم وألف بينهم وأطلق الطاقات في الفتوح. يقول: «حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد (ص) زخفوا إلى أمم فارس والروم فابتزوا ملكهم». وهو يرى أنّ العصبية القوية هي بداية تكوين الملك، ويضيف: «واعتبر ذلك بالدولة الإسلامية لما ألف الله كلمة العرب على الإسلام».
ويرى ابن خلدون أنّ رابطة الإسلام هي العصبية الوحيدة الشاملة لدى العرب. وهذا ما يقصده بتعبير عصبية العرب. وأنّهم بعيدون بطبائعهم عن «سياسة الملك وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم بصيغة دينية تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع من أنفسهم وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض»، فالإسلام أساس وحدة العرب وقوتهم. بل ويذهب إلى أنّ «العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية، من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة..»، وهو يفسر ذلك بقوله: «وذلك لأنّ الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه»، وهو يرى أن ضعف هذه الرابطة أو انحلالها أدى إلى زوال الملك عن العرب. وهو حين يحلل انهيار السلطان يفسره على هذا الأساس، فيقول: «إذا نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفورهم. وجهلوا شأن عصبيتهم على أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد فتوحشوا كما كانوا».
ويقول عن العباسيين المتأخرين: «فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم منه».
وهكذا يرى ابن خلدون أنّ «الدولة العربية» أو «دولة العرب بالإسلام» تكوّنت بالعصبية الإسلامية، وأنّها ازدهرت بالإسلام وحين ضعف أثر الدين سادها الضعف وتسلط الأعاجم عليها.
ويبدو أنّ ابن خلدون يرى في تاريخ العرب حداً بين القبلية وقيمها وعصبيتها وبين الإسلام ووجهاته. وأنّه إذا كان الشرف عامل ضعف وإشارة إلى التراخي المفضي إلى التدهور، فإنّ نبذ الدين معناه عودة التوحش والعصبيات القبلية.
ولئن كان السلطان عربياً في الإسلام، فإنّ الحضارة كانت إسلامية. فالإسلام برأي ابن خلدون عامل تحضر أساسي، فهو الذي فتح المدائن للاستقرار، وكوّن الملك، وهيأ لقيام حضارة رائعة. يقول: «واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهراً وباطناً، وتتابع فيها الخلفاء، عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم». ويقول في محل آخر عند الحديث عن العلوم الحكمية: «حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن يضرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم، تشوفوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية..».
وابن خلدون يعترف بأنّ لغة هذه الحضارة الإسلامية هي العربية، فهو يقول: «أصبحت العلوم كلها بلغة العرب ودواوينها المسطرة بخطهم».
بل إنّ دور الناس في العلوم يتناسب وتمكنهم منها. يقول: «من كان مقصراً في اللغة العربية ودلالتها اعتاص عليه فهم المعاني منها، إلا أن تكون ملكة العجم السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب.. فتكون اللغة العربية كالسابقة لهم». والظاهر أنّ ابن خلدون يرى في العربية قوة ثقافية وفي الإسلام ديناً روح هذه الحضارة العربية الإسلامية وإطارها.
ولكن ابن خلدون يبدو قلقاً في تناوله مساهمة الشعوب في هذه الحضارة. فهو يرى أنّ العرب عند الفتح كانوا في مرحلة بداوة وأنّ الصنائع كانت للحضر. فهو يقول: «الصنائع من منتحل الحضر، والعرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها». ثم يحدد مفهومه لحضر تلك الفترة بقوله: «والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف». وهنا نرى أنّ الحضر هم الشعوب المستقرة من فرس وغيرهم، بما فيهم العرب الحضر، وهذا يخرج من قائمته مضر التي برزت إلى المسرح بالإسلام.
ولكن العرب، بعد أن تكوّنت دولتهم بالإسلام قطعوا شوطاً بعيداً في الحضارة، إذ يقول: «ثم إنّ الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، وكانت أمية النزعة والشعار، فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب وصيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت ثقلاً، فحدثت فيهم الملكات وكثرت الدواوين والتأليف وتشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم وجردوها من تلك اللغات الأعجمية نسياً منسياً وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب». بل إنّه يبين أن العرب بعد أن تكوّنت دولتهم بالإسلام أخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم.
ولكن ابن خلدون يذهب مع هذا إلى دراسة دور العجم في الحضارة الإسلامية ذاتها، ويفسر هذه الظاهرة بحالة بداوة العرب عند الفتح وبانشغالهم بالسياسة بعدئذ، فيقول: «من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلا في القليل النادر». ويذهب أبعد من ذلك في تأكيد هذه الناحية بقوله: «وإن كان فيهم العرب في نسبة فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أنّ الملة عربية وصاحب شريعتها عربي». ويقول في محل آخر: «إنّ حملة الحديث أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى، وكذلك علماء أصول الفقه كلهم عجم. وحملة علم الكلام والمفسرون»، ويختم ذلك بقوله: «ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم».
وهنا تعترضنا المشلكة، فإذا سلمنا بالمعنى الحرفي لعبارات ابن خلدون فإنّ الاضطراب يسودها، ولنا أن نتساءل عن أساس العجمة وقياسها، هل هي اللغة والثقافة أم النسب؟ ثم كيف يكون حملة العلم مستعجمين باللغة والمربى ولغة العلم عربية؟
لنبدأ بالنقطة الثانية، فابن خلدون يقرر أنّ العلوم العقلية «لم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع». ويبين أنّ القائمين بالعلوم يحتاجون إلى معرفة الدلالات اللفظية راغبين في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها، وهذا يدل على أنّ العربية هي الأساس الثقافي. وهنا ابن خلدون بمجال الارتباك فيوضح رأيه قائلاً: «فإن عرض لك ما تسمعه من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً على حصول هذه الملكة لهم فاعلم أنّ أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط.. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم.. وكأنّهم من أول نشأتهم في العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها، فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعجام في اللغة والكلام». ويكرر في مكان آخر: «فكان صاحب النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم». وهو نفسه يقرر بأنّ إشارته إلى أنّ حملة العلم في الأعاجم إنما تقتصر على النسب إذ يقول: «لا يعترف هنا بقولنا أنّ علماء النسب أكثرهم العجم لأنّ المراد بالعجم هنا عجم النسب.. أما عجمة اللغة فليست من ذلك وهي المراد هنا».
من هذا ترى أنّ ابن خلدون يؤكد بوضوح على أنّ الذين نبغوا في الحضارة الإسلامية في العجم هم الذين تعربوا وأجادوا العربية. فهم إن انتسبوا أصلاً إلى العجم إلا أنّهم عرب في الثقافة واللغة.
تبقى أمامنا المستعجمين باللغة والمربى. وهنا تبرز أمامنا الفرضية بأنّ هؤلاء من العرب، وابن خلدون في تسلسل منطقي يتوصل إلى هذا. فهو يرى مبدئياً أن سكنى الحاضرة يؤثر على معيشة أهلها من العرب ويؤثر على لغتهم. يقول عن أهل الأمصار: «وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو في العرب فإنّها كانت أعرق في العروبية»، فهناك إذن لغة خاصة بالحضر، ويعقد ابن خلدون فصلاً خاصاً عنوانه: «في أنّ لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر».
وفيه يتناول ابن خلدون لغة التخاطب في الأمصار بين الحضر ويبين أنّها: «لغة قائمة بنفسها، بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذين لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد». فهي لغة تساير قواعد النمو وتختلف باخلاف الأمصار. وواضح هنا أنّه يتحدث عن اللهجات الدارجة التي يتخاطب بها أهل الأمصار، حيث الفصحى آنئذ، لغة «أهل الجيل». ويفسر ابن خلدون نشوء لغة التخاطب بأنّها ناشئة عن «مخالطة العجمة»، ويبين أن بعدها عن الفصحى يتناسب ودرجة تأثرها بالعجمة فيقول: «فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى». وهذه ظاهرة واضحة في لغة أهل إفريقية والمغرب، إذ يقول: «لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين السبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظئاراً، ففسدت بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى». وهذا التطور الثقافي هو الذي يفسر ظهور «الطبقة الرابعة» في العرب وهو «العرب المستعجمة»، وهي إنما سميت مستعجمة لغلبة العجمة في لغتها. يقول: «وانقرض ما كان لهم (العرب) من الدولة في الإسلام وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة.. ولما كانت لغتهم مستعجمة على اللسان المضري الذي نزل به القرآن وهو لسان سلفهم سميناهم لذلك العرب المستعجمة».
وإذا تذكرنا أنّ ابن خلدون يرى رابطة اللغة والسمات والشعائر أساس العروبة في الحواضر، تبين لنا أنّه يرى حملة العلم في الحضارة الإسلامية من المعربين بين العجم، ومن الحضر بين العرب، وأنّ كل إنتاجهم صب في إطار اللغة العربية. وبهذا يزول ما يبدو من تناقض ظاهر.
جعل ابن خلدون العرب محور تفكيره، وأعطى العرب الدور الأول في الإسلام، فهم حملوا رايته وقاموا بالفتوح، وحددوا نطاق دار الإسلام. وهو يرى في صدر الإسلام مجموعتين متتابعين العرب والعجم، يميز البعض عن الآخر لغة وسمات. وهو يرى أنّ العرب كانت تفرقهم العصبيات القبلية وطبيعة العداوة التي تخلو من الوازع، فجاء الإسلام بعصبية جديدة غمرت العصبيات الأخرى، كما أنّه نقل العرب إلى مرحلة استقرار وتطور حضاري. وهو يركز على مضر في هذه الآراء لأنّ الدولة العربية في الإسلام هي دولة مضر. وهو على إيمانه، يرى للعرب منزلة خاصة في المجتمعات الإسلامية، وتفلت منه ملاحظات تشعر بذلك.
وابن خلدون يحمل راية الحضارة، ويرى أنّ البداوة على ما فيها من ميزات عامل تخريب أو شل للفعاليات الحضرية. وهو يرى أنّ رسالة الإسلام رسالة الحضارة والتمدن، ومن هاتين الزاويتين يركز هجومه على البداوة. ولئن ركز ابن خلدون على العرب البدو، فلأنّ محور حديثه ومدار آرائه مع العرب بأجيالهم ومراتبهم في الحضارة. وإن أشار إلى غيرهم فمن باب الموازنة، وهي إشارات مقتضبة.
ونحن نحس لابن خلدون في تحليلاته بصيحات واضحة، فيها تحذير من عدوينِ خطيرينِ للمجتمع العربي الإسلامي، البداوة من جهة، والاندفاع في الترف وما يرافقه من وهن وتدهور. وهو يري في الإسلام قوة ضد الفساد والضعف في الحالين، ويرى في التمسك به نجاة من كليهما. وهو يعرف أنّ الأعاجم قامت لهم دول دون نبي أو رسالة ولكن العرب يحتاجون إلى الرابطة الدينية والدعوة الدينية وفيها خلاصهم من الشرور.
ويبدو لي في الختام أنّ ابن خلدون انتبه إلى الصراع والمقابلة بين البدائه والحضارة، وبين الإسلام والقبلية، وبين رابطة النسب والرابطة الثقافية في تطور المجتمعات العربية الإسلامية، فلمس مفاتيح المشكلة العربية في التاريخ وألقى أضواء عليها في مقدمته.


المصدر: أوراق في التاريخ والحضارة/ج1

ارسال التعليق

Top