• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صورة من الإعجاز العلمي في حديث الصوم

د. وليد أحمد فتيحي*

صورة من الإعجاز العلمي في حديث الصوم
◄مفهوم الصيام الصحيح الكامل يتضمن أكثر من الامتناع عن الطعام والشراب، إذ يقتضي أن يصوم لسان المسلم وتصوم جميع جوارحه عمّا يُغضب الله، بل وقد يكون هذا الجزء من الصيام أشد على النفس وأكثر صعوبة في الالتزام، لذلك أمرنا رسول الله (ص) بأن نتحلى بالسكينة، وأن نجاهد أنفسنا دوماً، وأن نتجنب ما قد يجرنا إلى الانفعال والغضب، فعن أبي هريرة (رض) قال: قال رسول الله (ص): "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم" (متفق عليه). إنّ الغضب مكروه في كل أيام المسلم، وفي تركيز رسول الله (ص) على "يوم صوم أحدكم" صورة من صور الإعجاز العلمي.. فعلم الطب الحديث يجلِّي لنا وجهاً من صور هذا الإعجاز، إذ عندما يغضب الإنسان تزداد نسبة إفراز أحد هرمونات الجسم المسمى بالأدرينالين (Adrenalin) عشرات الأضعاف، ويقوم هذا الهرمون بوظائف مختلفة، نذكر في مقالنا هذا أربعاً منها فقط، وتأثير كل وظيفة في (يوم صوم أحدكم):   -        وظائف الأدرينالين: أوّلاً: يؤدي هرمون الأدرينالين إلى ارتخاء عضلات الجهاز الهضمي وتحويل الدم إلى العضلات والقلب، وبذلك يضطرب عمل الجهاز الهضمي بشكل عام، فيؤدي إلى عسر هضم إذا وقع الغضب والانفعال في فترة هضم الطعام والامتصاص في أوّل يوم الصائم. وفي اضطراب هضم الغذاء اضطراب عام لجميع أجهزة الجسم فيبدأ الصائم يومه باضطراب في أجهزة جسمه بالإضافة إلى تعكير صفوه. ثانياً: يؤدي هرمون الأدرينالين إلى زيادة وتسارع حرق مخزون الجلايكوجين (Glycogen) في الكبد، وهذا المخزون مهم فهو يتحول إلى سكر "جلوكوز" في الدم ليمد الجسم بالطاقة اللازمة في أثناء الصيام. وفي حالة الغضب يزداد إفراز هذا الهرمون عشرات الأضعاف، وبذلك يحترق مخزون الجلايكوجين سريعاً ليمد الجسم بما يحتاج إليه من طاقة أثناء الشجار والحراك، وفي هذا استنزاف لطاقة الجسم أثناء الصيام، فما إن ينتصف نهار الصيام إلا ويحس المسلم الصائم بإنهاك شديد وتعب وإجهاد نتيجة استنزاف طاقته في غير محلها الصحيح. ثالثاً: يؤدي هرمون الأدرينالين كذلك، إلى زيادة الإدرار البولي، وبذلك فإنّ الصائم يفقد كمية أعلى من السوائل إذا غضب أثناء صيامه، وفي هذا إجهاد للكليتين والقلب وإضرار به وبجسده، وقد يصيب الصائم من جراء ذلك إحساس بعطش شديد وإنهاك وإعياء في آخر يوم صومه نتيجة زيادة إفراز هذا الهرمون أثناء غضبه. رابعاً: يؤدي الأدرينالين بشكل عام إلى زيادة دقات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وتقلص الأوعية الدموية في الأطراف وازدياد احتياج عضلة القلب للأوكسجين. وإذا كان شريان القلب مريضاً إلى الحدالذي يسمح بتكوين جلطة في جداره الداخلي، سواء كان المريض على علم بذلك أم لا، فإنّ حالات الغضب قد تؤدي إلى انسداد الشريان وموت العضلة، وهذا ما يسمى بالذبحة الصدرية.   -        الغضب والذبحة: وقد أُجريت دراسات عدة في الولايات المتحدة على علاقة الغضب بحدوث الذبحات الصدرية، وفي إحدى هذه الدراسات قام الباحثون بدراسة النشاط الكهربائي لقلوب المرضى بوسيلة جهاز تخطيط قلب متحرك (Holter Monitor)، فوجد أن حالات الغضب تؤدي إلى نقص كمية الدم والأوكسجين التي تصل إلى عضلات القلب، وبالتالي فإنها تؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بالذبحة الصدرية. وفي دراسة ثانية أجراها الدكتور هيتلمان (Hittleman) بمستشفى ديكونس ببوسطن على 1623 مريضاً بالقلب، وجد أنّ التعرض لحالة غضب واحدة خلال الساعتين السابقتين أدى إلى زيادة نسبة إصابة الشخص بالذبحة الصدرية بأكثر من ضعفين. وفي دراسة ثالثة أجريت في جامعة هارفارد، ونشرت في شهر نوفمبر لعام 1996م في المجلة الدورية، قام الباحثون بوضع أسئلة تعين على تحديد الأشخاص الانفعاليين الذين يعانون من سرعة الغضب وحدة الطبع، واشترك في الدراسة 13.5 رجال تمت متابعتهم لمدة 7 سنوات، فتبين أن نسبة الإصابة بالذبحات الصدرية في الأشخاص فاقت نظراءهم الأقل عضباً، بما يزيد على ثلاثة أضعاف. ولهذا أمر الرسول (ص) الصائم بألا يرفث ولا يصخب في صومه، بل إن سابه أحد أو قاتله أن يقول: "إني صائم". وقد علمنا رسول الله (ص) منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان أنّ الحلم يمكن أن يكتسب ويعلم فيقول: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه". وهذا لم يُدرك إلا حديثاً، فقد توصل الغرب بعد الدراسة والبحث والتقصي إلى أن كظم الغيظ والتحكم في الانفعالات علاج في حد ذاته وفيه منفعة للشخص نفسه، وهذه الحقيقة مخالفة للمعتقدات التي كانت سائدة في علم النفس حتى عهد قريب، والتي كانت تدعو إلى تنفيس المشاعر، وإخراجها وعدم كبتها لتجد مبرراً للغضب كظاهرة طبيعية، ورد فعل محمود.   -        المعالجة النبوية للغضب: حاولت دراسات عدة أن تجيب عن سؤال مهم هو: هل يمكن أن يتعلم الإنسان كيف يتحكم في حالات الغضب؟ من هذه الدراسات ما قام به الدكتور فريدمان من جامعة سان فرانسيسكو؛ إذ وجد أنّ الدروس المكثفة والتمارين العملية لتعليم المرضى كيفية التحكم في حالات الغضب والتعامل مع الظروف والمواقف المثيرة، أدت إلى انخفاض نسبة الإصابة بالذبحة الصدرية بنسبة كبيرة، وقد نشرت هذه الدراسة في مجلة القلب الأمريكية في شهر نوفمبر عام 1996م. ولكن رسول الله (ص)، وهو الذي لا ينطق عن الهوى لا يقف عند هذا الحد في التعامل مع الغضب، بل يعالجه معالجة العالم بمكنونات الإنسان، فيتعامل مع محاوره الثلاثة من جسد وعقل وروح. أما الجسد، فيقول رسول الله (ص): "إنّ الغضب جمرة توقد في القلب، أما تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه! فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً، فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فلينم، فإن لم يزل ذلك فليتوضأ أو يغتسل، فإنّ النار لا يطفئها إلا الماء". وفي هذا التوجيه إعجاز علمي، فالواقف إذا جلس والجالس إذا اضطجع أو نام أدى ذلك إلى تباطؤ دقات قلبه، وخفض ضغط دمه، أما الماء البارد فإنّه يؤدي إلى ارتخاء العضلات وأوعية الدم المختلفة في الجسم، بما فيها أوعية القلب، وبالتالي انخفاض نسبة الإصابة بالذبحة الصدرية. أما المحور الثاني فهو محور العقل. قال ابن مسعود (رض): قال النبي (ص): "ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: ليس ذلك، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب". وقال (ص): "من كظم غيظاً، وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضاً". وقال ابن عمرو (رض): قال رسول الله (ص): "ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى". إنّ الذي يغضب – خصوصاً في رمضان – لغير ما يغضب الله من سفاسف الأمور، وتوافهها يفوته الكثير، وفي ذلك نقص في الأجر والثواب، واستخفاف بالعقل والفؤاد، وإهدار للطاقات، قال ابن عمر رضي الله عنهما لرسول الله (ص): "أوصني، قال: لا تغضب، فأعدت، فقال: لا تغضب، فأعدت، فقال: لا تغضب". (*) استشاري غدد صماء وسكر، وعضو هيئة تدريس كلية الطب – جامعة هارفارد - أمريكا

ارسال التعليق

Top