• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن يتجلى في تكوين كوكب الأرض/ ج2

الشيخ نزيه القميحا

القرآن يتجلى في تكوين كوكب الأرض/ ج2

◄وهكذا نجد العلم يكتشف ما قاله القرآن الكريم، بعد مئات السنين من نزوله. إنّ الرسول الكريم وآله الأطهار كانوا قد وعوا هذه الحقيقة بحيث رويَ عنه (ص) أنّه قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد ـ أي تضطرب وتميل ـ فأرساها بالجبال".

وهذا أمير المؤمنين (ع) يقول على ما روي عنه في خُطب نهج البلاغة: "ووتد بالصخور ميدان ـ أي اضطراب ـ أرضه".

فإنّه (ع) أشار إلى أنّ الأرض كانت مضطربة، وأنّه سبحانه أرساها بالجبال "فسكنت على حركتها"، وهذه الحركة ناجمة عن الاضطراب والميدان لا عن الحركة المقوننة والدوران.

إنّ القرآن يقول: إنّ هذه الجبال راسية في الأرض، متوازنة وحافظة لميدانها واضطرابها، ومع قساوتها وصلابتها، فإنّها خاضعة لله تعالى، متصدعة من الذل والخشوع له سبحانه.

قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر/ 21).

بإمكاننا القول: إنّ كلّ ما على الأرض من مخلوقات: إنسانها وحيوانها ونباتها وحتى صخورها وحديدها وفولاذها، كلّهم يسبحون بحمد الله ويقدسونه، ولكن لا نفقه تسبيحهم، لأنّ لكلٍّ لغته الخاصّة.

أمّا وعندما تدق ساعة النهاية، نهاية الحياة، ونهاية الدنيا، ونهاية الأرض، عندها يرحل الإنسان عن الأرض، ويخرج منها: إمّا إلى نعيم دائم في جنّة الخلد وإمّا إلى عذاب دائم في نار الجحيم، يومها تدمّر هذه الأرض، وتحطّم تلك الجبال الراسية، التي كانت بمثابة الأعمدة والأوتاد للأرض، وتطير بالهواء خفيفة كالقطن أو الصوف، قال تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة/ 5).

وفي آية أخرى عبّر سبحانه عنها بأنّها مثل الرمل، فقال تعالى: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا) (المزمل/ 14).

وفي آية ثالثة قال عنها سبحانه أنّها تسير: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) (التكوير/ 3).

وهكذا نرى أنّ العلم يتفق مع قول الله تعالى بأنّ لهذا الكون نهاية وأنّه سيعود إلى أصله الذي بدأ منه. فالأرض بجبالها الضخمة، وكلّ ما عليها وحتى الكواكب والمجرات لابدّ لها من نهاية كما قال سبحانه: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء/ 104).

بعد هذه الجولة في رحاب الأرض، لابدّ من ذكر تعداد الأرضي، وكم يوجد مثل أرضنا، وهل هناك أحياء عليها أم لا؟

قال القرآن الكريم أنّ الأراضي عددها مثل، السماوات، سبع: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) (الطلاق/ 12).

وأمّا في الأدعية والأخبار فقد ورد ذكر تعداد الأراضي كثيراً. روي عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنّه سُئل عن السماوات السبع؟

فقال: "سبع سماوات ليس منها سماء إلّا وفيها خلق، وبينها وبين الأخرى خلق، حتى ينتهي إلى السابعة".

قلتُ: والأرض؟

قال (ع): "سبع، منهن خمس فيهن خلق من خلق الرب، واثنتان هواء ليس فيهما شيء"[1].

هذا كلّ ما نعلمه عن الأراضي من هذا الطريق، التصريح بوجودها فقط، وحصر عددها بالسبعة. وأمّا من ناحية العلم العصري، فإنّه لم يتوصل إلى معلومات تذكر، سوى ما ذكرته جريدة السفير اللبنانية الصادرة بتاريخ 28/ 10/ 1995م نقلاً عن مجلة (نيوساينتست) عن أحد العلماء الأمريكان، قوله: باحتمال أن يكون هناك حياة في المريخ، وهو كوكب أحمر اللون، مترب، وشديد البرودة.

ـ القرآن يتجلى في تكوين القمر (مصباح الأرض ورفيقها):

قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (نوح/ 15 ـ 16).

وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) (إبراهيم/ 33).

وقال سبحانه: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام/ 96).

هذه بعض الآيات التي ذكرها الله في كتابه المجيد والتي تتحدّث عن القمر.

فالقمر جرم غير منير بذاته، ولكنّه يستمد نوره بانعكاس ضوء الشمس عليه، فهو كالمرآة يعكس نور الشمس إلى الأرض، بينما نور الشمس ذاتي، فهي مشتعلة أبداً إلى ما شاء الله سبحانه.

وهذا ما صرّح به القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (نوح/ 16).

وصرّح العلم أيضاً بأنّ القمر تابع للأرض، يسايرها، ويدور معها، بنفس دورتها من الغرب إلى الشرق.

وأنّ له وجهين: وجهاً مضيئاً أبداً لمواجهته للشمس، ووجهاً مظلماً أبداً لأنّه مول لها ظهره.

وأنّ له دورتين: دورة حول نفسه، ودورة حول الأرض.

وقد قضت حكمة البارئ سبحانه أن يتم الدورتين في آن واحد.

ذلك أنّ الأرض تتم دورتها حول نفسها في يوم كامل، وتتم دورتها حول الشمس في سنة كاملة، أي تدور حول نفسها 365 دورة في السنة.

أمّا القمر فيتم دورته حول نفسه وحول الأرض معاً في مدة شهر قمري واحد أي أنّه في المدة التي يدور بها حول الأرض لا يدور على نفسه إلّا مرة واحدة، يتجه بها دائماً بوجه نحو أُمّه الأرض، لا يوليها ظهره أبداً.

وقضت حكمة الخالق الحكيم أن يقطع القمر في دورته الشهرية كلّ يوم 13 درجة، ويتأخر كلّ يوم 49 دقيقة نحو الشرق، ليكشف للأرض عن جانبه المنير كشفاً متدرجاً، يبدأ به هلالاً، ثم بدراً، ثم يرجع كالعرجون القديم، حتى يختفي ويطلع بعد 29 يوماً و8 ساعات هلالاً جديداً، نعرف به عدد السنين والحساب.

وهذا ما أشار إليه سبحانه في الآية: (وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس/ 5).

ويُعتبر القمر أقرب أجرام السماء إلى الأرض، فإنّ بعده عنها حوالي 240 ألف ميل تقريباً.

ولا يوجد قمر متناسب مع أرضه كما هو قمرنا الحالي، مع كثرة ما اكتشف العلم من أقمار تابعة إلى الكواكب الأخرى، فلو لم يكن القمر يدور حول نفسه وحول الأرض في آن واحد، ولو لم يكن يقطع في دورته كلّ يوم 13 درجة، ويتأخر نحو 49 دقيقة لما كان يتنقل في منازله المختلفة، لنرى وجوهه المتغيرة ولما كان يتم الدورة في شهر واحد ليستأنف شهراً جديداً، نعرف به عدد السنين والحساب.

لو نظر أهل العلم إلى هذا التكوين البديع، المحكم، المقدر بدقة متناهية، لتعرفوا على الخالق القادر الحكيم سبحانه.

إنّ العالم العاقل يعلم أنّ القمر له تأثير كبير على الأرض، وعلى دوام الحياة عليها. فلو كانت المسافة بين القمر والأرض أقل مما هي أو أكثر، أو كان حجمه أكبر مما هو أو أصغر، أو كانت دورته أطول أو أقصر، لإختل هذا النظام كلّه بل لربما زال القمر من الوجود، لأنّه لو قرب من الأرض لزاد جذبه، فأصب المد في البحار طاغياً، يغمر اليابسة كلّها، ولو زاد أكثر لجذبته الأرض إليها، وزال من الوجود.

ولو بَعُد عن الأرض لتعطّل عمل المد والجزر بقلة الجذب، ولو زاد البُعد أكثر لانجذب لكوكب آخر غير الأرض، وخسرت الأرض فوائده. ولو كان حجمه أكبر مما هو عليه لزادت قوّة جذبه، ولو كان أصغر من ذلك لقلت.

وهكذا لو كانت دورته مثل دورة بقية الأقمار التابعة لكواكب أخرى قصيرة قصيرة في ساعات، أو طويلة طويلة في سنين لإختل النظام الذي جعله الله لأهل الأرض حسباناً، وعاد شهرنا القمري أسبوعاً، أو سنين!.

فهل هذا النظام الدقيق، وذاك القانون المتقن، إلّا دليل على عظمة المكوّن والمدبّر عزّوجلّ!! سبحان الله وتعالى عن جهل الجاهلين، وعناد المعاندين؟.

(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر/ 67).

ـ القرآن يتجلى في تكوين المياه:

هذا الماء وسره الكبير!

مَن الذي سطح البحار، وأوقد من تحتها النار؟

مَن الذي طيّر الماء البخار، فحمله السحاب وسار؟

مَن الذي وزّع السحاب في الأقطار، ليسقي به الأراضي القفار؟

مَن الذي جعل الجبال للماء قراراً، وفتق منها الجداول والأنهار؟

مَن الذي جعل المياه موزعة بعدل على أقطار الأرض لتأخذ اليابسة حقّها من الأمطار؟

مَن الذي أحكم هذه الأسرار؟ وضبط هذه المقادير بمقدار؟

إنّها حكم الواحد القهار، ذي المن والفضل والاقتدار.

قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (الواقعة/ 68 ـ 69).

وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (إبراهيم/ 32).

وقال تعالى: (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر/ 9).

أثبتَ العلم أنّ البخار المتصاعد من الأرض والذي تحمله الرياح إلى طبقات الجو العليا، يحمل كثيراً من الأحياء المجهرية المضرة، لكن أشعة الشمس، وخاصّة الأشعة ما فوق البنفسجية، وما تحت الحمراء، وغاز الأوزون ـ وهو غاز مطهر قاتل للجراثيم ـ والبرق، ومركبات كيميائية أخرى موجودة في مختلف طبقات الغلاف الجوي، هي التي تجعل الماء طهوراً بقتلها الجراثيم والأحياء المجهرية التي تحملها الغيوم والرياح.

ـ القرآن يتجلى في تكوين المياه العذبة:

الماء بمنظار العلم والعلماء له قانون، ونظام، و لا يحيد عندها أبداً!

كان اعتقاد العلماء سابقاً أنّ مصدر المياه هو السماء، ولا أحد يعرف كيف تمطر السماء. وبقي هذا الاعتقاد سائداً حتى أوائل القرن العشرين حيث أثبت العلم أنّ الأرض كانت كتلة ملتهبة بعد انفصالها عن الشمس، وأنّه بعد مرور ملايين السنين بردت أجزاؤها الخارجية تدريجياً بفعل فقدانها لبخار الماء المتصاعد منها، والذي ما لبث أن تكثّف وتحوّل إلى غيوم بعد وصوله إلى الطبقات العليا من الجوّ، ثم تساقط أمطاراً على الأرض الملتهبة التي حوّلته من جديد إلى بخار، وهكذا دواليك.

وقد أشار الله سبحانه إلى أنّ الماء من الأرض بقوله: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) (النازعات/ 30 ـ 31).

وأمّا المياه الجوفية، التي تخرج من جوف الأرض عن طريق الأنهار والجداول والينابيع، فقد كان المعتقد السائد بين العلماء حتى القرن السابع عشر أنّها تأتي من البحر، الذي تتسرب مياهه إلى جوف الأرض حيث تتخلص من ملوحتها، وتتخزن في باطنها، ثم تتفجر ينابيع وجداول وأنهاراً.

وفي سنة1670م أتى العالم الفرنسي (كلود بيرو) ومن بعده (ماريوت) الذي أثبت بصورة حسابية قاطعة أنّ كمية المياه المتواجدة في الأنهار متعلقة بصورة مباشرة بكمية المياه المتساقطة من السماء.

وكان القرآن الكريم قد أشار إلى ذلك منذ مئات السنين بقوله سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ) (المؤمنون/ 18).

وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) (الزمر/ 21).

وقال سبحانه أيضاً: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) (الحجر/ 22).

إذن لقد أثبت العلم ما أشار إليه القرآن الكريم، وهو أنّ دورة المياه العذبة التي تخرج من البحار بوساطة التبخر الحاصل من حرارة الشمس التي تضرب الأرض بصور مختلفة بين المناطق الاستوائية والمعتدلة والقطبية، هي التي تحوّل قسماً من هذه المياه إلى بخار غير منظور.

ومن جهة أخرى فإنّ ما يساعد على تسخين مياه البحار والمحيطات هو حرارة جوف الأرض الذي ما زال على أصله من الانصهار والحمم والدرجات العالية من الحرارة.

يرتفع هذا البخار في الجوّ فتحمله الرياح إلى الطبقات الباردة، حيث يتكثّف ويتحوّل إلى غيوم مرئية.

وما الغيوم في الحقيقة إلّا قُطيرات مائية صغيرة جدّاً. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) (الرعد/ 12).

وهكذا نجد أنّ دورة المياه من الأرض وإلى الأرض تعود، لا يزاد عليها شيء، ولا ينقص منها شيء.

ـ القرآن يتجلى في نعمة البحار وأسرارها:

قال تعالى: (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الجاثية/ 12).

وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ) (لقمان/ 31).

نِعم الله لا تُعد ولا تُحصى، ومن نِعمه سبحانه أن خلق البحار على الحالة التي هي عليها، من العمق والملوحة، وملأها بالأسماك التي هي من أعظم الأغذية للإنسان، وخلق فيها كثيراً من الحيوانات المفيدة له.

وجعلها سبحانه أيضاً قابلة لملء السفن التي تسير فيها من بلد إلى بلد، للتواصل والتجارة. فلولا هذا السطح العظيم من الماء الذي يغمر ثلثي الكرة الأرضية، لما تمت عملية التبخر، ولما تمت عملية المطر الدورية، التي هي قوام الحياة على الأرض.

ولو جعل ماء البحار عذباً، لدبّ فيه الفساد، بما فيه من الحيوانات، وبما يصب فيه من سواقط اليابسة. ولو جعل في ناحية منعزلة من الكرة الأرضية، غير مفرق بين القارات، لتعطلت دورة المياه العجيبة، في صعوده من البحر بالتبخر، وعودته إليه من طريق الأنهار والأمطار، ولعادت اليابسة مستنقعاً لمياه الأنهار.

وقد ذكر سبحانه في آيات كتابه المجيد نِعمة جريان السفن في البحر، (وفيه إشارة خفية إلى قانون (أرخميدس) الذي تُبنى على أساسه الفلك).

فهل كان هذا القانون المحكم المتزن الدقيق، الذي يجعل كلّ جسم غاطس في الماء يتلقى من الأسفل إلى الأعلى دفعاً عمودياً قائماً مساوياً لوزن الماء المعادل لحجمه.

فإذا فاق وزن الجسم وزن الماء غرق، وإن نقص عنه طفا!.

هذا القانون الذي بسره تسبح الأسماك، ويستطيع الإنسان أن يبني سُفناً كالأعلام، ضخامة، واتساعاً، ووزناً. ويجعلها لو شاء من حديد، ويحمل في جوفها ما شاء من الأثقال، ويضمن بالحساب الدقيق أن يلقيها في البحر فلا تغرق!.

ـ القرآن يتجلى في البرزخ بين البحار والأنهار:

إنّ ما لفت نظر أهل العلم في زماننا هو أنّ مياه بعض البحار لا تمتزج مع مياه بحر آخر، فمثلاً عندما تلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض المتوسط لا تمتزج المياه مع بعضها! بل إنّ مياه المتوسط تسير تحت مياه الأطلسي، لأنّها أثقل منها.

وكذلك عندما تلتقي مياه البحر الأسود بمياه المتوسط عند مضيق (البوسفور) فإنّهما يشكّلان ماءين متلاصقين فوق بعضهما البعض، مياه البحر الأسود فوق مياه البحر الأبيض المتوسط، لأنّ المتوسط أشد ملوحة فهو أثقل من الأسود.

ومن المعروف أنّ مياه الأنهار الحلوة لا تمتزج مع مياه البحار والمحيطات المالحة، فإنّها يمكن أن تختلط معها في مكان مثل اختلاط الزيت مع الماء، ولكنّها لا تمتزج بها بحيث يذوب أحدها بالآخر.

فإنّ ماء نهر (الأمازون) الذي يصب في المحيط الأطلسي يجعل الماء حلوة إلى مسافة مئات الكيلومترات.

وهناك أنهار لا تمتزج مع أنهار أخرى، مثل نهري (الكنج) و(الجامونا) في مدينة (الله آباد) في الهند.

وفي باكستان الشرقية أيضاً هناك نهران يسيران جنباً إلى جنب ولا يمتزجان مع بعضهما، ويمكن مشاهدة أحدهما منفصلاً عن الآخر، وكأنّ هناك حداً يفصل بينهما.

وقد أشار سبحانه وتعالى بكثير من آيات كتابه المجيد إلى هذه الخاصية للماء، وأنّ هناك برزخاً وحاجزاً بين المياهين لا يبغي بعضها على بعض، ولا يمتزج بعضها ببعض.

قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (فاطر/ 12).

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) (الفرقان/ 53).

وقد قيل: إنّ من الأسباب التي جعلت عَالم البحار المعروف (خوستو) يعتنق الإسلام قوله تعالى:

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) (الرحمن/ 19 ـ 20).

أوَليس هذا النظام الدقيق، والقانون العميق دليلاً على عظمة الخالق المكون سبحانه وتعالى؟.

ـ عظمة القرآن الكريم:

يقول أحد الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام: هل يتأتى لجميع فلاسفة العالم أن يثبتوا غلطة واحدة في القرآن، حتى لو ارتكنوا إلى كلّ ما في أيديهم من العلوم العصرية؟!.

إنّهم لو وجدوا فيه خطأ صغيراً ما كانوا إلّا مظهريه. ولكن أنى لهم ذلك، والعلوم كلّ يوم في تبدل وتغير، وفي كلّ لحظة تظهر معانٍ باهرة لآيات قرآنية، ما كنّا لنفهم معناها إلّا بعد تقدّم العلوم؟.

لنضرب لذلك مثلاً: كان الفلكيون يدعون أوّلاً أنّ الأرض ثابتة والشمس متحركة، ثم قالوا: بل الأرض متحركة والشمس ثابتة، ثم جاءوا اليوم يقولون علمنا الآن أنّ كلاً في فلك يسبحون، وأنّ الشمس تجري لمستقر لها.

من هنا علمنا أنّ العلوم تتغير وتترقى، وأنّ القرآن ثابت لا يتغير بالحوادث.

فإن وجد في الكتاب الحكيم شيء لا نفهمه، لوجب علينا أن ننتظر رقى العلوم وأن لا نشك لحظة في صحّة القرآن. ►

 

الهامش


[1] - وسائل الشيعة، رقم الحديث2645.

 

 المصدر: كتاب القرآن يتجلى في عصر العلم

ارسال التعليق

Top