• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكلمة جدل الحرية والقانون

د. صباح ياسين

الكلمة جدل الحرية والقانون

  في رسالة عمانؤيل كانط إلى فرنسيس بيكون التي كتبها تحت عنوان "التجديد الكبير، على سبيل المقدمة[1] يقول: "نلزم الصمت في ما يخصنا، أو في ما يخص ما نطرح، فنطلب من المرء أن يحسبه، لا رأياً من الآراء بل مؤلفاً، وان يكون على ثقة من أننا نضع أسساً، لا لملّة من الملل أو هوى من الأهواء، بل لفائدة البشرية وعظمتها، وأن يفكر من يفكر ثمّ بقسطاس بما ينفعه، وأن يهتم بالصالح العام ويسهم فيه بقسطه". وفي تماثل نصيّ آخر لمضمون رسالة كانط تحاور الشاعرة غير ترود شتاين الكاتب الروائي إرنست همنغواي[2]:

قالت: ماذا على الكاتب أن يعمل؟ قال: يدع الناس يعيشون، يحيون حياتهم، لا يقول شيئاً عنهم، بل يدعهم وحدهم يتكلمون. إنّ هذه البداهة عن مضمون التواصل تملك مزية واحدة لا يمكن إغفالها، وهي الحق المطلق من دون حواجز في القول والإفصاح، إنها في الواقع تختصر إمكانية اعتبار اللغة والفكر ميداناً واحداً لتوليد إمكانية الحرية في التعبير، وهي بالتالي المدخل المناسب لتحديد أطر تلك الحرِّية، من دون المساس بالثوابت التي تعني أنّ التواصل عبر التاريخ كان الضرورة لتأسيس نطاق الوعي والتفاعل، فلا يمكن فصل التواصل عن التاريخ المشترك الذي هو أكثر وأشمل من لسان مشترك. بل يمكن أن يكون أقرب إلى تجسيد الوعي بالحق في الحرية والتعبير الخاص، ثمّ تطور مع الحاجة إلى بناء المجتمعات الأكبر ثمّ الدولة القومية. إنّنا في الواقع عبر اللغة نملك قاعدة حرية التعبير عن وعينا، ولا يمكننا من دون لغة قادرة على توصيف وإحكام معنى حرية التعبير أن نتكيف مع متطلبات التواصل والتعارف وإنشاء منظوماتنا الاجتماعية الخاصة، ولذلك يشكل الانقطاع في فهم اللغة والتواصل حَجْراً على الحرية وتعطيلاً لمعناها، بل انتفاء لوجودها. وفي روايته التي ما زالت حية بمعانيها المتصلة بواقعنا، يقول الكاتب هـ. ج. ويلز في قصته آلة الزمن وبعد أن يغور بعيداً في عالم المستقبل محاولاً كشف رموزه: حاولت أن أنادي عليهم، لكن الظاهر أن لغتهم كانت مختلفة عن لغة ناس العالم العلوي، لذلك اضطررت إلى أن أتخلى عن جهودي اللامجدية، ودار في ذهني التفكير بالهروب قبل القيام بالاستكشاف[3]. إذاً، فإنّ الذاكرة اللامتناهية التي تحمل كل الرموز والدلالات لصياغة اللغة تقف عاجزة ومكبلة دون أن تحدث التطابق بين الرموز ومنظومة إدراكها وعندما تصد بجدار من عدم القدرة على التجاوب، فالحرية هنا ليس في المنع أو الإقصاء، وإنما في عجز فرضية التواصل عن تحقيق أهدافها، وإلغاء للصبغة الفطرية للإنسان في الإمساك باللغة وتوظيفها كوسيلة لتمكين الحرية ذاتها من الانتقال نحو الآخرين والإنغماس معهم في فكرهم وسلوكهم.   - أوّلاً: اللغة والحق في التعبير يمكن أن يتصور المرء بسهولة ما يمكن أن يكسبه من التواصل مع الآخرين، وليس ذلك رهناً بوجوده فحسب، فالإنسان كائن يسكن الآخرين ومن دونهم لا وجود له. فالاتصال والتواصل شرط لرفع الالتباس بوجوده معهم وقبولهم للتعامل معه، وعلى سبيل المثال، فإنّ الأطفال على غرار نموذج "طرزان".. أولئك الذين عاشوا مشردين بين الحيوانات (الأطفال المتوحشين) وأضحوا عاجزين عن تعلم اللغة بعد تجاوزهم سناً معيّنة. لا يمكن أن يتواصلوا مع جنسهم بعد أن فقدوا إمكانية اللغة والقدرة على التعبير عن آرائهم. وهنا فإنّ اللغة محكومة أساساً ليس بوعي شروطها بل الحق في "التعبير"، وذلك الحق هو الذي يعطي "الآخر" الشكل المطلوب لنداء التواصل وغايته، ويفضي إلى توليد معنى الحرية. ذلك المعنى الذي كان، ومنذ لحظة التكوين الأولى للبشرية، يبحث عن صورته ومعالمه التي ما زالت لغاية اليوم تعيش في خضمّ تكوين مستمر لا نهاية لحدوده. وهنا، فإنّ البحث في "معنى الحرية" بالتلازم مع الحق في التعبير عنها يمر عند تخوم كل خطوات الوعي في تكوين المجتمعات والحضارات عبر التاريخ الإنساني، إذ إنّ اللغة التي هي ليست مجرد رموز وقواعد واصفة ومحددة لها، وإنما آلية لتشكيل الحقائق والأفكار التي تحمل نظرة شاملة للحياة، فإنها تتعرض إلى الضغوط والعوائق ذاتها المفروضة على الإنسان من بيئته، ونحن هنا في الواقع بين نمطين من الإصرار (العناد) على المرور في طريق ضيق لا يسمح إلا بصعوبة لمرور شخص واحد، اتجاه يدفع بقوة لتأكيد الحق في التعبير بكل أشكاله، وآخر يرفض ذلك ويقاومه ويسعى نحو إلغائه، إنّه في الواقع صراع أزلي بين الحرية ونقيضها، وبين حرية التعبير كحق، وممارسة المصادرة والإلغاء، كسلوك استبدادي يمارَس بأشكال وصيغ مختلفة. وإذا كان العلم، كمفهوم وممارسة، يخضع لقوانين التراكم المعرفي، فإنّ الحرية في التعبير تستلزم أن تتطور مع اتساع مدى إيصال الرأي نحو الآخر أو الآخرين، وبتلك الطريقة التراكمية أيضاً، مدعمة بأعراف اجتماعية، أو نصوص سماوية، وغير ذلك لتحصل على حق الاعتراف بالمرور الآمن نحو محيطها، وقد تبدو هذه النقطة نظرية إلى حد ما، غير أنها في الواقع كذلك، فالحرية في التعبير تولّد نقيضها، والاصطراع يولد حالة أخرى، واتساع العلائق يشدد الكوابح والعوائق. إن ذلك كله يقود إلى الاعتراف بوجود "مناخ" عام للتعبير، شأنه شأن المعادن التي تتأثر بدرجات الحرارة والرطوبة.. إلخ. التعارض هنا لا يمكن أن يقود إلى إزاحة طرف على حساب آخر، بل إنّه سيولد لكل طرف من الأطراف دافعية صياغة شرعية يأمل من خلالها اقتناص حق الامتياز، وهذا ما يفسر لنا كيف أن قوانين حرية الرأي والتعبير كانت تنمو في الشرائع الوضعية منذ شريعة حمورابي ولغاية الآن، وفي الوقت ذاته تترسخ تقاليد وإجراءات للقمع والمصادرة للحرية، وكل إحراز لشرعية الحق في الرأي تقابله في الطرف الآخر قدرات جديدة للإعاقة والتعطيل، ولا يمكن الفصل في المسارين بوضوح، فالمكاسب هنا، خسائر في الطرف الآخر، وكل ذلك يفهم تحت عنوان "ضرورة القانون" باعتباره وسيلة لتحقيق الانسجام الاجتماعي عن طريق كبح مشاعر الشرّ لدى الإنسان، انطلاقاً من الفرضية التي مفادها أنّ الإنسان مسكون بالشر بطبيعته، وأن أي تقدم اجتماعي لا يمكن تحقيقه من دون وجود قانون العقوبات الزاجر[4]. إنّ إشكالية النظر إلى القانون باعتباره وسيلة للإصلاح يجب أن تتوافق مع تطبيقاته لضمان حرية المجتمع والدفاع عنه من الشرور والخراب، ولعل في رسالة (كتاب) طاهر بن الحُسين لابنه عبدالله بن طاهر عندما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما، تفصيل لمعنى الحكمة في التزام العدل بين الرعية والموازنة في الحقوق والواجبات: "فإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت"[5] "ولا تكلف أمراً فيه شطط واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك أجمع لأنفسهم وألزم لرضاء العامة، وأعلم أنك جُعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً".   - ثانيا: الدولة والحرية والقانون وهنا تقف الدولة كحارسة للحرية عبر تشريعها للقوانين الضابطة، فالقانون الذي يصنع الحرية هو مصدر قوة لها، وهذا الالتزام من قبل الدولة يعني أنّ الدولة أضحت طرفاً في ضمان الحرية، فكيف لنا أن نفسر أنّ الدولة قد تبدو، أو تصبح عملياً محدداً لتلك الحرية، أو قد تكون أداة للقمع والتعطيل!! إنّ الدولة في الواقع هي وحدها التي تستطيع عملياً أن تحدد قانونياً اتخاذ الإجراءات الملائمة لتقرير حجم ومدى الحريات المقررة، وهذه الإجراءات القانونية والدستورية منها ما يمكن أن تحجب أو تقلل من الحريات العامة، فالقانون الذي يضع الحرية وهو الذي يشكل مصدر القوة لها[6]، ولذلك فإنّ الحريات العامة، وبضمنها الحرية الفردية وحرية التعبير، تجد تعبيرها وضمان تحققها في دولة القانون، وغير ذلك هو الفوضى، أما الدولة التي تتجاوز مضمون شرعيتها وقوانينها بصيغ القمع والمصادرة والاستبداد، فهي الدولة التي اتُّفق على وصفها بأنّها "دولة فاشلة". وعلى ذلك الأساس، فإن لا حرية عامة أو خاصة خارج نطاق القانون، وفي هذا الإطار يندرج مفهوم تصنيف الحريات العامة بين حرية إيجابية وأخرى سلبية، والحرية السلبية هي تلك الحرية التي تتوفر خارج إطار الدولة وقوانينها وتشريعاتها، إنّه تعبير مرادف للفوضى حين تصطدم المصالح وتتقاطع الغايات وتتراجع قيم المساواة إلى مساحة التعسف وفرض القوة... إلخ. وعملياً، ليس هنالك من حدود فاصلة، في المراحل المتعاقبة من التاريخ الإنساني، للعلاقة بين السلطة والإعلام، وإنما كانت الخصائص العامة للنظم السياسية وتوجهاتها المحكومة بتطور مجتمعاتها ودرجة التطور الحضاري فيها، هي التي تؤسس للنظرة نحو الحاجة إلى الإعلام باعتباره وسيلة لتمكين السلطة من ممارسة دورها، ولذا فإن مفهوم السلطة، كان بحاجة إلى قواعد منظمة تؤسس له الشرعية، وقديماً كانت الفلسفة الثيوقراطية التي تقوم على تأليه رموز السلطة، أو النظر إليهم باعتبارهم مختارين من الله لينفذوا مشيئته (نظرية الحق الإلهي التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى)[7]، ثمّ جاء العصر الوسيط وعهد التنوير الذي مهد للعصر الحديث، وانطلاق الأفكار التي تدعو إلى تأسيس علاقة جديدة بين السلطة والمجتمع (نظرية العقد الاجتماعي) والتي فتحت الباب أمام تنامي الأفكار والدعوات لانتزاع السلطة من منظومة الحكم المطلق إلى اعتبار المجتمع مصدراً للسلطات، واستناداً إلى ذلك فقد تطورت مفاهيم تتصل بالعمل على تعزيز حرِّية المجتمع والأفراد، وفي المقدمة من ذلك، حرية الرأي والتعبير. ومن مرحلة الإعلام الشفهي عبر التاريخ[8] إلى مرحلة الإعلام الخطي بعد اكتشاف الحروف والكتابة، وصولاً إلى مرحلة الإعلام الطباعي ثمّ الإعلام الإلكتروني القائم على استخدام التقنيات التواصلية الحديثة مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت، فإنّ الإعلام وفي كل مرحلة كان له قوانينه ومحدداته، وأمام كل نمط من وسائل الاتصال نوع من الرقابة، وكان هنالك أسلوباً من المنع والمصادرة، ولم يشهد التاريخ الإنساني تصالحاً أو مهاونة بين الطرفين، بل إن قوانين المراقبة تتسع من تنوع الأساليب والوسائل الإعلامية، فالرقيب، مطلع القرن الماضي، على الصحافة اليومية المطبوعة، هو غيره الرقيب اليوم على المدونات الإعلامية على شبكة الإنترنت. ولكن نمو المجتمعات واتساع دائرة المشاركة في الرأي والقرار، وبناء منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، إلى جانب المنظمات الصحافية المهنية وإصدار القوانين الحامية للحريات والأداء الإعلامي، جميعها كانت عاملاً إضافياً في تعطيل أو تخفيف آثار الرقابة المباشرة، وعملياً فقد انتهى عصر الإعلام التابع لمصادر محددة وغالبها حكومية، وأضحى اليوم ينتشر بين منابر حكومية، وأخرى لمؤسسات خاصة أو لمنظمات المجتمع المدني، وثالثة للأفراد أو من الذين وجدوا من الشبكة الإلكترونية الواسعة التي توفرت عبر الإنترنت وخدماته، ميداناً واسعاً للإفلات من دائرة الرقابة والتحكم. ومع أنّ التطور التكنولوجي في ميدان الاتصال قد أسهم في تعزيز الحريات الإعلامية، إلا أن وسائل السيطرة والمراقبة قد تطورت أيضاً على مستوى الواقع، بأشكال وصيغ أخرى مختلفة. وعملياً، فإنّ الإعلام لم يخرج من دائرة الرقابة المسبقة أو اللاحقة إلا بحدود معينة، وفي الوقت ذاته ظهرت ضمن أدبيات الدراسات الإعلامية مفاهيم في إطار المسؤولية الأخلاقية الجماعية، وفي حدود الحرية المسؤولة لوسائل الإعلام التي تحقق التوازن بين حرية وسائل الإعلام ومصالح الأفراد والمجتمعات من جهة أخرى. وإذ يتحدث علماء الإعلام والاتصال عن مفاهيم جديدة في إطار ممارسة حرية التواصل في الإطار الإعلامي، إلا أنّ الواقع العملي يشير إلى شيء مختلف تماماً، فالحريات (المفترضة) في إطار القوانين والتشريعات والمواثيق تبقى في حدود الصياغات اللفظية، أما على مستوى الممارسة فالواقع شيء مختلف، يكفي أن ننظر إلى ما تعرضه المنظمات المهنية الإعلامية وبشكل خاص مراصد الحريات الإعلامية ومنها منظمة (مراسلون بلا حدود) لنجد أن انتهاك الحرية الإعلامية لم يعد حصرياً ضمن مسؤولية مهنة الرقيب، بل تعدى ذلك إلى كل سلطات الدولة، وبشكل خاص الأجهزة البوليسية والقمعية، وقد أشرنا في كتابنا الإعلام: النسق القيمي وهيمنة القوة إلى طبيعة الممارسة التعسفية التي اعتدنا رؤيتها يومياً على شاشة التلفزيون لمنع الصحافيين بالقوة من ممارسة عملهم، والتي تصل إلى حد الضرب وتحطيم الكاميرا والميكرفون، أو حيث تتجه رصاصة مباشرة إلى عدسة الكاميرا.. أو إلى قلب المصور!   - ثالثاً: إعادة تعريف الرقابة إنّ كلمة (وباء) غالباً ما تفهم حسب معناها الأولي: انتشار غير مسيطَر عليه لمرض شديد العدوى في إطار حدود جغرافية معيّنة، ولكن معنى الوباء في إطار آخر قد لا يوحي بكارثة بيئية أو إنسانية محتمة الوقوع، ولكنه يفسر ظاهرة تثير الخوف والقلق على مصالح ومكاسب قد بذل الكثير في سبيل ضمانها وحمايتها، ولذلك فإن استعارة مفهوم (الوباء) لتوصيف ظاهرة انتشار إجراءات الرقابة والقمع لا يبدو مبالغاً به أو شديد الحساسية والخطورة، إذ اتسعت ممارسة متنوعة الأساليب لأحكام السيطرة على وسائل الإعلام، لعل أكثرها خطورة هي تلك الإجراءات القسرية أو حتى المغلفة بالقوانين تحت حجة (حماية المجتمع) أو (الدفاع عن الآداب العامة والخصوصيات الاجتماعية)، إذ إنّ الذي يحدث عملياً هو تطوير سياسة الرقابة من المفهوم القديم إلى معطيات جديدة تتصل بالإنكار والحرمان لحقّ وسائل الإعلام في الرأي ومتابعة وتغطية الأحداث الساخنة في السياسة والمجتمع والاقتصاد.. إلخ. وهنالك ظاهرة تتوالد على مستوى إجراءات الرقابة ولكن تحت عناوين أخرى، إذ تكيف السلطة إجراءاتها تحت مسميات أخرى، وقد تلجأ الحكومات إلى تهديد وسائل الإعلام وإشهار قوة القانون بوجهها[9]، وتدفع بعض أجهزة السلطة التنفيذية للتوجه نحو القضاء ورفع دعاوى ضد وسائل الإعلام، ويصاحب كل ذلك تهديد غير مباشر باتخاذ إجراءات انتقامية مثل الغلق أو المصادرة، وهي تعبيرات تتجاوز معنى ممارسة الرقابة نحو الإلغاء وهو أمر يعبر عن أقصى أشكال التعسف في استخدام السلطة. وعلى ما يبدو فإن بعض الحكومات قد انتهت إلى أن تشريعاتها وقوانينها المنظمة لوسائل الإعلام والمؤطرة لممارسة حرية الرأي والتعبير، أضحت أكثر سعة ومرونة، وغير قادرة على التجاوب مع الانتشار الواسع الذي تحقق عبر استخدام الإنترنت والهاتف النقال في إشاعة الأخبار والتقارير الإعلامية، فلم يعد عنوان الرقابة هو (مقص الرقيب)[10] وحسب، وإنما تعدّى ذلك إلى مفهوم وضع قوانين (رقابية) ضمن التشريعات الرسمية، تخوّل السلطة التنفيذية للتدخل حيث اقتضى الأمر، لتغير هيئة تحرير المطبوع، أو فصل وسجن المحرر المعني، هذا غير الإغلاق والغرامة المالية ومصادرة المطبوع من السوق.   - رابعاً: مع الرقابة وضدها ويبقى الجدل محتدماً حول شأن الرقابة، ولكنه جدل يختفي وراء أكمة مبهمة، أغلبها يتوارى عند حدود منظومة القيم الاجتماعية، أو محرمات الأمن الوطني، ومقدسات السيادة والحرية، ويذكرنا ذلك بالمعارك الأدبية التي كانت تحتدم حول (الأدب الممنوع) الذي يتصل بالاقتراب من المحرمات والمسكوت عنه اجتماعياً وكيف أن كل طرف يتمسك بأهلية رأيه، وقد يوظف من أجل ذلك كل ما يستطيع من قوة، أو محاولاً تكييف القانون لصالح دعواه.. إنّ الرقابة بالمعنى العام قد ارتبطت بمفهوم الحرية، والحرية وثيقة الصلة بتاريخ الشعوب في كفاحها من أجل الخلاص من السيطرة والهيمنة الاستعمارية. وغالباً ما يأتي إدراك مفهوم الرقابة متلازماً مع معنى الاستلاب أو القهر، وقد اعتبر الكثير من حملة رايات النهضة والتجديد الحرية باعتبارها من أهم الدعامات السياسية للدولة الحديثة، ولا تتأسس إلا فيها، ومن ثمّ فهي وحدها القادرة على أن تخلق مجتمعاً حقيقياً قوياً للوطن[11]. والمشكلة هنا ليست في تعريف معنى الرقابة، ولكن في تلك الاستخدامات التي حولتها من وسيلة مشروعة لحماية الأمن الاجتماعي وحرية الفرد، إلى ممارسة منظمة تهدف إلى تمكين السلطة من ممارسة القهر ومصادره الرأي وحرية التعبير، وبالتالي فقد وضعت (الرقابة) في الخندق المقابل لحرية المواطن، كما إن كل القوانين والتشريعات والمواثيق التي أصدرتها البشرية ومنظماتها السياسية والاجتماعية لتأكيد حرية الرأي والتعبير، تم إفراغ محتواها في تشريعات وقوانين أصدرتها الدول (لتنظيم) آليات التعبير وحرية الرأي، وأضحى الكثير من الدساتير والتشريعات المتعلقة بأنشطة وسائل الإعلام كوابح ومعوقات منظمة لصد كل نشاط معبّر عن الحاجة لتوسيع مساحة الرأي الحر والقدرة على تفعيل النقد لغاية المصلحة العامة للمجتمع.   الهوامش:
[1]- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة وتقديم موسى وهبة (بيروت: معهد الإنماء القومي، 1988)، ص23. [2]- س. ر. مارتين، في تجربة الكتابة، ترجمة تحرير السماوي، الكتاب للجميع؛ 13 (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 2006)، ص25. [3]- هت. ج. ويلز، آلة الزمن: رواية خيال علمي، سلسلة روائع القصص العالمية (عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2005)، ص146. [4]- إدريس فاضلي، الوجيز في فلسفة القانون (الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 2003)، ص50. [5]- أبو زيد عبدالرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة ابن خلدون (دار القلم، 1978)، ص 308-309. [6]- حسان محمد شفيق العاني، نظرية الحريات العامة: تحليل ووثائق (بغداد: جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، 2004)، ص19. [7]- فاروق أبو زيد، الإعلام والسلطة: إعلام السلطة وسلطة الإعلام (القاهرة: عالم الكتب، 2007)، ص17. [8]- لعل الإعلام الشفهي هو المرحلة التأسيسية والكبيرة عبر التاريخ الذي تمثل في المنادين والخطباء على المنابر والتجمعات السكانية، أو الشعراء ورواة القصص، وغير ذلك من منشدي الأغاني الحماسية في الحملات الحربية. [9]- نشرت الحياة في 14/4/2009 ونقلاً عن وكالة الأسوشييتد برس، ونقلاً عن بيان للحكومة العراقية اتهاماً لوسائل إعلام محلية وعربية ودولية بمحاولة إثارة فتنة طائفية، وأضافت أنّ الجيش العراقي رفع دعوى ضد صحيفة الحياة وقناة الشرقية الفضائية، بتهمة تحريف أقوال ناطق عسكري، وأعلن المكتب الإعلامي للحكومة العراقية أن بعض وسائل الإعلام أطلق (حملة منسقة ضد الحكومة العراقية) في إشارة إلى التقارير التي تحدثت عن أزمات داخلية. [10]- كانت الصحافة العراقية في عقد الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن الماضي تخضع للرقيب، وغالباً ما يجد القارئ في محل المقال الافتتاحي فراغاً وذلك يعني أنّ المقال قد رفع من قبل الرقيب، وكرد على ممارسة الرقيب بدأت الصحف تنشر في موقع المقالات التي يحذفها الرقيب كلمة واحدة هي (الرقيب) بما يعطي القارئ إشارة إلى أنّ الرقابة لم توافق على نشر الرأي. وعرفت الصحافة في أوروبا مطلع القرن الماضي دوراً كبيراً لممارسة الرقابة على المطبوعات وكانت الرقابة آنذاك أداة سياسية قوية مكنت من طمس تطور الرأي العام، وقد انتشر آنذاك اسم (اناستازيا) الذي يرمز إلى الرقابة المتعسفة والمسلحة بمقص كبير، والاسم والرمز يأتيان من أيام لويس الثامن عشر، وذلك اسم أصبح عنواناً للرقابة المستبدة.. للمزيد، انظر: روبرت نيتز، تاريخ الرقابة على المطبوعات، ترجمة فؤاد شاهين (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2008)، ص127.

[11]- لقد ربط الطهطاوي الحرية بالوطن، واعتبر أن أساس الانتماء لا يكون إلا بتمتع الفرد بحقوقه في بلده، وأن أهم الحقوق التي يتمتع بها المواطن داخل دولته تقوم على مبدأ الحرية. للمزيد، انظر: فلسفة الحرية، أعمال الندوة الفلسفية السابعة عشرة التي نظمتها الجمعية الفلسفية المصرية بجامعة القاهرة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009)، ص143.

المصدر: كتاب الإعلام.. حرية في انهيار

ارسال التعليق

Top