• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام رسالة عالمية

د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري

الإسلام رسالة عالمية

 

◄إنّ الإسلام هو الدين الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى إلى نبيّه ورسوله محمّد بن عبدالله (ص)، حين أنزل عليه القرآن مصدِّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، فهو رسالةُ السماء الخاتمةُ لما فيه الخيرُ والصلاحُ للإنسان، في دنياه وأخراه، إلى يوم الدين. فقد بعث الله محمّداً (ص) رسولاً للعالمين، ولم يبعثه لقومه العرب من دون غيرهم، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ/ 28)، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (الأحزاب/ 45)، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف/ 158). وأكدت الرسالة الإسلامية على الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وقد بلّغ النبي (ص) هذه الرسالة في حجة الوداع، فتلا الآية، وقال ما خلاصتُه: "ألا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلّا بالتقوى". وهذه الوحدة الإنسانية تتضمّن الدعوة إلى التآلف بالتعارف، وإلى ترك التعادي بالتخالف.

ولما كان الإسلام قد أوجب الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم، (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة/ 285)، وبيّن أنّ التفرقة بينهم في الإيمان هي الكفر حقّ الكفر، وأنّ الإيمان بالجميع بغير تفرقة هو الإيمان حقّ الإيمان، فإنّ ذلك يؤكّد تأكيداً قاطعاً على عالمية الرسالة الإسلامية، ويثبّت إنسانية هذا الدين. وهذا – كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا – مبنيٌّ على الإيمان بأنّ دين الله تعالى الذي أرسل به جميع رسله، واحدٌ في أصوله ومقاصده من هداية البشر وإصلاحهم وإعدادهم لسعادة الدنيا والآخرة، وإنما كانت تختلف صور العبادات والشرائع باختلاف استعداد الأقوام، ومقتضيات الزمان والمكان، حتى بُعث الرسول العام بالأصول الموافقة لكلّ زمان ومكان، مع الإذن بالاجتهاد في المصالح التي تختلف باختلاف الأطوار والأحوال، وقد انفرد بهذه الحقيقة العادلة، المسلمون من دون أهل الملل والأديان. فقد كرَّم الإسلام بهذا نوع الإنسان، ومهد به السبيل للألفة والأخوة الإنسانية العامّة.

وعالمية الإسلام تجعل الثقافة والحضارة الإسلاميتين منفتحتين على حضارات الأُمم، ومتجاوبتين مع ثقافات الشعوب، مؤثرتين ومتأثرتين. إنّ الإسلام يُنكر (المركزية الحضارية) التي تريد العالم حضارةً واحدة، وتسلك سبل الصراع – صراع الحضارات – لقسر العالم على نمط حضاري واحد، لأنّ الإسلام يريد العالم (منتدى حضاراتٍ) متعدّدة ومتميّزة، ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعدّدة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القَسْريّة، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعدّدة أن تتفاعل وتتساند في كلّ ما هو مشترك إنسانيٌّ عام.

وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً، فإنّه في جوهرِ رسالته وحقيقة مبادئه، لا يعني أيضاً (المركزية الدينية)، التي تريد العالم ديناً واحداً، فهو ينكر هذه المركزية الدينية، عندما يرى في تعدّدية الشرائع الدينية سُنّةً من سنن الله في الاجتماع الديني، لا تبديل لها ولا تحويل (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة/ 48)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود/ 118-119)، فهو – سبحانه – قد خلقهم للتنوّع والاختلاف، لكنه يريد لكلّ الملل والشرائع والديانات وحدةً جامعةً لتنوّعها، ورابطة ضابطة لاختلافها، وحدة في: توحيد الخالق المعبود، وفي الإيمان بالغيب، وفي العمل الصالح، فهذه هي أصول الدين الإلهي الواحد، التي اتفقت فيها وعليها كلّ الشرائع والنبوات والرسالات، من آدم، إلى إبراهيم إلى موسى، إلى عيسى، إلى محمّد عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

ومبدأ عالمية الرسالة هو من مبادئ الإسلام الراسخة، وهو الأساس الثابت الذي تقوم عليه علاقة المسلم مع أهل الأديان السماوية. ومن هذا المبدأ تنبع رؤية الإسلام إلى التعامل مع غير المسلمين. فلا تكتمل عقيدة المسلم، إلّا إذا آمن بالرسل جميعاً، لا يفرق بين أحد منهم. وهذا هو البُعدُ الإنساني الذي يُعطي للتسامح في الإسلام مساحات واسعة. يقول تعالى: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) (آل عمران/ 3-4)، ويقول عزّ من قائل: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) (الصف/ 6).

ولا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنساني الذي جعله الإسلام أساساً راسخاً لعلاقة المسلم مع غير المسلم، على أنّه انفلاتٌ، أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين، فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، ولكنه يؤسّس للعلاقات الإنسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التعارف بين الأُمم والشعوب والتعاون فيما بينها.

إنّ الحقيقة التي لا شكّ فيه هي أنّ الإسلام يؤكد على إعلاء الرابطة الدينية على كلّ رابطة سواها، سواء أكانت رابطة نَسَبية، أم إقليمية، أم عنصرية، أم طبقية، فالمسلم أخو المسلم، والمسلم أقرب إلى المسلم من أي كافر بدينه، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، وهذا ليس في الإسلام وحده، بل هي طبيعة كلّ دين، وكلّ عقيدة.

ولكن الرابطة الدينية هذه لا تنفي روابط شتى تشكّل قاعدةً للحياة المشتركة بين المسلمين وبين غيرهم من أهل الأديان السماوية. كما إنّ هناك ألواناً من الأخوة يعترف بها الإسلام غير الأخوة الدينية، فهناك الأخوة الوطنية، والأخوة القومية، والأخوة الإنسانية.

ومن المبادئ الثابتة لعالمية الإسلام والمؤكِّدة لمبدأ التسامح، أنّ الإنسان مكرّم بحكم أنّه إنسان، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70). والانتساب لآدم وحواء وشيجةٌ وقربى ورَحِمٌ تجعل من الناس جميعاً أسرة واحدة في شبكة واسعة من أبناء العمومة والخؤولة، ومن هذا المنطلق لابدّ أن تُصاغ العلائق بين الناس والناس. وتتشعب الأسرة الإنسانية وتنساح في أرجاء الأرض، فلا يني خالقها سبحانه وتعالى يذكرها في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، وكلمة (لتعارفوا) في الآية تحمل معنيين: الأوّل أن يعرف بعضكم بعضاً، والثاني أن تتعاملوا فيما بينكم بالمعروف. ومفهوم التعارف ذو سعة، يمكن أن يشمل كلّ المعاني التي تدلّ على التعاون والتساكن والتعايش، ويمكن أيضاً أن يستوعب التعارفُ قيم الحوار، والجدل بالتي هي أحسن، والاحترام المتبادل. ►

 

المصدر: كتاب الحوار من أجل التعايش

ارسال التعليق

Top