• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بصائر من سورة الانشراح

السيد محمد الهاشمي

بصائر من سورة الانشراح
◄(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الإنشراح/ 1-5) هذه السورة المباركة "سورة الانشراح" توحي بوجود ضائقة المت برسول الله (ص). ووجود الضائقة في حياة كل إنسان وخصوصاً الذين يعملون في سبيل الله ليس بعزيز. ضع يدك على أي إنسان، وإن كان عادياً لا دور له في الحياة تجده يعاني من مشكلة أياً كانت. ولا يخلو إنسان في هذه الحياة من مشكلة. فكيف إذا كان الإنسان هدفياً؟ لأنّ الإنسان العادي لا يتحمل إلا مسؤولية نفسه، بينما الهدفي يتحمل مسؤولية نفسه أوّلاً ويتحمل ثانياً مشاكل المجتمع الذي يريد توجيهه. والسياسي أيضاً له مشاكله الاجتماعية. ولكن السياسة ترتبط بالدنيا فقط. والمسلم الهدفي مرتبط بدين الناس ودنياهم. ما العمل إذن تجاه هذه المصاعب؟ نحن هنا لسنا بصدد ما لاقاه النبي (ص) من المصاعب، ولكن إحدى المصاعب التي واجهها النبي (ص) هي الإهانة الاجتماعية ولا يعرف مرارتها إلا من ذاقها ولمسها بنفسه، والإهانة لا تبارح مخيلة الإنسان وإن طال به الأمد. فالنبي (ص) مثلاً على عظمته يأتي إليه ذلك المشرك وهو ساجد فيضع رجله على عنقه ويضغط حتى يكاد النبي (ص) أن يختنق، وعندما رفع رجله كان وجه النبي (ص) قد إسود. أو ذلك الشخص الذي يلقي بسلا الشاة عليه. هذه السورة نزلت في هذا الجو، ولعلاج هذه المشكلة.. والناس تجاه المشاكل ينقسمون إلى أربعة أقسام: 1- الناس الضيقو الصدر: وهم كالإناء الصغير الذي يمتليء بقليل من الماء، عكس الإناء الكبير، وينهارون أمام أصغر المشاكل التي تواجههم، وتجده يصاب بالحمى إزاء كلمة بذيئة وجهت إليه ولا يستطيع النوم. 2- المتصبرون: وهم الذين يلاقون المشاكل دون أن تبدو على محياهم ولكنهم يعيشون في داخلهم اضطراباً عنيفاً. 3- الصابرون لأمد: وهم الصابرون حقيقة ويتلقون المشاكل بصدر رحب ولكن يحدد لنفسه امداً لهذا الصبر ينفجر بعده. 4- الصابرون بلا حدود: وهم الذين يتحملون المشاكل مهما بلغت ومهما اشتدت بهم. وهذا هو المطلوب إسلامياً. وثمة حقيقة انّ الجزع لا يفيد الإنسان بشيء ولا يعود عليه بأي نفع. روى سماعة بن مهران عن أبي الحسن الكاظم (ع) قال لي: ما حبسك عن الحج؟ قلت: جعلت فداك وقع عليّ دين كثير وذهب مالي وديني الذي لزمني هو أعظم من ذهاب مالي. فقال (ع): أن تصبر تغتبط وإلا تصبر ينفذ الله مقاديره راضياً كنت أو كارهاً. وثمة مسئلة يجد فيها الإنسان العزاء وهي الأمل. قال الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. روي أنّ كسرى الملك الذي ولد النبي (ص) في زمنه غضب على وزيره بوذر جمهر فألقاه في السجن وصفده في الأغلال، ثمّ أرسل من يستطلع حاله، فلما رآه وجده منتعشاً لا يبدو عليه انزعاج ما، فلما استنكر حاله قال: استعنت على حالي بخمس وصايا اقنعت بها نفسي 1- الثقة بالله. 2- ما قدر كائن. 3- اني لا اعين على نفسي بزيادة الهم والغم والحزن. 4- ربما يكون ثمة من هو أسوء حالاً مني فأتأسى به. 5- كل شدة بعدها فرج. فذهب واخبر كسرى بذلك فأعجب به وأطلق سراحه وأعاده إلى ما كان عليه.. (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) يا رسول الله. وشرح الصدر توسعته وجعله رحباً، مستوعباً للمشاكل. (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) الوزر هو الحمل الثقيل وذلك بارتفاع ما مضى عنك. (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) انقض بمعنى كسر من الحمل الثقيل الذي يكسر ظهر الإنسان. فإذا حمل الإنسان شيئاً فوق طاقته تعرض ظهره للكسر. (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) بجعل اسمك عالياً. أليس ذلك منتهى العظمة بأن يقرن الله اسم عبدٍ من عباده مع اسمه؟ (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) والتأكيدات التي تحتويها الآية كـ(إنّ) والجملة الاسمية وفي الحديث انّ أيوب بعد أن لاقى ما لاقى، كان نائماً ذات يوم قالت له زوجته: ألا تدعوا الله أن يفرج عنا ما نحن فيه، فقال أيوب: ما انصفت. كنا في الرخاء سبعين سنة، فليمض سبعون أخرى في الشدة لأدعو الله بالفرج. (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) وهذا تأكيد ثان وهنا ملاحظتان حول الآية: 1- العسر معرف في الآية واليسر منكر: يقول البلاغيون: إذا قلت: اشتريت فرساً ثمّ بعت الفرس، فالفرس الثاني هو عين الفرس المذكور أوّلاً بينما إذا قلت: اشتريت فرساً ثمّ بعت فرساً، يعني انك بعت فرساً آخر. فالعسر في هاتين الآيتين معرف واليسر منكر بمعنى انّ العسر متحدد واليسر متكرر، ومهما امتدت فترة العسر فنسبة العسر إلى اليسر نسبة النصف على أقل تقدير، بل دون النصف.. 2- كلمة مع.. فمع تدل على المعية، كما تقول جاء زيد مع عمرو، بمعنى انّ الفاصلة بينهما قريبة، فإذا جاء زيد بعد قليل من مجيء عمرو تقول أيضاً: جاء زيد مع عمرو. فإذن، حتى أعوص المشاكل ستزول بقليل من الصبر والتوكل. وعلماؤنا السابقون لاقوا كثيراً من المصاعب، وكلها تحملوها في سبيل الله، ويكفي انّ أحد كبار العلماء كانت عائلته تسكن في مسجد الكوفة، إذ لم يكن له مسكن يأوي إليه، وذلك لضيق ذات اليد، ولكنه أصبح فيما بعد المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم. فلابدّ لمن يسير في خط الله من الصبر والتحمل في ذات الله. وقال أحدهم: دخلنا على امرأة في الصحراء واسمها (أم عقيل) فقالت: انتظروا حتى يقدم ابني لضيافتكم، وبعد قليل رأت من بعيد راكباً مقبلاً عليهم. قالت: إنّ هذا الجمل جمل ابني ولكن الراكب ليس هو فلما وصل إليها قال لها: آجرك الله يا فلانه، إنّ ابنك قد ازدحمت عليه الإبل فأوقعته في البئر، فمات فيها، فقالت: إنزل وأدحق الضيافة واذبح هذه الناقة. فطبختها واعطتها إياهم. ثمّ قالت: هل تقرأون شيئاً من القرآن؟ قلت: نعم فقرأت: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157). فلما سمعت هذه الآيات قامت وصلت ركعات ثمّ رفعت يديها إلى السماء وقالت: اللّهمّ إني فعلت ما أمرتني فأنجزلي ما وعدت الصابرين ثمّ قالت: لو بقي أحد لأحد لبقي محمد لأمته. نسأل الله أن يشرح صدورنا وأن يوفقنا لما يحب ويرضى. المصدر: مجلة النبراس/ العدد الأول لسنة 1989م

ارسال التعليق

Top