• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

موسى (ع).. دروس وعبر

أ. د. أسعد السحمراني

موسى (ع).. دروس وعبر

موسى (ع)، كليم الرحمن، وهو نبيّ من الأنبياء أولي العزم (عليهم السلام)، وقد ورد في نصوص القرآن الكريم أكثر من خطاب لموسى (ع)، وجاء بلسانه ولسان مَن يدعوهم ويحاججهم أكثر من حوار قرآني، وفي كلّ حوار توجد الدروس والعبر التي يحتاج المؤمنون والدعاة والمصلحون إليها، وإلى ما ترشد إليه. وإذا كانت دعوة الأنبياء (عليهم السلام) تستهدف، بداية، المشركين والكفار كي تنقلهم إلى العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد، وتستهدف الظالمين والمفسدين لتأخذ على يدهم، وتوقف ظلمهم وإفسادهم وتنقذ المجتمع منهم. هذا ما كان مع موسى (ع) باتجاه فرعون الذي ادّعى الألوهية، والذي علا في الأرض، ومارس كلّ أنواع الظلم والإفساد.

النص الحواري في القرآن الكريم: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ).

(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ).

(قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ).

(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ).

(قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).

(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ).

(قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ).

(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ).

(قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ).

(قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).

(قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ).

(قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين).

(قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ).

(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).

(قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).

(قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ).

(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).

(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).

(قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 10-51).

هذا الحوار القرآني في سورة الشعراء هو واحد من كثير من الآيات الكريمة التي نزلت وحياً بشأن موسى (ع)، ورحلته الطويلة، من الولادة إلى النشأة والبلوغ، فالخروج إلى بني مدين وزواجه من ابنة شعيب (ع)، والعودة إلى مصر بعد الاصطفاء الإلهي له نبياً من أولي العزم، وقد جاءه أمر الله تعالى بأن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى هجر عقائده الفاسدة ولينتقل إلى التسليم لله تعالى والتزام عقيدة التوحيد.

لقد كان فرعون طاغية ويدّعي الألوهية، وكان عصره مشهوراً بوجود السحر وكثرة السحرة، فجعل الله تعالى معجزة موسى (ع) في عصا جلبها معه من عند شعيب (ع)، ولله في خلقه شؤون.

جمع فرعون السحرة من كلّ الأرجاء، واستعدوا للحظة الحاسمة. "فلما اجتمع السحرة والناس جاء موسى متكئاً على عصاه، ومعه أخوه هارون حتى أتيا المجتمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف قومه.. فتناجى السحرة فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر... فقالت السحرة: لنأتينك اليوم بسحر لم ترَ مثله، وقالوا: بعزّة فرعون إنا لنحن الغالبون. وكانوا قد جاءوا بالعصي والحبال يحملها ستون بعيراً، فلما أبوا إلّا إصراراً على السحر؛ قالوا لموسى: إما إن تُلقي، وإما أن نكون نحن الملقين؛ قال لهم موسى: بل أُلقوا أنتم حبالكم وعصيكم، فألقوا فإذا حيّات كأمثال الحبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً تَسعى".

أمام هذا الواقع أبلغ الله تعالى نبيه موسى (ع) بأن يلقي عصاه التي ستتحول إلى ثعبان ليس كمثله ثعبان. "فاستعرضت ما ألقت السحرة من حبالهم وعصيِّهم، وهي تخيل في أعين الناس وعين فرعون أنّها تسعى، فجعلت تلقفها وتبلعها واحداً واحداً حتى لم يرَ في الوادي لا قليلاً ولا كثيراً مما ألقوا، وانهزم قوم فرعون هاربين منقلبين، فتزاحموا وتضاغطوا... وانهزم فرعون فيمن انهزم متخوِّفاً مرعوباً... فلما انهزم الناس وعاين السحرة ما عاينوا، قالوا لبعضهم: لو كان ساحراً ما غلبنا، ولا خفي علينا أمره، ولو كان ساحراً فأين حبالنا وعصينا؟... وهم الذين آمنوا حين رأوا ما رأوا من سلطان الله تعالى".

تنقل الروايات أنّ رئيس السحرة كان أعمى، ولما أخبره السحرة بما جرى أمام أعينهم، قال: هذا ليس بسحر. فخرَّ ساجداً وتبعه السحرة.

تعوّد المتابع للحوارات القرآنية التي جاءت بلسان الأنبياء مع أقوامهم، أن تبدأ بالدعوة إلى عقيدة التوحيد، وإلى عبادة الله الواحد، لكن الخطاب الإلهي لموسى (ع) كان أن يتوجه إلى القوم الظالمين. والشّرك في حقيقته ظلم كبير للمشرك نفسه، ولكلّ مَن تبعه، والدليل قول الله تعالى الذي جاء بلسان لقمان في وعظه وتوجيهه لابنه، والآية: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13).

هؤلاء الظالمون هم فرعون ومَن تبعه، ففرعون، المعاصر لموسى (ع)، كان طاغية، وكان يدّعي الألوهية – والعياذ بالله تعالى – لكن موسى خاف أن يكذِّب القوم دعوته، وأن يرفضوا الاستجابة له، وحين ذلك قد ينفعل، ويضيق صدره بهم، وعند ذلك يعجز اللسان عن طرح الأمور بالشكل السليم والمناسب، ولكي يستطيع أداء مهمته الدعوية الرسالة دعا الله تعالى أن يؤازره أخوه هارون، فقد قيل: إنّ هارون كان ذا قدرة على التحمل، ولا ينفعل بشكل سريع. وهذا المطلب ورد في موقع آخر من النص القرآني وقول الله تعالى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (طه/ 29-32).

وكلّ شخص محتاج في أعماله ودعوته للمؤازرين، وبلسان موسى (ع): اشدد به أزري، لكن الله تعالى أمر موسى وهارون بأن يباشرا الدعوة، والله تعالى ناصرهم وناصر المؤمنين جميعاً، وإذا خافا من ظلم فرعون وعدوانه فعليهما أن يعلما بأنّ الله تعالى معهما ومع كلّ مبلغ لرسالات الله تعالى: (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).

وعندما ذهب موسى (ع) إلى فرعون "كان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين: أحدهما أن يرسل بني إسرائيل، ويزيل عنهم ذلّ العبودية والغلبة، والثاني أن يؤمن ويهتدي... وقول فرعون لموسى: ألم نربِّك؟ هو على جهة المنِّ عليه، والاحتقار؛ أي: ربّيناك صغيراً ولم نقتلك في جملة مَن قتلنا، ولبثت فينا سنين، فمتى كان هذا الذي تدّعيه؟".

ثمّ يُذكِّر فرعون موسى (ع) بقتل القبطي، وهو في ذلك يحاول الاعتراض على الدور الرسالي لموسى مرة بسبب هذا القتل، وأخرى باحتجاجه أنّ موسى معلوم عنده منذ طفولته، فكيف يدعو إلى غير ما عليه فرعون وقومه؟ وقوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الشعراء/ 19)؛ أي: وإنّك يا موسى قد جحدت فضلنا عليك، وحضانتنا لك، وسكوتنا عن قتل القبطي، وكلّ هذه ذرائع لا تقوم حجة أمام الدعوة إلى العقيدة السليمة وضرورة هجر الشرك وادِّعاء الألوهية من قبل فرعون.

كان رد موسى (ع) بأنّ قتل القبطي كان بسبب عدم علمي بأنّ وكزة ستقتله وقد فررت خوفاً من قتلكم لي، لكن كلّ ذلك لا يلغي ما تقوم به يا فرعون من الإذلال لقومي، وهذا لا يسمح لك أن تستعبد بني إسرائيل وتأخذهم بالسخرة عبيداً لك.

أمام هذا الرد والبيان اضطر فرعون إلى الذهاب بالحوار باتجاه القول الفصل، فجاء النص القرآني في هذا الحوار بلسانه: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)؟ بعد سؤال فرعون "أتى موسى (ع) بالصفات التي تبيِّن للسامع أنّه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السماوات والأرض، وهذه المجادلة من فرعون تدلُّ على أنّ موسى (ع) دعاه إلى التوحيد، فقال فرعون عن ذلك: (أَلا تَسْتَمِعُونَ)؟ على وجه الإغراء والتعجب من شنعة المقالة إذ كانت عقيدة القوم أنّ فرعون ربّهم ومعبودهم والفراعنة قبله كذلك... فزاد موسى في البيان بقوله: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).

إنّ الفرعون كان يدّعي الألوهية، ولذلك كان متوقعاً أن يرفض عقيدة التوحيد التي جاءه بها موسى، والتي ستقضي على سلطانه وعلى خضوع الناس له. وجواب موسى: (رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ) كان للبيان بأنّ الله تعالى ربّ العالمين، والربّ هو الخالق والمتصرف بالعباد، وهو سبحانه مالك العباد جميعاً، ولم يأتِ النص بلسان موسى: "إلهكم"؛ لأنّ الإله هو المعبود، وقوم فرعون يعبدون فرعون ولا يعبدون الله تعالى. وعلماء العقيدة يقولون عبارة تفيد في هذا المقام هي: "الله تعالى ربُّ العالمين وإله المؤمنين".

لقد عجز فرعون عن الجواب فكان ردُّه انفعالياً، وقد سبقه أو تبعه ضالون ومعاندون إليه، إنّه الحكم الانفعالي القائل عن نبي بأنّه مجنون.

لما وجد موسى أنّ فرعون قد أعياه البيان عن الرد، عمل على فتح آفاق الذهن والتفكير عند قوم فرعون طمعاً باهتداء بعضهم إذا حرّك فيهم الفكر والتفكر الفكرة السليمة، وكان ذلك من لفت أذهانهم إلى السماوات والأراضين وحركة الأرض حول الشمس وما يترتب على ذلك من شروق وغروب، ويحتاج الفهم السليم هنا إلى إعمال العقل – أكرم ما خلق الله تعالى – ولهذا كان في نص الحوار القرآني مع قوم فرعون: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران/ 118).

احتدمت ألفاظ الحوار، ومستوى الخطاب فيه، فلجأ فرعون إلى سلطته بدل الحجة والبرهان، فهدد موسى بالسجن، فكان رد موسى هو البرهان على نبوته من خلال المعجزة التي أيّده الله تعالى بها وهي عصاه التي تنوعت مجالات استخدامها، ولأنّ العصر كان قد عرف السحر والسحرة فقد استخدم موسى العصا لإفحام فرعون وسحرته، فألقاها فإذا العصا تتحول إلى ثعبان لم يرَ فرعون وقومه مثيلاً له من ذي قبل.

كان فرعون طاغية يخيف الناس بالسجن لكن موسى الذي طمأنه الله تعالى بالنصرة والتأييد لم يؤثر وعيد فرعون عليه، بل واجهه بأن يظهر له ما يؤيد نبوته. دفع الفضول فرعون إلى القول في هذا الحوار القرآني، وطلب من موسى أن يأتي ببيانه، فألقى العصا التي بيده ثمّ "نزع يده من جيبه فإذا هي تتلألأ كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى فرعون ذلك هاله، ولم يكن له فيه مدفع غير أنّه فزع إلى رميه بالسحر، وطمع لعلو علم السحر في ذلك الوقت وكثرته أن يكون فيه سبب لمقاومة موسى، فأوهم قومه وأتباعه أنّ موسى (ع) ساحر، ثمّ استشارهم في أمره وأغراهم به... فأشاروا عليه بتأخير أمره وأمر أخيه، وجمع السحرة لمقاومته. وروي أنّهم أشاروا بسجنه، وهو كان الإرجاء عندهم، والإرجاء التأخير، لم يشيروا بقتله لأنّ حجّته نيِّرة وضلالتهم في ربوبية فرعون مبيّنة فخشوا الفتنة، وطمعوا أن يغلب بحجة تقنع القوم".

قام فرعون بمحاولته الأخيرة، فجمع السحرة، ووعدهم بإغداق العطاء عليهم بعد أن تنجح حيلتهم وسحرهم في مواجهة العصا المعجزة التي مع موسى (ع). أمرهم فرعون بإلقاء عصيِّهم وظهرت كأنها أفاعٍ تتحرك، ولما ألقى موسى عصاه التقمت ما ألقوا من عصيٍّ وحبال وأفنتها في جوفها ولم تبقِ لها أثراً، فظهر كذب السحرة، وفضحت العصا المعجزة إفك السحرة، وأمام هذا البيان تحركت الفطرة في السحرة واهتدوا، فكان في الحوار القرآني قوله تعالى بلسانهم: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف/ 121).

إنّ مسار الحوار القرآني بين موسى (ع) وفرعون يبيّن أمراً مهماً للدعاة هو أنّ واجب الداعية الإلمام بعلوم العصر، وعلوم القوم الذين يستهدفهم بدعوته، وأن يحيط علماً بصناعاتهم وتقاليدهم لأنّ ذلك يمكِّنه من مقارعة الحجة بالحجة، ومن تقديم البرهان المنطلق من رحاب الإيمان، والذي سيكون أقوى مما يتقنونه، فيكون ذلك سبيل هداية لهم، كما حصل مع سحرة فرعون الذين قادتهم الفطرة، بعد تهافت حيلتهم، إلى الإيمان والعقيدة السليمة. وأمام الحجة البالغة لم يأبه السحرة بموقف فرعون ولا بوعيده، وهذا درس آخر للدعاة والمصلحين بأنّ عليهم ألّا يسلّموا بالأمر الواقع متذرعين بأنّ القوم يخضعون لطاغية أو يصنِّمون شخصاً ولا انفكاك لهم من ذلك، فحكاية سحرة فرعون في هذا الحوار القرآني من القصص القرآني الذي يفيد لطيفة مهمة لكلّ مصلح وداعية بأنّ واجبه أن يناظر ويجادل ويحاور محاولاً الإقناع والاستقطاب، وبعد ذلك يكون الرهان على فطر الناس وعقولهم.

لقد نفّذ فرعون وعيده وشرع في قتل السحرة انتقاماً لأنّهم فارقوا الضلال، واهتدوا إلى العقيدة السليمة حين استجابوا لما دعاهم إليه موسى (ع)، وقد ثبتوا على الدين الحقِّ، وجاء جوابهم بشكل ثابت لا تردُّد فيه (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) (الزخرف/ 14). لقد أكرمهم الله تعالى بالشهادة، حيث وفدوا إلى المجلس سحرة مشركين يؤلهون فرعون، وانتهوا موحِّدين شهداء منعّمين عند ربّ العالمين سبحانه، وكلّ رجائهم أن يقبل الله تعالى إيمانهم، وأن يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم، والمعلوم أنّ القاعدة هي: "الإسلام يجبُّ ما قبله".

إنّ هذا الحوار القرآني الذي جاء بلسان موسى وفرعون وقومه يبيّن أهمية الثبات على العقيدة والمبدأ أيّاً تكن الصعوبات، ويبيّن أهمية الإحاطة من قِبَل المصلح والداعية بالعلوم والصناعات وتقنيات العصر كي ينجح في دعوته، وأخيراً يبيّن هذا الحوار كيف أنّ المؤمن الحقّ لا يثنيه عن موقفه تهديد ولا وعيد، بل يكون عنده استعداد للتضحية مهما غلا الثمن ما دام ذلك في مرضاة الله تعالى، ومن أجل مواجهة الضلال، وفي سبيل مقاومة الظلم والعدوان.

 

المصدر: كتاب الحوار في الإسلام (آدابه وقواعده)

ارسال التعليق

Top