• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإعجاز الكامن في الأمعاء الدقيقة

د. محمد نبيل النشواتي

الإعجاز الكامن في الأمعاء الدقيقة

تبدأ الأمعاء الدقيقة من الاثنى عشر وتنتهي عند التقائها بالقولون على الناحية اليمنى من أسفل البطن. يبلغ طولها من (2،5-3) أمتار.
تقوم الأمعاء بنوعين من الحركة، أحدهما حييوية والأخرى حلقية، مهمتهما خلط الكيموس ودفعه باتِّجاه الشرج. تحدث هذه الحركات حوالى (12) مرة في الدقيقة. تمتد الحركة الحييوية من (3-5) سم ثم تتلاشى لتظهر عوضاً عنها حركات حييوية جديدة، وهكذا يتم دفع الطعام.
من هذا العرض نرى أن سرعة مرور الطعام أو الكيموس في لمعة الأمعاء بطيئة، وهي لا تزيد بشكل عام من (1-2) سم في الدقيقة الواحدة، وهذا يعني أن الرحلة ستستغرق من (3-5) ساعات حتى يعبر الكيموس الأمعاء الدقيقة.
تزداد حركة الأمعاء شدة بعد الطعام من خلال المنعكس المعدي المعوي الذي يبدأ عند امتلاء المعدة بالطعام. كما يحرِّض هذه الحركة هورمونات عدَّة كالغاسترين والكوليسيستوكينين التي تفرزها الأمعاء، أما السيكريتين والكلوكاغون فإنهما يثِّبطان هذه الحركة.
عندما يصل الطعام المهضوم إلى نهاية الأمعاء الدقيقة سيواجه الدسام البوهيمي الذي سيعترض سبيله، وسيؤخِّر عبوره ساعات عدة. لن تنفتح هذه البواية المغلقة إلاّ بعد تناول وجبة غذائية جديدة. عندها وبتأثير المنعكس المعدي- المعوي سينفتح هذا الدسام وستتسرّع حركة الأمعاء، وسيتمّ عبور الطعام إلى القولون.
لقد هيّأ الخالق الحكيم هذه الآلية الفذَّة لكي يعطي الأمعاء الدقيقة وقتاً كافياً لكي تمتصّ أكبر قدر ممكن من الطعام. ولولا هذا الدسّام لخرج الكيموس عبر الشرج بعد بضع ساعات من تناوله من دون أن يستفيد الجسم من كامل محتواه ومن دون أن يسدّ حاجاته الفسيولوجية من الأغذية.
من الوظائف الأخرى الهامة للدسّام المعوي- القولوني (البوهيمي) وقوفه حاجزاً وحارساً قوياً يمنع عودة البراز من القولون إلى الأمعاء الدقيقة.
ولكن يبقى هناك سؤال يطرح نفسه وبإلحاح: كيف تتمكّن الأمعاء الدقيقة التي لا يزيد طولها عن (2,5-3) أمتار وقطرها عن (2,5-3) سم أن تمتص كميات كبيرة من الأغذية تكفي لسدِّ حاجة الجسم بكافة أجهزته وأعضائه وعضلاته وخلاياه التي يزيد عددها عن المئة تريليون.
إذا أخذنا بعين الاعتبار طول الجسم وحجمه ووزنه لوجدنا أنه بحاجة إلى قناة هضمية يزيد طولها وقطرها آلاف المرات عمّا هي عليه في الواقع.
هذا ويجب أن لا ننسى أن مثل هذه الأمعاء ستحتاج إلى تجويف كبير وكبير جداً ليستوعبها، بينما تجويف بطن الإنسان صغير ولا يعيق حركاته وسكناته ونشاطاته أبداً.
لقد شاءت الحكمة الإلهية الفذَّة أن يبقى البطن صغيراً والأمعاء قصيرة ولكنها في الوقت ذاته تنجز مهام كثيرة وتمتص من الغذاء مليارات المليارات أكثر ممّا نتوقَّعه منها. فكيف يتم ذلك يا تُرَى؟!!..
لقد جعل الخالق الحكيم في بطانة الأمعاء المخاطية ثنيَّات وتعاريج كثيرة وكثيرة جداً لتزيد مساحة السطح الماص آلاف المرات.
ولو أخذنا خزعة صغيرة (عيِّنة من هذه البطانة بحجم رأس الدبوس وفحصناها تحت المُجْهِرَ بعد تكبيرها (6000) مرة أو أكثر فإننا سنفاجأ أنها غير مسطَّحة وأنها ليست ناعمة أو ملساء كما تبدو للعين المجرَّدة. سنجدها مؤلفة من امتدادات دقيقة جداً وغزيرة جداً تشبه الأصابع. تدعى هذه الامتدادات بالزغابات. تغطي هذه الزغابات الغشاء المخاطي بأكمله بشكل غزير ومكتظ (40 زغابة في الميلميتر المربع الواحد).
وبما أن سطح الزغابة أكبر وبكثير من سطح قاعدتها، لذا فإن المم2 الواحد من سطح الغشاء المخاطي سيتضاعف مئات آلاف المرات، فما بالك بالسطح الحقيقي للغشاء المخاطي الذي يبطِّن الأمعاء بأكملها؟!! إنه سيزداد مليارات المرات!! وفوق هذا وذاك فقد كسا ربّ العزة والجلال هذه الزغابات بشعيرات أو بأهداب دقيقة جداً طول الواحدة منها (1) ميكرون وقطرها (0,1) من الميكرون (الميكرون 1 من ألف من المم).
وبما أن هذه الأهداب نتوءات تبرز من جدار خلايا غشاء الأمعاء المخاطي المتخصِّص بالامتصاص، وبما أنَّها تقوم بالامتصاص بشكل فعَّال، لذا فإن سطح الزغابات والشعيرات (الأهداب) وبالتالي سطح الغشاء المخاطي سيزداد ازدياداً عظيماً مذهلاً، وبذلك تمكنت الأمعاء الصغيرة القصيرة من العمل بشكل دؤوب لتوفير احتياج الجسم من الأغذية المختلفة من دون كللٍ ولا نصب ومن دون أدنى خلل أو عصيان ومن دون أن تأخذ حيِّزاً كبيراً من الجسم فتعيق حركته ونشاطاته.
من الظواهر العجيبة لبطانة الأمعاء قدرتها الكبيرة على التكاثر واستنساخ نفسها بنفسها لتحلّ الخلايا الجديدة النشطة مكان الخلايا الهرمة أو المتعبة أو مكان التي أضحت تتقاعس عن العمل الذي يجب ألاَّ يتوقَّف.
ومن آيات الإعجاز الأخرى في هذه الخلايا قدرتها على الهجرة من قاعدة الزغابات، حيث يتمّ تصنيعها، إلى قمَّتها لتستقر في مكان الخلايا التالفة التي تمَّ إزالتها.
هل تقوم هذه الخلايا بهذه المهام العظيمة من نفسها؟ وهي التي لا تعقل ولا تدرك؟ تستنسخ الخلايا نفسها خلال (12) ساعة وتزحف لتصل إلى قاعدة الزغابة خلال (24) ساعة، ثم تستغرق من (3-7) أيام لتصل إلى قمتها. لدى مراقبة خلايا بطانة الأمعاء تحت المُجْهِرْ نجدها تتجدَّد باستمرار. إنها تتجدَّد لتبقى نشطة على الدوام فلا يصاب المرء لا بفقر الدم ولا بالضعف الغذائي ولا بفاقة الفيتامينات ولا بالأمراض ولا بنقص المناعة ولا بغير ذلك من الحالات المرضيَّة. فسبحان مالك الملك، وسبحان الذي خلق كل شيء فقدَّره تقديراً.
(.. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس/ 5).
بعد عبور بقايا الطعام إلى القولون الصاعد والمستعرض يتمّ امتصاص الماء والأملاح المعدنية المنحلَّة فيها وإعادتهما إلى الدورة الدموية للاستفادة منهما من جديد، وبذلك لن يبلغ القولون النازل والشرج والمستقيم إلاَّ (100-200) مل من المواد البرازية يومياً من أصل (1500) مل ماء ومواد غذائية تم تناولها في كل وجبة، مضافاً إليها (1000) مل لعاب و(1500) مل عصارة معديَّة و(1000) مل عصارة البنكرياس، و(1000) مل سائل صفراوي أفرزه الكبد ليشارك في عمليتيِّ الهضم والامتصاص.
ولكي يتسنَّى للنصف العلوي (الأيمن) للقولون إنجاز هذه المهمة فإنّه يحتبس ما يصله من بقايا الأغذية ويحافظ عليها في تجويفه من (8-15) ساعة، بعد أن تصل بقايا الطعام (البراز) إلى النصف الأخير من الأمعاء الغليظة تتسارع حركة الأخير وتشتدُّ تقلّصاته ليدفع بمحتواه باتّجاه المستقيم والشرج.
تشتدّ هذه الحركات الدافعة بعد وجبات الطعام، لذا يشعر المرء برغبة في تفريع أمعائه بعد الوجبات، وبعد الإفطار الصباحي بشكل خاص. تقوم بهذه الأعمال منعكسات عصبية تسيطر عليها شبكة أورباخ العصبية الموجودة في جدار المعدة والأمعاء الدقيقة والغليظة، كما تشارك في إنجازها الألياف العصبية الباراسيمبتاوية المتَّصلة بالنخاع الشوكي.

- آلية التغوّط:
لو كانت حركات القولون الدافعة تلقائية أو من دون سيطرة عصبية محيطية ومركزية فسيكون حال الإنسان كالحيوان يتبرَّز من دون إرادة ومن دون أدنى تحكُّم بمجرد وصول كتل البراز إلى القولون السيني والمستقيم الشرج.
ولكن الله كرَّمنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً. لقد أسبغ علينا نعماً كثيرة ظاهرة وباطنة. من هذه النعم العظيمة المعصِّرة الشرجيَّة القوية التي زوَّدنا بها لنتحكَّم من خلالها بعملية التغوُّط، فلا نتغوَّط أثناء اجتماع عمل ولا في السيارة ولا أثناء سعينا في الطرقات أو غير ذلك.
عندما يصل البراز إلى المستقيم ينطلق منعكس عصبيٌّ موضعيٌّ يصل بين الشبكة العصبية الموجودة في جدار المستقيم وندَّتها الموجودة في جدار النصف الأخير من الأمعاء الغليظة، فتشتدُّ حركات الأمعاء الحييوية الدافعة للبراز، وتصبح قوية، ونتيجة لذلك سيتراكم البراز في المستقيم قريباً من فوهة الشرج.
فإذا كانت الظروف مؤاتية، تسترخي المعصِّرة الشرجيّة بشكل إرادي، ثم تسترخي بشكل كامل عندما يبلغ المرء غرفة الحمام. عندئذ ستتدفَّق سيَّالة عصبية من جدار الشرج والمستقيم عبر العصب الحوضي الباراسيمبتاوي متوجِّهة إلى السلطات الدماغية العليا. بعد أن تقيِّم هذه السلطات الظروف المحيطة ترسل أوامرها إلى القولون مارَّة بالنخاع الشوكي.
فإذا كانت الظروف مؤاتية، ستحمل الألياف العصبيَّة البارسيمبتاوية الأوامر إلى النصف الأيسر (النهائي) من القولون والمستقيم ليتقلَّصا بشدة ليدفعا بمحتواهما إلى الخارج، وفي وقت متزامن مع هذا النشاط الحيوي ستسترخي عضلات المعصِّرة الشرجية الإرادية واللاإرادية فيندفع البراز نحو الخارج.
أمَّا إذا كانت الظروف غير ملائمة فإن السيَّالة العصبية الصادرة عن الدماغ ستكون مثِّبطة لحركة القولون والمستقيم فيسترخيان، كما ستزيد هذه التيارات العصبية من تقلُّص المعصِّرة الشرجية الإرادية واللاإرادية فتنغلق فوهة الشرج بقوة وبإحكام بالغين، وفي الوقت ذاته سيتلاشى منعكس التغوُّط نهائياً خلال بضع دقائق وسيبقى كذلك حتى انتهاء عمل الإنسان، وحتى تصبح ظروفه مؤاتية.
من هذا العرض السريع لهذه العملية الحيوية التي تبدو لعامة الناس عفوية وتتم ببساطة وتلقائية، نرى أنها على العكس من ذلك، فهي عملية معقَّدة تسيطر عليها شبكة عصبية دقيقة قدَّّرها الخالق الحكيم في جدار القناة الهضمية، وتتحكّم فيها المراكز العصبيّة الدماغية العليا وكذلك النخاع الشوكي والأعصاب الباراسيمبتاوية التابعة للجهاز العصبي النباتي والمنعكسات الموضعية وشبكتها العصبية وعضلات الشرج والمستقيم والبطن.
هل يمكن لهذه العمليات الحيوية الدقيقة أن تأتي على هذا النحو المتناسق بشكل عشوائي أو أن تظهر إلى الوجود نتيجة مصادفة بلهاء؟ وهل بإمكان الطبيعة أن توجد مثل هذا الخلق الفذّ من دون أن يقدِّره خالق حكيم عظيم لا حدود لعلمه وعظمته؟
إذا تأملت عزيزي القارئ في آلية المضغ والبلع وفي العمليات الحيوية المعقَّدة التي تقوم بها المعدة والاثنا عشر والأمعاء الدقيقة والبنكرياس وغدد اللعاب لكي تهضم الطعام، وإذا تأملت ما يجري في الكبد، ذلك العضو النبيل، وما يقوم به من أعمال مذهلة، وفي القولون وفي عملية التغوّط وفي المنعكسات العصبية التي تحكمها لسجدت خاشعاً أمام عظمة الخالق وحكمته وقدرته، وستؤمن بالله وكأنك تراه، وستؤمن بوجوده إيماناً يقينياً ثابتاً لأنك شاهدت بديع خلقه وآياته في دماغك وعينيك وفي فؤادك وأحشائك وفي كل خلية من خلايا جسمك.
أو أولئك الذين يفترون على الله الأكاذيب ثم يصدِّقونها، فإنهم جاحدون لوجوده وعظيم قدره وقدرته. وبما أن هؤلاء المادِّيين في مرية من لقاء ربهم، لذا تراهم يتشدقون بأكاذيبهم، وينمِّقونها ليزيدوا بريقها وافتتان ضعاف القلوب بها. لقد زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدَّهم عن السبيل، أولئك الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك هم وقود النار. لقد تمادوا في كفرهم وغيِّهم وفي تمرّدهم على الله، فأعماهم وأعمى بصيرتهم.
لا يغرّنك يا أخي تقلُّب هؤلاء الكفرة المارقين في البلاد، متاعهم في الدنيا قليل، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد:
(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (مريم/ 75-76).
لقد قال العليّ القدير فيهم:
(.. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ...) (النجم/ 23).
وقال جل جلاله:
(.. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ...) (الأنعام/ 148)، ويخرصون: يكذبون.

المصدر: كتاب الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان

ارسال التعليق

Top